صقر ابو فخر
من أراد الحقيقة فليعتقد.. ومن أراد
الحقيقة فليسأل
نيتشه
هذه مناقشة لعلاقة العلمانية والدين،
وفيها نقد لمواقف ما يطلق عليه الاسلام السياسي، وتري ان المقاربة بين
الدين والعلم غير ناجحة، وينتقد الكاتب طروحات عدد من ممثلي تيار
الوسطية الاسلامي الذي برز في الستينتات، وفي هذه المقاربة عدد من
الاشكاليات التي يعترف كاتبها انها لا تروق للكثيرين. و القدس العربي
تنشرها فتحا للنقاش، وهي تعبر عن رأي كاتبها في النهاية، وحق الرد
مفتوح للجميع، الذين يتبنون مثل هذه الفكرة والذين يعارضونها. فالسلفية
المتنورة التي خرجت من بطن الحركة التي قادها جمال الدين الافغاني
ومحمد عبده هي غير السلفية التي عبرت عنها حركات وموجات اصلاحية اخري.
وحتي في السلفية التي ينظر اليها بالمتشددة، يعثر الباحث علي سلفيات
متعارضة ومتنافسة. وفكرة العلاقة بين العلم والدين يجب ان تفهم في
اطارها التاريخي والزمني الذي ولدت فيه، والتي جاءت نتاجا لأثر الحداثة
الاوروبية علي العالم الاسلامي، والتجربة الاستعمارية التي استعمرت
العقل الاسلامي والارض الاسلامية في نفس الوقت. والعلمانية باعتبارها
نظاماً من الافكار وظاهرة تاريخية، فصلت بين الدين والدنيوي، علي الاقل
في الفهم التبسيطي، ولكنها في تجلياتها العربية حملت الكثير من
العناوين والمواقف والاتجاهات، التي برزت في بعض حالاتها في شكل متطرف
رافض، وفي بعض تجلياتها كانت تعبر عن رؤية مدنية، تحرص علي التنوع
والتأكيد علي البعد المدني، في الحياة العربية الاسلامية في الازمان
الماضية. ونحن هنا ازاء اكثر من تجل للعلمانية، اي اننا امام علمانيات،
تماما مثلما يوجد سلفيات وجماعات اسلام سياسي او احيائي او حركي، ايا
كانت التسمية. وهذه القراءة التي يقدمها صقر ابو فخر، تحتاج الي تجلية
في مجال المصطلح، نظرا للتعميمية التي تطبع فكرة الدولة الاسلامية،
وموقع الاقليات فيها، والموضوع الاخير، حظي بدراسات وافية علي الاقل من
المفكرين والمثقفين الاسلاميين المعاصرين. ولا يمكن والحالة هذه الربط
بين ممارسة دول اسلامية وفكرة الدولة الاسلامية في تمظهراتها المختلفة
سواء في الفقه السياسي الاسلامي الكلاسيكي، وفكر الداعين لاحياء الدولة
الاسلامية، الخلافة. وحركات الاحياء طالبت بتحديث التعليم الديني،
وتأكيد العقلانية فيه، العقلانية التي دعا اليها في عصور سابقة ابن رشد
ووضعها في اس الخطاب الديني، وفي قلبه. والحقيقة ان قراءة فكر السلفية
المتنورة ضرورية، اذ اننا الان نمر بالذكري المئوية الاولي علي وفاة
الامام محمد عبده (توفي 1905)، والقراءة المتنورة والواعية لطروحات هذا
الجيل ضرورية في الوضع الراهن.
القدس العربي
في الحياة
العربية المعاصرة صارت الاصوليات الدينية الصاعدة والسلفيات الفقهية
المنتعشة، صارت مرجعيات فكرية ذات حضور لا يمكن الاستهانة به او
التقليل من شأنه البتة. ومع ان الصخب السياسي لهذه الجماعات الاصولية
او لتلك المجموعات السلفية عال جدا، الا ان المحصلة الفكرية والثقافية
لها ضحلة الي درجة مهينة. ولا عجب، اذن، ان نقرأ، هنا وهناك، كلاما
بائسا من عيار: العلمانية هي الالحاد تماما ، و العلمانية مروق من
الدين . ومثل هذه العبارات ما برح يرددها اعلام سلفيون من طراز يوسف
القرضاوي ومحمد عمارة وانور الجندي وفهمي هويدي وسعيد رمضان البوطي علي
سبيل المثال.
