كنا زميلين ولم نكن صديقين.
ثم صرنا صديقين بدون أن نكفّ عن أن نكون زميلين، وهذا قبل أن تتطوّر
بيننا تلك العلاقة الغريبة التي تمثّلت بزهاء ربع قرن من الحوار اللاحواريّ
منذ شرعت بالإعداد للجزء الآوّل من مشروع "نقد نقد العقل العربي" ردّاً
على مشروعه الرائد في "نقد العقل العربي".
ذلك أنّي التقيته، أوّل ما التقيته، على مقاعد الدراسة في جامعة دمشق في
قسم الثقافة العامة الذي يجمع جميع طلاب كلية الآداب من لغة وتربية وفلسفة.
كان ذلك سنة 1959 يوم كان كلانا طالباً يجمعنا درس مشترك هو ذاك
الذي يعطيه كبير أساتذة اللغة العربية الذي كانه سعيد الأفغاني.
لا أذكر أنّه في سنوات الدراسة تلك وقع بيننا أيّ صدام، ولا كذلك أيّ تفاهم.
كنّا زميلين، ولم نكن صديقين.
وكان بيننا ضرب من تنافس مكتوم، أو على الأقلّ هذا ما صارحني به يوم صرنا
صديقين : تنافس لا على الأولوية في الصفّ، فقد كنّا كلانا من المتفوّقين،
بل على الشعبية لدى البنات في الصفّ : فقد كان خجولاً بقدر ما كنت أميل
بالأحرى لى الجرأة. .
ثم انقطعت بيننا الأيام، عشرين عاماً أو حتى أكثر. لست أدري ما فعل، وما
درى هو ما فعلت. كلّ ما هنالك أنّي وجدت نفسي ابتداء من عام 1972 رئيساً
لتحرير مجلة"دراسات عربية" الشهرية التي كانت تصدر عن دار الطليعة في
بيروت. ووجدته يبعث إليّ بأكثر من دراسة فنشرتها بلا أيّ تردد لما فيها من
تميّز في المنهج كما في المداورة المعقلنة للغة العربية.
ولكنّ المفاجأة الكبرى كانت في عام 1984. فيومئذ أرسل إلى دار الطليعة
كتاباً برسم النشر هو المجلّد الآوّل من مشروعه لنقد العقل العربي : تكوين
العقل العربي.
وبهدف نشر فصل من الكتاب في المجلة قرأت بضعة فصول من المخطوط ، وسارعت
أبلغ بشير الداعوق، صاحب الدار، بأنّ ما قرأته هو من أروع ما قرأت في حقل
الدراسات التراثية. وأذكر أنّي قلت له :هذا باحث ذو مستوى أوروبي، وليس محض
باحث عربي.
وشاءت الصدف أن أقرّر في ذلك العام نفسه الرحيل عن بيروت التي هي أحبّ مدن
العالم الى نفسي . كان ذلك في الربع الآخير من عام 1984، وكنت تعبت كلّ
التعب من تلك الحرب الأهلية اللبنانية التي لا ناقة لي فيها - وأنا السوريّ
– ولا جمل.
شددت الرحال الى باريس حيث كنت سأصدر، مع الراحلين إلياس مرقص ومحيي الدين
صبحي، مجلة "الوحدة". وباستثناء حقيبة الملابس فإنّي لم أحمل معي في
الطائرة من بيروت الى باريس سوى كتاب "تكوين العقل العربي" الذي كان خرج
لتوّه من المطبعة في بيروت. قرأته في الطائرة، ثمّ عاودت قراءته لاحقاً
مرّتين على التوالي.
ولا أكتم أنّ "انئخاذي" بالإشكاليات المصاغة بين دفتيه قام لي في حينه،
وإلى حدّ غير قليل، مقام الترياق من قلق الهجرة والإقامة المستجدة في دار
الغربة.
وعلى صفحات مجلة "الوحدة" استقبلت الجابري في أوّل لقاء بعد أكثر من عشرين
عاماً من الانقطاع. ثمّ استقبلته أيضاً في بيتي على العشاء في الضاحية
الباريسية. وليلتئذ، ونحن نتناول قدحاً من الوسكي، صارحني بأنّه
يعاني من مشكلة في القلب. ولم أتردّد بدوري في أن أصارحه بأنّي أعاني من
مشكلة مماثلة. ثمّ انقطعت العلاقات بيننا . انقطعت ودّياً كما انقطعت
فكرياً. ذلك أنّ خيبة كبيرة شقّت طريقها الى عقلي كما الى قلبي.
فعلى صفحات مجلة "الوحدة" دوماً كنت كتبت مقالة عن كتابه تكوين العقل
العربي قلت فيها بالحرف الواحد : هذا كتاب لا يثقّف فحسب، بل يغيّر أيضاً،
فمن يقرؤه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه.
