الحقيقة والشريعة عند ابن رشد بقلم د. أحمد برقاوي ليس ابن رشد بغائب عنا هذه الأيام، بل قل إنه أكثر حضوراً في آننا من زمانه.
وآية
ذلك أن قضية العقل والنقل أو الحقيقة والشريعة أو النص والتأويل قد عادت
للظهور ولكن في حقلٍ أوسع من ذلك الذي تحركت به قديماً. والمندرجون في
المعركة هم أكثر عدداً من ذي قبل، والبعد السياسي للقضية يضفي عليها صبغة
ايديولوجية عملية. وأدوات البحث فيها قد تعددت واغتنت بمنجزات مناهج البحث
في العلوم الإنسانية.
أجل عشرة قرون تفصلنا عن ابن رشد. عشرة قرون لم تحل دون عودة دلالة "فصل المقال" إلى الظهور مرة أخرى.
وإذا
كنا ننشغل بمشكلة العلاقة بين الحقيقة والشريعة الآن فهذا ليس من قبيل
الترف الفلسفي. أو من قبيل النزوع الأكاديمي لدراسة تاريخ الفلسفة، بل هو
انشغال بمشكلة راهنة جداً وهذا لعمري هو الذي يعطي للنظر في ابن رشد
المعنى.
وإذا كان البعض من الدارسين لابن رشد قد انشغل بميتافيزيقاه
والبحث فيها عن نسق فلسفي مادي ليعزز فكرة مسبقة لديه حول العلاقة بين
المادة والوعي، فإن عدم الوقوف عند ما هو أصيل في فلسفة ابن رشد - وأقصد
قضية العقل والنقل- قد حال بين الفكر العربي وبين النظر في المشكلات
المعيشة وإغنائها.
وإن ما نطمح إليه في مقالنا المتواضع هذا هو
استعادة التجربة الرشدية على ما هي عليه، تجربة حرية العقل والإنسان في
التجول في عالم النص والحقيقة. دون أية أفكارٍ مسبقة نسعى لتفصيل ابن رشد
على قدها.
فأين تكمن أصالة التجربة الرشدية.
عاش ابن رشد محنة الفيلسوف العقلي وكتب أبو الحسين من وحي المحنة في حق ابن رشد قائلاً:
لم تلزم الرشد يا بن رشدٍ لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياءٍ ما هكذا كان فيه جدك.(1)
ما الذي كان يقصده أبو الحسين من أن ابن رشد لم يلزم "الرشد"؟ وأنه كان ذا رياءٍ في الدين؟
إن عدم التزام ابن رشد بالرشد يعني مخالفته للشريعة ورياء ابن رشد بالدين لا يعني سوى التحايل على النص للدخول عبره إلى الفلسفة.
ولست هنا ملزماً بالدفاع عن ابن رشد ولا بتأكيد التزامه بالدين.
بل إن ما رآه أبو الحسين غياباً للرشد ورياءً في الدين هو بالذات ما نراه انحيازاً للفلسفة وللحكمة والعقل عند ابن رشد.
فمن هو ابن رشد؟
ولد
ابن رشد في قرطبة سنة 1126م، أخذ العلوم الفقهية عن أبي قاسم وأبي مروان
بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز. وكان هؤلاء أهم فقهاء
عصرهم. وتتلمذ بالطب على يد أبي جعفر هارون. وبالفلسفة على يد ابن باجة.
وأقام صداقة مع ابن طفيل وابن زهر. وحين ألف كتاب "الكليات في الطب" طلب من ابن زهر وضع كتاب في الجزئيات ليكون مكملاً لكتابه.
إذاً كان ابن رشد على غرار عظماء عصره موسوعياً فهو فقيه وقاضٍ. وطبيب، وفيلسوف.
وكان من عادة حكام ذلك العصر أن يقربوا هذا الصنف من الناس حيناً ويغضبوا عليهم حيناً آخر.
وفي
عصر ابن رشد كان الحَكم الأموي خليفة في الأندلس وقيل عنه: إنه كان محباً
للعلم. أرسل الرسل إلى بغداد ودمشق والقاهرة، ليجمعوا الكتب، بما في ذلك
كتب الفلسفة. والتي كما قيل أيضاً أن الحَكم كان نصيرها. فقرب منه
الفلاسفة.