تكشف هذه الضحالة الفكرية عن هلع متزايد حيال افكار
التنوير والتقدم والنهضة التي ما انفكت، منذ اكثر من مئة سنة، تقاوم
اسباب الركود والتخلف في العالم العربي قاطبة. ومهما يكن الامر فان
العلمانية مصطلح خلافي بلا شك، لكنه، بتعريف بسيط، يعني حياد الدولة
ازاء الدين، وليس معاداة الدولة للدين كما يروج فقهاء الحلال
والحرام.
العلمانية في سياق تاريخي
العلمانية ظاهرة
تاريخية، وليست مجموعة قوانين واجراءات جري استنباطها في زمن معين كي
تصلح لزمانها فحسب، اي ان للعلمانية تاريخا ومقدمات ونتائج وقد ظهر
مصطلح العلمانية Secularism (اي العالم) منذ القرن السابع عشر، اي مع
بداية ظهور الدولة القومية في اوروبا، ومع انبثاق افكار الحرية كحرية
الاعتقاد وحرية الضمير، وحرية الرأي.. الخ. والعلمانية تعني ما ينتمي
الي العالم لا الي السماء ويقابلها بالفرنسية كلمة Laique اي الزمنية
او ما يحدث في هذا العالم علي الارض بالتحديد، تفريقا لها عن الروحانية
او ما يحدث في العالم الاخر غير المرئي.
ان اعظم انجاز للعلمانية في
الحقل العلمي، انها تركت استقلال المعرفة العلمية عن عالم
الميتافيزيقيا، واكدت، في مجال آخر، ان الاختلافات يجب ان تكون لمصلحة
البشر، ما يعني ان كل ما هو صالح للبشر هو اخلاقي بغض النظر عن مفاهيم
القداسة الدينية الرائجة في اي عصر او مكان. وهذا الامر منطقي تماما في
سياق تاريخ الافكار والحضارات، اي استقلال العلم عن الميتافيزيقيا،
واستقلال الاخلاق عن الدين.. الخ. فلدي الشعوب البدائية فقط تتحد وظائف
الساحر والطبيب والكاهن ورئيس القبيلة معا. ولكن مع التقدم المتراكم
للمجتمع البدائي تبدأ هذه الوظائف بالانفصال عن بعضها بالتدريج، الي ان
تصبح كل وظيفة قائمة بذاتها الي حد ما، اي تنفك وظيفة الطبيب عن وظيفة
الساحر او الكاهن وتنتج افكارا مغايرة. وعلي هذا الغرار تنفصل سلطة
رئيس القبيلة (السلطة الزمنية) عن سلطة الكاهن (السلطة الدينية) مع
بقاء عوامل الاشتراك او الافتراق فاعلة في الاتجاهين.
الدولة
الدينية والدولة العلمانية
وقفت الكنيسة في اوروبا بقوة في وجه
العلمانية، ولم تقبل بها طوعا علي الاطلاق، الا بعد ان هزمت امام العلم
وامام انبثاق الجديد في الفكر والحياة، اي امام الدولة القومية
الدستورية والحريات والمساواة. وها هي الاصوليات العربية المذعورة تقف
اليوم، بشراسة، ضد العلمانية، تماما كما فعلت نظائرها في اوروبا قبل
نحو 300 سنة.
ان العالم العربي يمر الآن بأزمة تشبه في بعض وجوهها،
الأزمة التي مرت بها اوروبا في القرن الثامن عشر. وهذه الازمة تتمثل في
التنافر بين قوي راكدة تريد ان تبقي متشبثة بالافكار التقليدية التي
ورثتها منذ مئات السنين، وقوي ترغب في الانخراط في سياق العلم
ومكتشفاته ومنتجاته ومنظوماته العقلية حتي لو تناقضت هذه المكتشفات مع
اليقينيات الدينية الموروثة. لنتذكر البابا بيوس التاسع وتصريحاته في
سنة 1864 التي دان فيها حرية الضمير وفصل الدولة عن الكنيسة والفلسفات
العقلانية، أليست هي نفسها ما يدينها رجال الدين المسلمون
اليوم؟
عندما نقرأ كلام باباوات روما في القرن التاسع عشر ضد
الفلسفة الليبرالية والعلمانية والديمقراطية يتراءي لي ان التاريخ
الهمجي يعود الآن لكن في بلادنا هذه المرة. فأوروبا التي كانت اصولية
ومتعصبة ومعادية للعلم تخلصت من هذا كله لان ثمة قوي اجتماعية صاعدة
انتصرت لقيم الحداثة والنهضة، بينما تغيب في بلادنا، عدا بعض النخب
المستنيرة، القوي الاجتماعية الصاعدة والناهضة الي التقدم. اما ما هو
موجود ومتحرك فهو القوي التي تريد جر المجتمع الي الخلف مئات السنين.
