من أغرب العبارات التي لم
أستسغها قط، والتي تحيل في ذهني دائما إلى النفاق في أقبح صوره، عبارة
الحوار بين الديانات أو الحوار بين المذاهب، فهذه العبارات، في نظري، سخيفة
وتنطوي على أكبر الشناعات. فمن المعلوم أنّ الحوار أساسا يقوم على مبدأ
التعاون مع الغير في السعي إلى الحقائق وطلب الحلول في ما أشكل من الأمور
بين المتحاورين. وإذا كانت أنواع الحوار تتوزّع عموما بين نوعين: حوار
حقيقيّ وآخر تشبيهيّ، وكان واضحا أنّ الحوار الأوّل يقتصر على المجالين
العلميّ والفلسفيّ، فإنّ حوار الديانات يندرج ضرورة ضمن الحوار التشبيهيّ
الذي يختصّ "بكون العارض فيه، يتظاهر بإشراك غيره في طلب المعرفة وإنشائها
وتشقيقها، بينما هو في حقيقة الأمر آخذ بزمام توجيه المعروض عليه مسألة سبق
أن تدبّرها، ويعيّن طريقا لبحثها خَبِرَها من قبل، وينتهي إلى نتائج
معلومة له" .(1)
انطلاقا من هذا التعريف يصحّ القول إنّ حوار الأديان لا يعدو أن يكون
تمثيلية عبثية لا فائدة تجنى من ورائها، أو لنقل إنّه من باب "تضييع الزمان
وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان"، لأنّ مجال الدين، بكلّ بساطة، هو مجال
الاعتقاد والتصديق بحقيقة ذلك الاعتقاد بمعزل عن الحجج والبراهين؛ وعليه
يكون كلّ محاوِر عازما على إخراج المحاوَر من عقيدته وإقناعه بعقيدة جديدة،
أي إنّه يحاور بخلفية إقناع الغير بأمر هو خارج دائرة التصديق العقليّ.
فعلى سبيل المثال كل مسلم يؤمن يقينا أنّه صاحب الدين القيّم وغيره من
المغضوب عليهم والضالين، والمسيحيّ مقتنع بأنه على الدين الحقّ وأنه على
هدى ابن الله يسوع المخلص، أما اليهودي فواثق كل الوثوق أن يهوه حكر على
بني إسرائيل، أما غيرهم فليسوا سوى مبتدعة ضالين. في ظلّ هذه الوضعية كيف
يستقيم الحوار وعلى أية أرضية يكون النقاش؟ أعتقد أن ذلك سيكون ممتعا لهواة
مسرح العبث ومحبطا لكلّ من ينشد السلام بين الأمم مهموما بالرفع من قيمة
الإنسان وجعله غاية الغايات.
وإذا عدنا للتراث العربي الإسلامي، فسنجد من الشواهد ما يدلل على سخف
الحوار بين المذاهب داخل الملّة الواحدة فما بالك بين الملل المختلفة. فهذا
أبو حامد الغزالي رغم سعة اطلاعه، وجودة قريحته يقول بردّة الشيعة
الإسماعيلية المخالفين له في المذهب، الذين جادلهم وجادلوه، وبعد أن
استنفد الحوار لإقناعهم، وعجزت العبارات على تحقيق ذلك المسعى قرّر ما يلي :
"والقول الوجيز… أن يسلك بهم مسلك المرتدّين في النظر في الدم والمال
والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية وقضاء العبادات، أما الأرواح فلا يسلك بهم
مسلك الكافر الأصليّ، إذ يتخير الإمام في الكافر الأصلي بين أربع خصال: بين
المنّ والفداء والاسترقاق والقتل. ولا يتخير في حقّ المرتدّ، بل لا سبيل
إلى استرقاقهم ولا إلى قبول الجزية منهم ولا إلى المنّ والفداء، وإنما
الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم".(2)
إن هذا الأمر ليس سوى وجه من وجوه التعويل على الحوار بين الديانات
للتقريب بين أصحابها ومجاوزة الخلافات العقائدية، إن بين المذاهب المختلفة
داخل الدين الواحد، أو بين الأديان المختلفة، فلو كان يجدي الحوار بين
المذاهب والملل، لما ارتكبت أبشع المجازر باسم الدين، ولما اضطهد الإنسان
واستعبد تارة باسم الجهاد وتارة باسم الحرب المقدسة. وفي داخل الملة