يموت الحكم ويستولي الحاجب المنصور على السلطة، وهو الذي
رأى ضرورة الاعتماد على رجال الدين فكان أن أحرق كتب الفلسفة والفلك واضطهد
الفلاسفة.
ثم جاء الخليفة عبد المؤمن فأعاد الاعتبار للعلم وللفلسفة فقرب منه ابن زهر وابن باجة وابن طفيل وابن رشد.
ويتذكر
ابن رشد قائلاً: لما دخلت على أمير المؤمين وجدت ابن طفيل في مجلسه.
فابتدأ ابن طفيل يذكر شرف أسرتي وقدم عهدها واثنى علي ثناءً لا أستحقه. أما
الأمير فإنه التفت إلي... وافتتح الحديث بهذا السؤال: ماذا يعتقد الفلاسفة
في الكون؟ أهو قديم أزلي أم محْدث؟ فداخلني الوجل عند هذا السؤال، وأخذت
التمس عذراً لأتخلص من الجواب فأنكرت أني اشتغلت بالفلسفة، وما كنت عالماً
أن ابن طفيل اتفق مع الأمير على تجربتي. فلما رأى الأمير اضطرابي التفت إلى
ابن طفيل وصار يباحثه في الموضوع، فروى كل ما قاله أرسطو وأفلاطون وغيرهما
من الفلاسفة، وأردفها بردود المتكلمين عليها. فأطمأنت نفسي حينئذٍ، وعجبت
من ذكاء الأمير، وقوة ذاكراته التي يندر وجودها عند العلماء المنقطعين إلى
مثل هذه الدروس. وهكذا تجرأت على الكلام ليرى الأمير مبلغ علمي في هذا
الموضوع.
تدل هذه الحادثة على أن الاشتغال بالفلسفة أنذاك كان أمراً
مرذولاً يخشى إظهاره الفيلسوف حتى أمام أمير مولع بالعلم والفلسفة ويقرب
المشتغلين بها إلى بلاطه.
ويبدو أن الفقهاء كانوا من السيطرة بحيث
أنهم قد خلقوا الريبة بالفلسفة وأوقعوا الشبهة بالمشتغلين بها وأنهم زنادقة
أو ملاحده أو بعيدين عن جادة الشريعة وكان من السهل عليهم أن يوغروا صدر
الأمير والعامة على السواء ضد الفلاسفة.
وإلا لِمَ نجح الفقهاء في إقناع الخليفة يعقوب المنصور بمعاقبة ابن رشد ونفيه إلى أليسانه.
وليس النص المنشور الذي كتبه عن المنصور كاتبه أبو عبد الله بن عياش إلا دليلاً على ذلك فلنورده للقارئ ليعيش في مناخ ذلك الزمان.
يقول
المنشور: "وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، أقر لهم
عوامهم بشفوف عليهم في الإفهام فخلدوا في العالم صحفاً مالها من خلاق،
مسودة المعاني والأوراق. بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين
الثقلين. يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها. وهم يتشعبون في القضية
فرقاً. ويسيرون فيها شواكل وطرفاً. ذلكم بأن الله خلقهم للنار. وبعمل أهل
النار يعملون ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم
بغير علم. ألا ساء ما يزرون. ونشأ منهم في هذه السمحة البيضاء شياطين أنس
يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يسفرون.
يوحي
بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما
يفترون. فكانوا عليها اضر من أهل الكتاب. وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب.
لأن الكتابي يجهد في ضلال. ويجد في كلال وهؤلاء جهدهم التعطيل وقصاراهم
التمويه والتخييل. دبت عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان إلا أن أطلعنا
الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قد منى لهم على شدة حروبهم، وأعفى
عنهم سنين على كثرة ذنوبهم. وما أُملي لهم إلا ليزدادوا إثماً.