ويلوح لي ان اضطرارنا الي الرد علي افكار العصور الوسطي في القرن
الحادي والعشرين يشكل في حد ذاته، اكبر برهان علي التأخر المريع الذي
تعانيه مجتمعاتنا العربية. فهذه الامور كان يجب ان تكون قد حسمت منذ
زمن بعيد.
مهما يكن الامر، فان الدولة الدينية التي تنهمك التيارات
الاصولية والسلفية في الترويج لها سياسيا، وتسويغها فكريا، انما هي
دولة لا ديمقراطية، بل دولة استبداد بالتأكيد. فالدولة الدينية في
المجتمعات المتعددة هي دولة اكراه من الطرف المتغلب ضد الآخر، وهي دولة
لا تحترم مبدأ المساواة بين المواطنين الاحرار، وتقيم تمييزا، علي اساس
الاعتقاد، بين ابنائها. ففي البلدان المتعددة دينيا مثل بلادنا، فان
العلمانية هي الطراز الاقرب الي طراز الدولة المعاصر العادلة
والديمقراطية بينما ستكون الفكرة الدينية مدعاة لحروب اهلية لا
تنتهي.
ان الدعوة الي قيام دولة اسلامية في بلاد الشام او العراق او
مصر علي سبيل المثال، تجعل المسيحي في هذه البلاد يضع يده علي مسدسه،
فهو لا يريد ان يعيش ذميا في اي حال من الاحوال، والمسيحي في هذه
البلاد ليس وافدا او غريبا، بل هو صاحب هذه الارض المتجذر فيها منذ
الاف السنين، وقبل دخول الاسلام اليها لاحقا، ثم ان هناك مجموعات
اسلامية متعددة لا ترغب قط في العيش في ظل دولة دينية، بل تطمح الي
العيش في افياء دولة مدنية ديمقراطية وعادلة. وابعد من ذلك، فليس ثمة
دولة اسلامية واحدة قدمت طرازا جذابا للعدالة والحرية كي يمكن القياس
عليه او التبشير به. فالتجربة السياسية العملية لم تنجد احدا من
الاسلاميين الا بطراز متجهم علي غرار ما هو متوافر في السعودية او
ايران او السودان او افغانستان، وهي بلدان اكثر ما يرغب المواطنون فيها
ان يغادروها وان يعيشوا في ظل حكومات مختلفة تماما عن حكوماتها
الحالية. فالدول الاسلامية كانت، دائما، الأسوأ في مجال الحريات وحقوق
الانسان واحترام الفرد وعدم اضطهاد الديانات الاخري، فضلا عن التقدم
العلمي والاجتماعي والاقتصادي. بينما في البلدان العلمانية المختلفة
يمارس المسلمون حريتهم الدينية افضل بما لا يقاس مما يستطيع بعض
المسلمين ان يفعلوه في بلدانهم الاسلامية الاصلية. فالشيعة في
السعودية، ومثلهم الاسماعيليون، كانوا الي فترة قريبة لا يستطيعون
الجهر بمعتقداتهم. والسنة في ايران، ومعهم البهائيون، علي هذا المنوال.
وهل يستطيع الاحمديون (القاديانيون) ان يمارسوا ايمانهم في الكويت
مثلا؟ او هل يستطيع البهائيون ان يقيموا شعائرهم حتي في مصر من غير ان
يتعرضوا لتهمة الردة؟ وفوق ذلك فان اصرار بعض الدول العربية علي تضمين
دساتيرها فقرات تنص علي ان دين الدولة هو الاسلام وان الشريعة
الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع هي محاولة انتهازية لاكتساب رضي
الشارع والقوي السلفية فيه، فضلا عن انها رسالة غير لائقة للمواطنين
الذين لا يدينون بالاسلام. فالدولة لا دين لها، اما الافراد فلهم
دياناتهم وعقائدهم المختلفة. ومن حق اي جماعة من البشر، ولها الحرية
التامة في ان لا تتصل بالسماء من طريق محمد كما يقول العلامة عبد الله
العلايلي في كتابه الخطير اين الخطأ؟ (بيروت: دار الجديد، 1992، ص
30).
