عزت القمحاوي
2011-11-11
درس العزلة
تنجح
ثورة، أو تبدو كما لو كانت قد نجحت؛ فيتحدث فرقاؤها عن 'ضمانات المستقبل'
وترتيبات الوضع الجديد: كيف سيكون شكل الدولة؟ مدنية؟ دينية؟ مفبركة من
اللونين. وينسون الضمانة الوحيدة والإجراء الوحيد الذي قد يبدو صائبا، وهو
فرض اختبار العزلة على كل من يرغب في ممارسة العمل السياسي.
كيف سيبدو
في مكان منعزل عن العالم، كيف سيتصرف عندما يكون غير مرئي، وكأنه ليس
موجودا أو كأن العالم ليس موجودا. هل سينظر في ساعته انتظارا لنشرة أخبار؟
هل سيعبث في الكمبيوتر بحثا عن نفسه أو عن الآخرين؟ كيف سيبدو انسجامه مع
نفسه وهو غير معروف؟
إن ضاق المقبل على السياسة بطعامه الواحد وبشقشقة
الدوري في استقبال الصباح وصيحات النوارس في وداع الشمس يكون قد سقط في
اختبار العزلة وينبغي عزله عن السياسة حتى الموت كما تعزل الكلاب المسعورة.
ضمانات العصابات
ضمانات
المتطلعين إلى المستقبل لا تخرج في مجملها عن الخوف من أن تأكل جماعة حقوق
جماعات أخرى، باسم الإله المتعالي غير المرئي في السماء أو باسم الإله
المتعالي غير المرئي في الدبابة.
الموشكون على الرحيل يطلبون بدورهم الضمانات. يريدون أن يتحكموا كالرجال في مستقبل بلاد نهشوها كالكلاب.
زين
العابدين كان الأذكى بين عصابات الحكم؛ طلب المعقول فناله: أن ينجو ببدنه.
مبارك المراوغ طلب الأصعب: أن يعيش ويموت في مصر، وهو موقن تماما أنه ترك
وراءه عصابة ليست بالضعيفة وأنها ستضمن حياته، وإن لم تعده إلى سرير الحكم؛
فستضمن لجثته الطيوب والعطور عندما تسأم الحياة منه.
القذافي كان
موقنا بأن الإله لا ينبغي له أن يطلب من البشر، ولم يكتشف معدنه البشري إلا
لحظة تصفيته، وهو اكتشاف عديم النفع. كيف ينتفع الوحش بدرس تلقاه في
اللحظة الأخيرة؟!
عارض الأزياء لم يرحل إلا بعد أن ترك الجنون لعلي
عبدالله صالح، يهدد الثوار بأصابع محروقة، ويطلب ضمانة من أعجب الضمانات:
أن يشترك ابنه في الحكم؛ أي أن يكون اليمن الثائر مثل اليمن النائم في
قبوله بتوريث البلاد!
هل هذه ثورة أم نزهة في وادي الموت خرج إليها اليمنيون حبا في الموت؟!
الفرد يبدع ثورته
الجماعات
طالبة الضمانات والضمانات المضادة تنسى وجود الفرد، الذي هو أصل ثورات
الربيع العربي. وأصل كل ثورة في الحقيقة؛ فالثورة يصنعها الفرد على الرغم
من أنها تكتسب بهاءها من حجم الحشد. والانقلاب هو الجماعة على الرغم من أنه
يبدو صغيرا ويقوده فرد يقود البلاد غالبا إلى الجحيم.
هذا النقص المروع
في الإدراك بين المتفاوضين هو جوهر مآسي الثورات العربية. الشارع يهدر
برغبات الفرد الجديد وأحلامه والمفاوضات تجري بين 'جماعة انقلاب' تحكم
بالسلاح و'جماعة' معارضة محكومة هي الأخرى بذهنية الانقلاب، سواء تسمت باسم
'أحزاب المعارضة' أو 'اللقاء المشترك' أو 'المجلس الوطني' ولا يمكن لحوار
بين العصابات أن يرضي حشود الأفراد المنتفضة التي تواصل إبداع ثوراتها
وتوشك أن تصرخ في هؤلاء وهؤلاء: من أنتم؟!
ستقولها الثورات عاقلة ومؤمنة بقيمة شهدائها لا هاذية كالقذافي عندما قالها للثوار.
تحورات الكائن
من
بين كل بلاد العرب، توجد قلة من البلدان يمكن الحديث فيها عن جسم ثقافي،
بمعنى وجود عدد من محترفي التفكير والإبداع يصلح لتسميته مجتمعا له تقاليده
وقوته. في الصدارة يفكر المرء بمصر وسورية والمغرب.
المثقف السوري لم
يتواجد في صفوف الثوار بالحجم الذي بدا في الثورة المصرية، لم يقف في
الشارع أو يقود مظاهرة، والفرق في البنية بين العصابتين الحاكمتين يشفع هذا
النقص الثقافي السوري.
فماذا عن الدعم المعنوي الذي ينتظره الثوار وينتظره دم الشهداء من الكتابات والاجتماعات المتكررة لجماعات المعارضة الفارة ببدنها؟!
لا
شيء أكثر من البلاغة المرهقة التي تحتاج إلى صفاء وقت السلم، وغالبا لن
تكون مفهومة. من العادي أن تتطبع الضحية بطبع الجلاد وأن يتعلم المعارض
فنون الإنشاء والمماحكة اللغوية من نظام عاش عقودا على تلك الإنشاء
البغيضة، بوصفه الممثل للقومية العربية والممانعة ضد مشروعات الاستعمار.
لكن النظام طور من آلياته، وتخلى عن الإنشاء منذ اللحظة الأولى عندما
اعترف صراحة بأن أمن إسرائيل مرهون بوجوده. وها هو يتبنى بلاغة الفعل على
الأرض، بينما يواصل الضحايا العيش في اللغة على طاولات الحوار.
الضمانة
الوحيدة التي يطلبها النظام السوري الآن هي إبادة السوريين جميعا. ضمانة لا
تنتظر موافقة أحد لأنه يطلبها من يده، بينما تطلب جماعات المعارضة
الضمانات من بعضها البعض