وما
أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً وما زلنا -
وصل الله كرامتكم- نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما
يقربهم من الله سبحانه ويدنيهم. فلما أراد الله فضيحة عمايتهم وكشف غوايتهم
وقف لبعضعهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ كتاب صاحبها بالشمال،
ظاهرها موشح بكتاب الله، وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لُبس منها الإيمان
بالظلم وجيء منها بالحرب الزبون في صورة السلم. مزلة للإقدام وهم يدب في
باطن الإسلام. أسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء
مغلولة. فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونها بباطنهم
وغيهم وبهتانهم. فلما وقفنا منهم على ما هو قذىً في جفن الدين ونكتة سوداء
في صفحة النور المبين،.نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقصى
السفاء من الغواة. وابغضناهم في الله كما أنا نحب المؤمنين في الله. وقلنا:
اللهم إن دينك هو الحق اليقين وعبادك هم الموصوفون بالمتقين وهؤلاء قد
صدفوا عن آياتك، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك فباعد أسفارهم، وألحق
بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم. ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام
بالسيف في مجال ألسنتهم والإيقاظ بحده من غفلتهم ولكنهم وقفوا بموقف الخزي
والهوان ثم طُردوا عن رحمة الله لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وأنهم
لكاذبون.
فاحذرهم وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذركم من
السموم السارية في الإبدان. ومن عثر على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار بها
يعذب أربابه. وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه.ومتى عثر منهم على مجدٍ
في غلوائه عمٍ عن سبيل استقامته واهتدائه، فليعاجل فيه بالتثقيف والتعريف
ولا تركنوا... إلى الدين ظلموا فتمسكم النار. وما لكم من دون الله من
أولياء ثم لا تنصرون (**). أولئك الذين أحبطت أعمالهم، أولئك الذين ليس لهم
في الآخرة إلى النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون. والله
تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على
الحق واجتماعكم. أنه منعم كريم."(1)
إن منشوراً كهذا يلخص إلى حدٍ كبير موقف الفقهاء من الفلسفة والفلاسفة، في عصر ابن رشد.
فالفلسفة
وهم تنطلي على العامة وهذه خطورتها. ثم إنها تخلق الشك، فيضيع معيار
الحقيقة التي هي الشرع. وبالتالي هي مبحث بعيد عن الشريعة ومناقض لها. مبحث
يدعي العقل ويستخدم البرهان. وهو رغم ذلك يسعى للتمويه والتخييل، وخطر
الفلاسفة أكبر من خطر أصحاب الديانات الأخرى لأن هدفهم التعطيل.
ويرى
الفقيه أن الفلاسفة يدعون ظاهر الإيمان ولكن باطن معرفتهم هو الإعراض عن
الإيمان، إنهم ببساطة ملحدون حقت عليهم العقوبة بكل أشكالها.
في هذا
المناخ كان يتفلسف ابن رشد. إذاً كان لا بد له ولغيره من الفلاسفة أن
يواجهوا مناخاً كهذا. عن طريق شرعنة النظر العقلي في الوجود، وحق العقل في
الوصول إلى الحقيقة. وهذا لا يتأتى إلا إذا دللوا على غياب التناقض بين
النظر العقلي والشريعة ذاتها، استناداً إلى النص الشرعي الأساسي ألا وهو
القرآن فكان كتاب "فصل المقال"
يقول ابن رشد: "فإن الغرض من هذا
القول - ويقصد فصل المقال- أن نفحص على جهة النظر الشرعي: هل النظر في
الفلسفة وعلوم المنطق مباح في الشرع أم محظور أم مأمور به؟ إما على جهة
الندب وإما على جهة الوجوب. فنقول: إن كان فعل الفلسفة ليست شيئاً أكثر من
النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما
هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعها. وأنه كلما
كانت المعرفة بصنعها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى
اعتبار الموجودات وحث على ذلك، فبين أن ما يدل عليه هذا الإسم إما واجب
بالشرع أو مندوب إليه".(2)
إذاً النظر في المصنوعات ومعرفتها لتكون
المعرفة بالصانع اتم واجب على الشرع ومندوب إليه. فيكون أن المصنوعات تدل
على الصانع - الله. وهدف الفلسفة أن تكون معرفتنا بالله معرفة عقلية.
غير أن هناك سؤالاً لا بد أن يطرحه صاحب الشرع أو الفقيه.
