كتسب الحوار حول الديمقراطية والشريعة
الإسلامية بعض الحرارة والتحفّز مع نشوء النظام
العالمي الجديد، وبالتساوق مع أحداث الحادي عشر من
سبتمبر. ورغم ذلك، يلاحظ أن هذا الحوار لم يرْقَ
إلى مستوى خطورة تلك الأحداث، فظل حواراً تابعاً
-في غالب الأحيان- للتحولات والتطورات السياسية
والاقتصادية. وظهر ذلك في معظم تجليات المواقف
المتدفقة، وخصوصاً على صعيد الثنائية الأيديولوجية
التي قدمها الرئيس بوش في معمعان الصراع العسكري
والاقتصادي والاستراتيجي: نعني ثنائية الديمقراطية
والإرهاب. وبعد عدد من الإثارات والسجالات
والتحرشات، التي تحدرت من مرجعيات أيديولوجية
غربية (وكان ما قدمه بابا الكاثوليك الفاتيكاني
مؤخراً، مؤشراً على ذلك)، نلاحظ أن القضية المعنية
إياها لم تعد تفرض نفسها على صعيد تلك الإثارات...
الخ فحسب، وإنما هي تقفز بين الحين والآخر إلى
الواجهة مع الحضور الإسلامي السياسي في العالم
العربي والإسلامي الملحوظ بوضوح أولاً، ومع بروز
مشكلات سياسية ودستورية وكذلك قضائية في بعض
البلدان العربية ذات التوجه الإسلامي ثانياً. وفي
كل الأحوال، تبقى هذه القضية -مع قضايا أخرى- تمثل
حالة مفتوحة وراهنة، بقدر ما يرتفع صوت الإصلاح
الوطني الديمقراطي في بلدان العالم العربي،
وخصوصاً في وجهه المتصل بالإصلاح الدستوري،
وبقانون الأحزاب والمشاركة السياسية
وغيرها.
وقد أخذت تظهر في الإعلام المقروء، المغربي
والمصري مثلاً، كتابات تقارب قضية الديمقراطية
والشريعة، في خصائصها البنيوية وتجلياتها
الوظيفية، كما في التوجهات المنهجية التي تطرحها.
ويزداد الموقف تعقيداً، حين يتدخل الغرب -في بعض
بلدانه وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية- في
مساره (أي الموقف)، بحيث يصل الأمر فيه إلى درجة
التدخل المباشر فيه. ونعلم أن ذلك أفصح عن نفسه
خصوصاً في حقلين اثنين، كان الأول منهما قد تمثل
في دعوة أوساط ثقافية غربية لإبعاد الآيات
القرآنية، التي تتعارض -وفق ذلك- مع استراتيجية
السلام المناهضة للإرهاب. ولقيت هذه الدعوة دعماً
كبيراً من جانب القيادة السياسية والأيديولوجية
(الدينية) الإسرائيلية. أما الحقل الثاني، فقد
تجلَّى في المسائل والمناهج التربوية، في المدارس
العربية، كما في المجتمعات العربية عموماً، وذلك
بصيغة المطالبة بتغيير جذري لهذه المناهج، بحيث
تصبح خالية من أية أفكار تحفز "الإرهاب" وتشجع
عليه.
جاء ذلك كله في سياق ما أتينا عليه من أحداث
كبرى وصغرى طالت الثقافة العربية، في وجهها
الإسلامي خصوصاً، وأتت بعض الردود على ذلك بصيغة
العلاقة بين الشريعة الإسلامية وبين الديمقراطية
والدولة والإصلاح الدستوري والعلم والعقل
والعلمانية، وكذلك بصيغة العلاقة بين هذا كله وبين
المجموعات غير المسلمة في العالم العربي. وقد ظهر
اتجاهان اثنان على صعيد العلاقة الأولى (بين
الشريعة والديمقراطية). وفي سياق السجال بل الصراع
بين هذين الأخيرين، تبلورت وتتبلور معالم اتجاه
ثالث قد يكون بمثابة تجاوز لذينك الاتجاهين وإعادة
بناءٍ لهما لصالح موقف يكون الأقرب إلى الحقيقة.
أما الاتجاه الأول فيتأسس على القول بتقابل قطعي
بين الديمقراطية والشريعة، في حين يفصح الاتجاه
الثاني عن نفسه بصيغة المماهاة بين هذين
الطرفين.
فعلى الصعيد الأول، تُبرز الديمقراطية بمثابتها
مغايرة للشريعة الإسلامية بمعنيين اثنين، بنيوي
وتاريخي. فهي -في بنيتها- مغايرة ومناقضة للشريعة،
خصوصاً في مبادئ التعددية والتداول السلمي للسلطة
والحرية في الخيارات السياسية. أما بالاعتبار
التاريخي، فتظهر الديمقراطية خلالها كونها منظومة
القيم السياسية والثقافية، التي انبثقت من المجتمع
الحديث (البورجوازي الغربي)، وكرّسته تكريساً أفضى
إلى عدة نقلات تاريخية كبرى، منها النهضة والأنوار
والثورة الصناعية والتكنولوجية، مما يعني أن
الحامل التاريخي للديمقراطية تمثل في "العصور
الحديثة". وعلى العكس من ذلك، يرى أصحاب الاتجاه
الثاني أن الشريعة الإسلامية مثلت الحاضنة الأولى
لتلك، أي الديمقراطية. ومن ثم، فإن كلاماً على
اختلاف بينهما إنما هو كلام في الدرجة وليس في
البنية الأساسية. وهكذا، يقول هؤلاء إننا نحن
الذين أنتجنا الديمقراطية في تاريخنا الإسلامي
الباكر، وإننا -من ثم- مكتفون بما عندنا، أو
بالأحرى نستعيد بضاعتنا التي صدرناها
للآخرين.
ها هنا، يبرز الاتجاه الثالث، وينطلق أصحابه من
ضرورة النظر إلى القضية في سياقها التاريخي، الذي
لا يسمح بالأخذ بقطيعة بين الاتجاهين المذكورين
ولا بتماهٍ بينهما، وإنما ينظر إلى الثاني على أنه
تجاوز جدلي للاتجاه الأول، وذلك بمعنى أن
الديمقراطية تتبنى وتستلهم كل العناصر الشريعة
القابلة للاستمرار العصري، كما تقطع مع ما لا يحقق
ذلك من العناصر الأخرى. وفي هذه الحال، يصح
الاستشهاد على ذلك بما قاله أحد المنظِّرين
للشريعة الإسلامية على نحو عقلاني، وهو ابن عقيل
الحنبلي. قال: إن الشريعة هي التعبير عمّا يكون
البشر عليه من قُرب من الصلاح وبُعد عن
الفساد.