ولأقل، بلغة فرويدية، إني رفعت ذلك الأخ الذي صاره الجابري الى مرتبة أب مثاليّ.
وهي بكلّ تأكيد مرتبة كان يستأهلها بقدر ما أنّه أخذ بيدي، من خلال قراءتي
لـ"تكوين العقل العربي"، ثمّ لـ"بنية العقل العربي"، إلى إنجاز نقلة، بل
قطيعة، من الايديولوجيا الى الابستمولوجيا.
فأنا الماركسيّ السابق، والقوميّ العربيّ الأسبق، والفرويديّ المنزع
لاحقاً، وجدتني على حين فجأة أمارس هوايتي شبه القهرية في تنحية آبائي بعد
أن أكون قد أمثلْتهم.
هذا ما فعلته مع ميشيل عفلق، بعد أن كان أبي المؤلّه، في يوم انتقالي من
القومية العربية إلى الماركسية. وهذا ما فعلته مع سارتر، ومع ماركس ولينين،
في طور انعتاقي من الايديولوجيا الماركسية. وهذا ما كدت سأفعله مع فرويد
نفسه بعد طول إقامتي في قصر وسجن التحليل النفسي.
ولكن مع الجابري كانت جريمة قتل الآب المؤمثل من طبيعة مغايرة. فقد شاءت
الصدفة –والصدفة وحدها – أن أكتشف أنّ هذا الأخ، الذي أردته بكلّ وعيي أخاً
كبيرأً، لن يستطيع أن يقوم لي هو الآخر مقام الأب المؤمثل، لا لأنّه في
مثل سنّي، بل لخلاف معه حول طبيعة الفردوس الذي أدخلني اليه :
الإبستمولوجيا.
ففي الوقت الذي أدين له بقسط كبير من تحوّلي من الايديولوجيا الى
الابستمولوجيا، اكتشفت على حين غرّة أنّ ممارسته للإبستمولوجيا بالذات هي
إيديولوجية، أو محكومة على الأقلّ باعتبارات ايديولوجية.
ولن أدخل هنا في التفاصيل. حسبي أن أشير الى موقفه من العلمانية. فعلى
صفحات "اليوم السابع"، الناطقة في حينه باسم الحركة الوطنية الفلسطينية،
وفي حواره متعدّد الحلقات مع حسن حنفي، أطلق مقولته الشهيرة : العلمانية
فصل الدولة عن الكنيسة؛ والحال أنّه ليس في الإسلام كنيسة، إذاً فالعلمانية
لا لزوم لها في الإسلام.
يومئذ اكتشفت أنّ الإبستمولوجيا المنطوق بها يمكن أن تخفي إيديولوجيا مسكوتاً عنها.
فتعريف العلمانية بأنّها فصل الكنيسة، لا الدين، عن الدولة كان يخفي
موقفاً مسبقاً. فصحيح أنه ليس في الإسلام كنيسة – اللهم إلا في الإسلام
الشيعي –ولكن الإسلام، على الأقلّ في الشكل التاريخي الذي تجلى به، هو مثال
ناجز لدين لا يفصل بين شؤون الدنيا والآخرة.وحصر العلمانية بكفّ يد
الكنيسة، دون الدين، عن التدخل في شؤون الدولة معناه إبقاء حدود الدولة
مفتوحة أمام ذلك الدين الذي لا كنيسة فيه الذي هو الإسلام.
وحتى أطروحة كهذه كان يمكن أن تبقى من طبيعة إبستمولوجية لولا أنها تواقتت
مع صعود الموجة الأصولية الإسلامية التي اعتقد الجابري أنه مستطيع لجمها
أو الالتفاف على خطابها عن طريق التكلم بمثل لغتها إن دعت الضرورة، ولو من
منظور تكتيكي.
وعلى هذا النحو تباعدت الشقّة بيني وبين ذلك الأخ الكبير الذي كانه الجابري والذي كنت رشّحته بيني وبين نفسي لأن يكون أباً مؤمثلاً.
واليوم، إذ يسبقني الى الرحيل، فإنّي لا أملك إلا أن أعترف بمديونيتي له :
فهو لم يساعدني فقط على الانعتاق من الايديولوجي الذي كنته، بل كانت له
اليد الطولى، ولو من خلال المناقضة ونقد النقد، على إعادة بناء ثقافتي
التراثية.
والتراث هو المحلّ الهندسي لكلّ معركتنا اليوم. فالموقف من التراث ومن نقد
التراث وإعادة بناء التراث – ونحن أمّة تراثية بامتياز - هو ما سيحدّد
موقعنا في التاريخ والجغرافية البشريين : أاندفاعة نحو الحداثة أم الانكفاء
نحو قرون وسطى جديدة؟