إذا
كان الفيلسوف يؤمن بوجود الصانع الذي هو الخالق للمصنوعات. وإذا كان
الخالق قد بعث الرسل والكتب لهداية الناس إلى عبادته. وإذا كان هناك وحي هو
الواسطة بين الله والرسول فما هو مبرر الفيلسوف للوصول إلى ما وصل إليه
الناس عبر الوحي ذاته؟
ولماذا يجب أن يخضع المصنوع والصانع للنظر
العقلي كي يدلل على أمرٍ أخذ الله ذاته على عاتقه التدليل عليه. أي التدليل
على ذاته وعلى مصنوعاته؟
قد يقول الفيلسوف أنه لا يشك بوجود الصانع
كما لايشك بأنه صانع الموجودات. ولكن المعرفة ستكون أتم إذا وصل عقلياً
لماهية الصانع وعلاقته بالموجودات.
ولكن لماذا تكون المعرفة بالعقل
أتم من المعرفة عن طريق الوحي؟ إننا لا نجد جواباً مباشراً على هذا السؤال
من قبل الفيلسوف لكنه سيجيب بطريقة أخرى، تقوم على أن الصانع ذاته قد دعا
إلى ضرورة النظر العقلي وهذا وارد في النص القرآني.
هنا يورد ابن
رشد عدداً من آيات القرآن التي تحض على النظر العقلي: ك "فاعتبروا يا أولي
الأبصار" "أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء"،
"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت"، ويتفكرون في خلق
السموات والأرض" فالنص إذاً هو الذي يدعو إلى ضرورة النظر العقلي. ولا ندري
طبعاً لماذا.
على أية حال وبالرغم مما يمكن أن يقال بهذا الصدد من
اخفاء الفيلسوف رغبته الذاتية في النظر العقلي عبر آيات من النص إنما أراد
أن ينجب القناعة لدى الفقيه بأنه في نظره العقلي يظل داخل الشرع ذاته. وأن
يتقى شر الشبهة - التي هي لا محال واقعة عليه- شبهة الانحياز عن جادة
الشريعة.
وبعد أن قرر فيلسوف قرطبة أن النظر في الموجودات واجب
بالشرع، ووجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي وبما أن القياس هو
استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه، فواجب أن نجعل نظرنا بالقياس
العقلي.
والقياس العقلي هو البرهان فيجب أن نعلم أنواع البراهين
وشروطها وبماذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي والقياس الخطابي
والقياس المغالطي(3).وهنا يرد ابن رشد على من يقول إن النظر في القياس
العقلي بدعة لأنه لم يكن في الصدر الأول فيقول:
إن القياس الفقهي
وأنواعه استنبط بعد الصدر الأول. فلو كان القياس العقلي بدعة لأنه لم يكن
في الصدر الأول لوجب أن يكون القياس الفقهي هو الآخر بدعة لأنه هو الآخر لم
يكن في الصدر الأول. "فيجب أن نعتقد في النظر في القياس العقلي"(4)
ورداً من ابن رشد على قائلٍ قد يقول إنما المنطق أو البرهان أو القياس هي من ملة الغير يكتب ابن رشد قائلاً:
"وإذا
تقرر أنه يجب بالشرع النظر في القياس العقلي وأنواعه. كما يجب النظر في
القياس الفقهي، فبين إنه كان لم يتقدم أحد ممن قبلنا بفحص القياس العقلي
وأنواعه إنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه وأنه يستعين في ذلك.المتأخر
بالمتقدم، حتى تكتمل المعرفة به. فإنه عسير أو غير ممكن أن يقف واحد" من
الناس من تلقائه، وابتداء على جميع ما يحتاج إليه من ذلك... وإن كان غيرنا
قد فحص عن ذلك، فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله
من تقدمنا ذلك وسواء أكان الغير مشاركاً لنا أم غير مشارك في الملة، فإن
الآلة التي تصح بها التزكية ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمشارك
لنا في الملة أو غير مشارك، وإذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير
المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام"
إن
كونية المعرفة غير مرتبطة بالملة "المقصود بذلك حصراً أن لا ضير مما أنجزه
اليونان في المنطق (البرهان والقياس). وبالتالي لا يمكن الحكم على المعرفة
استناداً إلى قسمة الناس على أساس الملة. بل استناداً إلى الحق ذاته.