الإسلامية نعرج على بعض الأحداث لنبين هول تنكيل الإنسان بأخيه الإنسان،
باسم الإله، فهذا "الجعد بن درهم- وكما يروي ابن تيمية- ضحّى به خالد بن
عبد الله القسري في يوم النحر، وقال: ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم
فإنّي مضحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم
يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوّا كبيرا، ثم نزل
فذبحه"(3). إذن هذا هو ذنب الجعد بن درهم الذي استحق عليه الذبح، وكان هو
نفسه القربان الذي تقرب به عبد الله القسري إلى الله لينال به الأجر
والثواب. هل يمكننا أن نتصور الحديث الذي دار بين الجعد بن درهم وبين خالد
بن عبد الله القسري وهو ينظر إلى السكين في يده ومسميا الله لنحره، هل يمكن
أن يكون قد أجابه بما أجاب أبو الفوارس حين سأله المعتضد : "هل تزعمون أن
روح الله تعالى وأرواح أنبيائه تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل وتوفقكم
لصالح العمل؟" فقال له: " يا هذا إن حلّت روح الله فينا فما يضرّك، وإن
حلّت روح إبليس فما ينفعك. فلا تسأل عما لا يعنيك وسل عما يخصك".(4) على
هذا الدرب وفي هذا الإطار الإدراكي للإنسان الذي يتأسّس على قتل الإنسان
كوسيلة من أجل الثواب وإحراز الفوز بالجنان، نقول إن تاريخنا العربي
الإسلامي قد عرف من "المجازر المقدسة" ما يحير الأفهام، فلا أحد يستطيع أن
ينكر ما أصاب الشيعة من تنكيل واضطهاد بسبب عقيدتهم على أيدي السنّة والأمر
نفسه حصل من الشيعة تجاه أهل السنة، حين واتتهم الفرصة ومالت كفة ميزان
القوة لصالحهم، فقد حدث من القرامطة، وهم شيعة إسماعيلية، ما بلبل الأمة
العربية الإسلامية في مجموعها، خصوصا حين تمكنوا من الاستيلاء على مكة،
ونفّذوا مجزرة رهيبة في حقّ أهلها وفي حقّ حجاج البيت، مردّدين اقتلوا
الكفار، أقتلوا عبدة الأوثان، وبعد ذلك اقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة
ونهبوه، فمنعوا الحجّ ما يزيد على العشرين سنة.(5)
وقد يعترض معترض بالقول إنّ الحضارة المسيحية نفسها قد عرفت من المجازر
بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت ما يضارع أو يفوق ما دار بين طوائف
الإسلام من حروب، وهذا اعتراض سديد ومشروع ولا تعوز صاحبه الأدلة في ذلك،
فعلى سبيل المثال نذكر إحدى المجازر التي تفزع لذكرها القلوب، وهي مجزرة
Saint-Barthélemy التي حدثت في باريس ونواحيها، حين كان الأمير
البروتستانتي Henri de Navarre سيتزوج بالأميرة الكاثوليكية Marguerite de
Valois . فخلال أربعة أيام بدءا من 24 أغسطس إلى 28 من نفس الشهر لسنة 1572
وقعت مجزرة رهيبة باسم الربّ في حقّ البروتستانت لم تستثن الشيوخ ولا
الأطفال ولا النساء، إلى الحدّ الذي جعل البعض يقدّر عدد ضحاياها بحوالي
مائة ألف قتيل،(6) هذا بالإضافة إلى محاكم التفتيش وما رافقها من ألوان
التعذيب والمهانة التي ألحقت بالإنسان باسم الدين والذود عن وحرمته. لكن
الأمر المثير للتأمل وللتساؤل هو لماذا أسفرت تلك الحروب المدمرة والتوترات
الدينية والطائفية، والسنين الطوال من الكره والحقد المتبادل في أوروبا،
إلى نتائج إيجابية جبّت ما قبلها وتمخضت عنها مواثيق ومراسيم كرست السلم
والتعايش بين المواطنين على اختلاف معتقداتهم، بينما بقيت حروبنا نحن عبثية
وبدون نتائج، وكأن الزمن متوقف والعقل حسير.