ثم أن العلة ليست في الحكمة أو الفلسفة بما هي عمومية، بل في طريقة استخدام الفلسفة ذاتها.
وإذا
كان البعض قد أساء استخدام الحكمة فلا ينتج من ذلك رفضها. ولهذا يقول ابن
رشد "فمثل الذي منع النظر في كتب الحكمة (الفلسفة) من هو أهل لها، ومن أجل
أن قوماً من ارذال الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها مثل من
منع العطِش من شرب الماء البارد العذب حتى مات لأن قوماً شرقوا به فماتوا،
فإن الموت بالشرق امر عارض وعن العطش ذاتي ضروري.(5)
وإذا كان
الشرع حقاً وداعياً إلى النظر المؤدي إلى الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم
على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة الشرع. فإن الحق لا يضاد
الحق، بل يوافقه ويشهد له.(6)
الحق لا يضاد الحق. هذه النتيجة التي وصل إليها ابن رشد إنما أراد منها أن يوصل الشرع إلى لحظة القبول بالفلسفة.
فالفيلسوف
اعترف بأن الشريعة طريق للحق وأن الفلسفة طريق آخر إليها لكن إعتراف
الفيلسوف لا يملك أهمية بالنسبة إلى الفقيه، بلى الأهمية أن يعترف الفقيه
بطريقة الفيلسوف.
طريق الفيلسوف هو البرهان وأنما تظهر المشكلة لا
بموافقة البرهان بما نطقت به الشريعة، فإن خالف البرهان هذا النطق، وجب
تأويل ما نطقت الشريعة به ليغدو موافقاً للبرهان.
هاقد وصل الفيلسوف
إلى فكرة التأويل. ومعنى التأويل عند ابن رشد "إخراج دلالة اللفظ من
الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان
العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه، أو سببه أو لاحقه أو مقارنه، أو
غير ذلك من الأشياء التي عُدّدت في أصناف الكلام المجازي"(7)
ولما
كان المسلمون قد أجمعوا على حمل أشياء في الشرع على ظاهرها وأخرى على
تأويلها فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره أو ظاهر
ما أجمعوا على تأويله.
يجيب ابن رشد قائلاً: لو ثبت الإجماع بطريق يقيني لم يصح وإن كان الإجماع فيها ظنياً فقد يصح.
ولكن
ما هو الطريق اليقيني! إنه البرهان. وتأويل ما أجمع على ظاهره أو ظاهر ما
أجمع على تأويله لا يقود إلى الكفر. فلا "يجب التكفير بخرق الإجماع في
التأويل"(8) وما القول في الفلاسفة كالفارابي وابن سينا؟. وقد كان الغزالي
قد قطع بتكفيرهما في كتابه "التهافت"؟
يقوم ابن رشد هنا بتأويل
(والراسخون في العلم) فالراسخون بالعلم يعلمون التأويل، التأويل الذي يقود
إلى الإيمان، والإيمان عن طريق البرهان. "وإذا كان البرهان، فلا يكون إلا
على العلم بالتأويل"(9) "(10) "وإذا كان ذلك كذلك فلا يمكن أن يتقرر في
التأويلات التي حض الله العلماء بها إجماع مستفيض.(11)
ترى إذا لم
يكن هناك إجماع مستفيض، فهل على العامة أن تعرف تأويل الراسخين في العلم
الفلاسفة،؟ يميز ابن رشد ثلاثة أصناف من الناس: الخطابيون، وهم العامة من
الناس أو غالب الجمهور. وهم ليسوا أهلاً للتأويل، وصنف جدلي بالطبع
وبالعادة وهم جمهور من الفقهاء وصنف البرهانيين، وهم الفلاسفة بالطبع
والصناعة وهم أهل التأويل وأهل البرهان يجب ألا يصرحوا بتأويلهم للعامة أي
لأهل الخطاب، إذ أنهم لا سبيل عندهم لفهمه ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات
لمن هو من غير أهلها - وخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف
المشتركة- أفضى ذلك بالمصرّح له والمصّرح إلى الكفر.(12) والسبب في ذلك أن
التأول إنما يقصد إلى إبطال الظاهر وإثبات المؤول فإذا أبطل الظاهر عند من
هو أهل الظاهر ولم يثبت المؤول عنده أداه ذلك إلى الكفر إن كان في أصول
الشريعة. "فالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور ولا تثبت في الكتب
الخطبية أو الجدلية. (13) والتأويلات عند ابن رشد نوعان صحيحة وفاسدة.
والتأويلات سواء أكانت صحيحة أم فاسدة ليس يجب أن تثبت في الكتب الجمهورية،
أما التأويل الصحيح فهي الأمانة التي حُملّها الإنسان فأبى أن يحملها.
والتأويلات الفاسدة هي الظنية والتصريح بها للجميع أنتج فرق الإسلام حتى
كفَّر بعضهم بعضاً وبدع بعضعهم بعضاً(14) ومن هذه الفرق المعتزلة
والأشاعرة، وقد صرحت هاتان الشيعتان بتأويلاتها - وخاصة الفاسدة منها-
للجمهور. فضلاً عن ذلك فإن الطرق التي سلكها المعتزلة والأشاعرة في إثبات
تأويلاتهم ليس فيها مع الجمهور ولا مع الخواص. وأما مع الجمهور فلكونها
أغمض من الطرق المشتركة للأكثر. وأما على الخواص فلكونها - إذا تؤملت- وجدت
ناقصة من شرائط البرهان.(15)
إذاً لم يكن ابن رشد معنياً بتوسيع
دائرة الفلسفة ليطلع عليها العامة. وآية ذلك أن الفيلسوف إنسان متميز
بالطبع والصناعة. والمقصود هنا بالطبع أن الفيلسوف متميز كإنسان بالأصل وذو
ملكات أكبر بكثير من ملكات الإنسان العادي. ويمكن القول إن ذو ذكاء فطري
متفوق على غيره من الناس العاديين. وأما المقصود بالصناعة. فإن الفيلسوف
صاحب هذه الملكة الفطرية قد اكتسب المعرفة الفلسفية والبرهانية عن طريق
التعليم فصار متخصصاً بها وقادراً على استخدامها الإستخدام الصحيح.
ولهذا
فإن مطعن الجدليين الأساسي أنهم أوّلوا النص دون استخدامٍ صحيحٍ. فلا هم
أقنعوا العوام ولا هم أقنعوا الخواص. وخطرهم على العوام أكثر لأن العوام
غير قادرين على التمييز بين الصحيح والفاسد.
وقد عاد ابن رشد في
كتاب "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، وتعريف ما وقع فيها بحسب
التأويل من الشبهة والزيف والبدع المضلة" إلى عقائد علم الكلام والصوفية
ناقداً على نحوٍ صارخ تأويلات الكلاميين والصوفية.
كتب ابن رشد
قائلاً" "وقلنا هناك - ويقصد كتاب فصل المقال- أ.ب"- أن الشريعة قسمان:
ظاهر ومؤول وإن الظاهر منها فرض الجمهور وأن المؤول هو فرض العلماء. وأما
الجمهور ففرضهم فيه حملهم على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن
ينصحوا بتاويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يفهمون
أتريدون أن يكذب الله ورسوله" فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر
من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها، ونتحرى في ذلك كله مقصد
الشارع (ص) بحسب الاستطاعة.
فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل
الاضطراب في هذه الشريعة وحتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة. كل واحد منهم
يرى أنه أهل الشريعة الأولى. وإن من خالفه إمّا مبتدع وإمّا كافر مستباح
الذمة والمال. وهذا كله عدول عن مقصد الشارع. وسببه ما عرض لهم من الضلال
عن فهم مقصد الشريعة.
وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربع:
الطائفة التي تسمى بالأشعرية، وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل
السنة. والتي تسمى بالمعتزلة. والطائفة التي تسمى بالباطنية، والطائفة التي
تسمى بالحشوية.
وإذا تُؤمل جميعها وتُؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلّها أقاويل وتأويلات..."(16)
كنا
قد رأينا أن ابن رشد يأخذ على علم الكلام والصوفية فساد تأويلهم بسبب فساد
آلتهم (البرهان). ويمكن أن نضيف سبباً آخر مشتق من منطق كلام ابن رشد
ذاته. ألا وهو وحدة الأمة عبر وحدة الشريعة. فالأمة هي الأكثرية - أي هي
العامة الخطابيون. وهؤلاء ظاهريون في الغالب. وبالتالي فوحدة الأمة تتعرض
للتفتت في التأويلات الجدلية التي تقسم الملة الواحدة إلى شيع خاصة إذا ما
عرضت هذه التأويلات إليها.