نعم، إن الحروب الدينية الطاحنة التي دارت رحاها بين الكاثوليك
والبروتستانت، والتي دامت ستة وثلاثين عاما بدءا من1 آذار ( مارس ) 1562
وحتى 13 نيسان ( ابريل ) سنة 1598م، أسفرت عن نتائج كان لها بالغ النفع على
الأوروبيين في البداية، ثم صارت فيما بعد مكسبا للإنسانية جمعاء. فبعد أن
أصدر الملك هنري الرابع مرسوما للتسامح (Edit de Nantes ) الذي تم بمقتضاه
السماح للبروتستانت بحرية التفكير وحرية العبادة (ما عدا في باريس
ونواحيها) ومنحهم الحق في إقامة تجمعاتهم الدينية والسياسية وضمان القضاء
العادل للجميع سواء كانوا بروتستانت أم كاثوليك، ثم منح للوزراء
البروتستانت نفس الامتيازات التي كانت للقساوسة الكاثوليك، دخلت أوروبا
عهدا جديدا و سارت في اتجاه تصفية الحساب مع حقوق السماء والتركيز على حقوق
الأرض. ويمكن القول إنه رغم محدودية هذا المرسوم وعدم استجابته للكثير من
الطموحات، فإنه كان بمثابة الشرارة التي أضاءت الطريق للإنسانية صوب
الحرية والمساواة والعدل، وكل القيم التي كرمت الإنسان من حيث هو كذلك.
طبعا، كان هناك حدث آخر ساهم في بلورة التسامح الديني والذي تجسد في
وصول الأوروبيين إلى القارة الأمريكية وما أعقب ذلك من نقاشات وسجالات حول
العنف الذي تعرض له السكان الأصليون. حيث أسفرت تلك النقاشات عن مواقف
تراوحت بين الرفض والقبول لذلك العنف، فكان من المفكرين المتطرفين من أجاز
استعمال العنف ضد أولئك السكان بحجة أنهم غير مؤمنين ولا يعبدون الرب. لكن
صنفا آخرا من المفكرين الأحرار رفض ذلك العنف ورأى أنه لا وجود لحجة تبرر
ذلك التنكيل الذي لحق بأولئك الأبرياء، بل طالب بضرورة احترام حقوقهم
ومعاملتهم كأقرانهم من الأوروبيين ومن بين هؤلاء نذكر لاس كساس .Las casas
من الواضح إذن، أن التسامح هو وليد نضال ضد العنف واللاتسامح وسلب الحق في
الاختلاف بحجة المغايرة في المذهب أو العقيدة. فالحدث التاريخي الأول يبرز
أن التسامح نشأ على اثر تغير حصل في الذهنية الأوروبية بعد صراع طويل ومرير
بين طائفتين دينيتين نتج عنه تصور جديد للعلاقة بينهما، فتم الاعتراف بحق
الاختلاف داخل الدين المسيحي في البداية ليتوسع فيما بعد لكي يشمل كل
الديانات. أما الحدث الثاني فكان فيه التسامح أكثر شمولية، حيث صار مرادفا
للحق في الاختلاف عقائديا، ولقد شُيّد أساسا على فكرة الحقوق الطبيعية لكل
البشر، وأهمها الحق في الحياة، هذه الفكرة التي سيطورها فلاسفة الأنوار
ويزيدونها توضيحا.
فيكفي أن نستحضر قول جون لوك الذي يعتبر رائدا من رواد الفكر الفلسفي
الحديث وواحدا من أهم من حمل لواء فكر التسامح في وجه المتعصبين "ليس من
حق أي شخص، بأي حال من الأحوال، أن يحقد على شخص آخر في شأن متعه المدنية
لا لسبب إلا لأنه ينتمي إلى كنيسة أخرى أو يؤمن بدين آخر. فكل الحقوق
والامتيازات التي لشخص من حيث هو إنسان أو من حيث هو مواطن من اللازم أن
تكون محفوظة له دون أن تنتهك… يجب ألا يلحق هذا الشخص أي عنف أو ضرر سواء
كان مسيحيا أو وثنيا".(7)
إذن فعوض هدر الوقت في الحديث عن الحوار بين الأديان، يجب التركيز
على التسامح باعتباره فكرا وسلوكا يتجسد في إعطاء الآخر حرية التعبير عن
آرائه التي قد نختلف معه فيها، وهو بهذا المعنى اعتراف صريح بحق الاختلاف
وإبداء التساهل نحو الآخر والتقرب منه والإصغاء إليه دون أحكام مسبقة، ولا
شك أن الأحكام المسبقة هي نتيجة للتمركز على الذات والاعتقاد بامتلاك
الحقيقة وهي بذلك لا توجد عند الغير. إذن فلا بد من استبعاد الأحكام
المسبقة وتجنب التعصب قصد تكسير الحواجز السيكولوجية التي تفصلنا عن الغير
بقصد التواصل معه دون محاولة إكراهه وجره إلى معانقة ما فيه نعتقد وبه
نؤمن، أما الانشغال عن هذه الفكرة بوهم الحوار بين الديانات فلن يزيد الناس
إلا فرقة ولن يقوي سوى التعصب والانغلاق.