أما التأويل البرهاني فلما كان وقفاً على
الخاصة ولا قبل للعامة في فهمه فإنه يظل محصوراً داخل فئة محددة وخاصة
أنها تأويلات لن يطلع عليها الجمهور.
هذه من جهة أما جهة ثانية فإن
ابن رشد يريد أن يحصر مهمة التأويل في الراسخين في العلم وحدهم فهم
القادرون عليه بسبب تمكنهم من صناعة الفلسفة. وهم القادرون على نزع التناقض
بين الشريعة والفلسفة أو بين العقل والنقل وبعد نقد ابن رشد للطوائف
الأربع (في الكشف عن مناهج الأدلة. ينظر فيما يجوز من التأويل في الشريعة
وما لا يجوز وما جاز منه فلمن يجوز(17)
فيقول: إن المعاني الموجودة
في الشرع توجد على خمسة أصناف، وذلك أنها تنقسم أولاً إلى صنفين: صنف غير
منقسم، وينقسم الآخر منها إلى أربعة أصناف.
فالصنف الأول غير
المنقسم هو أن يكون المعنى الذي صُرح به هو عين المعنى الموجود بنفسه. وهذا
تأويله خطأ. أما الصنف الثاني فهو ألاّ يكون المعنى المصرح به في الشرع هو
المعنى الموجود وإنما أخذ بدله على جهة التمثيل. وهذا الصنف هو القابل
للتأويل. وينقسم بدوره إلى أربعة أقسام: الأول: أن يكون المعنى الذي صرح
بمثاله لا يُعلم وجوده إلا بمقاييس بعيدة مركبة تتعلم في زمان طويل وصنائع
جمة. وتأويل هذا القسم خاص في الراسخين في العلم ولا يجوز التصريح به لغير
الراسخين.
الثاني: فالمعنى يصرح به أنه مثال ولماذا هو مثال. فتأويله هو المقصود منه والتصريح به واجب. وهو يعلم بعلم قريب منه.
الثالث: فيعلم بعلم قريب أنه مثال لشيء ويعلم لماذا هو مثال بعلم بعيد وهذا لا يتأوله إلا الخواص والعلماء.
والرابع:
وهو المقابل لهذا وهو أن يكون كونه مثالاً معلوماً بعلم بعيد وإلا أنه إذا
سُلّم أنه مثال ظهر عن قريب لماذا هو مثال ففي تأويل هذا أيضاً نظر.(18)
إلا أن هذين الصنفين (الصنف الأول والصنف الثاني) متى أبيح التأويل فيهما
تولدت منها اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة. وربما فشت فانكرها
الجمهور.
وهذا هو الذي عرض للصوفية ولمن سلك من العلماء هذا المسلك.
ولما تسلط على التأويل في هذه الشريعة من لم تتميز له هذه المواضع، ولا
تميّز له الصنف من الناس الذين لا يجوز التأويل في حقهم اضطرب الأمر فيها،
وحدث فيهم فرق متباينة يكفر بعضهم بعضاً.(19)
ترى لماذا يريد ابن
رشد أن يحتكر التأويل أو أن يوقفه على الفيلسوف فقط، ألانه حقاً وحده، أو
الفيلسوف وحده القادر على التأويل؟ وهل الفيلسوف وحده الراسخ في العلم يبدو
لي أن تحديد المشكلة التي واجهت ابن رشد ليس التأويل. وليس التوفيق بين
الحقيقة والشريعة بل كما قلنا نزع التناقض بينهما.
فشتان ما بين
التوفيق ونزع التناقض. التوفيق إيجاد المشترك بين الحقيقة والشريعة. ونزع
التناقض يعني استقلال كلٌ من الحقيقة والشريعة، وعدم الخلط بينهما.
فالمشكلة التي واجهت الكلامين والمتصوفة هي التوفيق بالذات فظلوا في حقل
اللاهوت الإسلامي. وبالتالي فلا هم قدموا الشريعة كما هي ولا هم انفصلوا
عنها بعلم مستقل.
أما الفيلسوف فإنه ينشد الحقيقة والحقيقة فقط.
هنا
يصير التأويل في خدمة الحقيقة وليس في خدمة الشريعة. فالتأويل اللاهوتي
يؤدي إلى التشيع، أما التأويل الفلسفي بما هو خاص بالفلاسفة. ولا يصرح به
للجمهور، فإنه يبقي على استقلال الشريعة كما يحافظ على استقلال الفلسفة،
التي لن تصير معتقداً للعامة.
ابن رشد في رده على الغزالي الذي اتهم
الفلاسفة بأنهم "انكروا وقوع إبراهيم عليه السلام في النار، مع عدم
الاحتراق وبقاء النار ناراً وزعموا أن ذلك لايمكن إلا بسلب الحرارة عن
النار، وذلك يخرجها عن كونها ناراً..
يقول: "وأما ما نسبه من
الاعتراض على معجزة إبراهيم فشيء لم يقله إلا الزنادقة، فإن الحكماء من
الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل في مبادئ الشريعة. وفاعل ذلك
عندهم محتاج إلى الأدب الشديد.
ذلك أنه لما كانت كل صناعة لها مبادئ
وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم مبادئها ولا يعرض لها بنفي ولا
بإبطال كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك.. والذي يجب أن يقال فيها:
إن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية فلا بد من أن يعترف بها،
مع جهل أسبابها. لذلك لا نجد أحداً من القدماء تكلم في المعجزات مع
انتشارها وظهورها في العالم ولأنها مبادئ تثبيت الشرائع والشرائع مبادئ
الفضائل...
فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلاً
بإطلاق. فإذا تمادى به الزمان والسعادة إلى أن يكون من الراسخين في العلم
فعرض له تأويل مبدأ من مبادئها فيجب عليه ألاّ يصرح بذلك التأويل، وأن يقول
فيه كما قال الله سبحانه (والراسخون في العلم يقولون آمناً به كل من عند
ربنا) هذه هي حدود الشرائع، وحدود العلماء"(20)
يقوم النص السابق
على فكرة أساسية ألا وهي أن هناك حدوداً واختلافاً بين الصناعتين الشريعة
والفلسفة فالفلسفة لا تنشغل بقضايا الشريعة لأن الشريعة صناعة مستقلة
بذاتها وغايتها مستقلة عن غاية الفلسفة وإن حصل وتناول الفيلسوف الشريعة
فعليه احترام المعتقد الديني.
الشريعة إيمان والفلسفة عقل، والشريعة
تحتاج إلى المعجزة لتثبت مبادئها، الفلسفة تحتاج إلى البرهان. هنا يدرك
ابن رشد وظيفة المعجزة فهو لا ينفيها ولكنه أيضاً لا يدلل على حصولها إنما
يحلل الغاية الشرعية منها.
والراسخ في العلم - وهو السعيد بعقله -
لايطمئن إلى الظاهر من الشريعة فيسعى إلى التأويل الذي يحتفظ به لنفسه حتى
لا يفسد على الإنسان الذي ينشد الفضيلة في الشريعة إيمانه العادي.
ولطالما هناك حدود بين الشرائع والعلماء - أي الفلسفة- فيجب إلاّ يتدخل أي طرفٍ في مجال الآخر.
وهذا يعني أنه لما كانت الفلسفة تأبى الانشغال بترسيمات الشريعة الإيمانية، فعلى الشريعة أيضاً عدم التدخل في نشاط الفيلسوف.
إن الإصرار على هذا التمايز هو الذي يعطي للفيلسوف حرية التفكير في حقلٍ مستقل عن الشريعة لا يناقضها.
إنما
أراد ابن رشد ألاّ يرى المعركة مستعرة بين الفقيه والفيلسوف. ولكن هيهات
للفقيه أن يقتنع بحرية الفيلسوف، بحرية العقل في اكتشاف الحقيقة، إنه يقف
بالمرصاد من كل اختلاف مع ترسيماته الإيمانية مسلحاً بالنص والسلطة
والجمهور إنه العنف الذي يواجه العقل الطليق حتى اليوم يابن رشد.