هل الاسلام دين ودولة؟
حيال انحطاط نموذج الدولة
الاسلامية في العصر الحديث، وفشلها الشامل في مجال الديمقراطية
والحريات والعدالة والنهضة والحداثة والتقدم والتسامح والمساواة، فان
من المجدي التساؤل: هل دولة الخلافة افضل ام الدولة الحديثة؟ وما هو
البرهان علي ان الدولة الاسلامية هي الاحسن لرفاهية شعبها
وحريته؟
منذ ان رفع حسن البنا شعار الاسلام دين ودولة حتي عاد هذا
الشعار غير مخصوص بحركة الاخوان المسلمين وحدها، بل صار كأنه مسلّمة
ثابتة لدي جميع الحركات الاسلامية التي ظهرت في خمسينات القرن العشرين
فصاعدا، او كأنه تكليف شرعي لدي بعض الجماعات الاسلامية
الحركية.
يتساءل محمد أحمد خلف الله: هل كان محمد يحكم الناس أم
يحكم بين الناس؟ ويجيب: ان الحكم في الاسلام هو الفصل في المنازعات
والخصومات (...) اما النبي محمد فلم يكن نبيا ملكا بل نبيا رسولا..
والسلطة التي ادار بها المجتمع في يثرب ثم في مكة كانت سلطة خاصة
بمرحلة خاصة، ولم تتجاوزها الي غيرها من المراحل (...) ولا يصح ان يقاس
عليها او ان تتخذ اساسا لمقولة كتلك التي يقال فيها: الاسلام دين ودولة
(انظر: مفاهيم قرآنية سلسلة عالم المعرفة، العدد 79، الكويت: تموز
1984). ثم ان النبي لم يستخلف ابا بكر علي الاطلاق، بل ان اهل الحل
والعقد هم الذين اختاروه في الشروط المعروفة، حتي ان ابا بكر نفسه خطب
بعد تسميته خليفة فقال: ايها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم. فان
احسنت فأعينوني، وان اسأت فقوموني . اي ان سلطته مستمدة، بكل وضوح، من
الناس لا من الله او النبي.
لا معني للدولة الدينية في عصرنا الحالي
ولا فائدة منها بتاتا. فالدولة الدينية تنتمي الي عصر انتهي وخلف وراءه
ويلات وكوارث. اما استعادة هذه الفكرة اليوم فهي نوع من العودة المرضية
الي الماضي ونكوص جمعي عن الراهن نحو اوهام ربما كان لها شأن في زمن
سحيق، زمن ما عاد يربطه الحاضر الا بقية من ظلال واشباح
واخيلة.
العلمانية في دول الاسلام
لم تنجز حركة النهضة
العربية وعودها ابدا، فقد اخلفت كثيرا ما وعدتنا به طيلة القرن التاسع
عشر وبدايات القرن العشرين، ولم تظهر الدولة القومية الحديثة المستندة
الي الدساتير المعاصرة والي القوانين المتغيرة. والكيانات العربية التي
تناثرت فوق هذه الجغرافيا شهدت قيام دول هجينة مشلولة جراء اصفادها
الدينية العتيقة، وغير قادرة، في الوقت نفسه علي التقدم خطوة واحدة الي
الامام. ومثلما ارغمت الكنيسة علي الاذعان للعصر، كانت هذه الدول مرغمة
علي الاخذ ببعض اسباب العصر كي تستمر، فلاتستعصي علي حقائق العصر
وتتلاشي. ومن مظاهر العلمانية في دول الاسلام قانون العقوبات، فلا
عقوبة الا بنص. وهكذا انتزعت الدولة المعاصرة من القاضي الشرعي عقوبة
التحزير حماية لافرادها من تسلط الفقهاء. وفي معظم القوانين العربية
تقريبا، الا قليلها، الغي رجم الزانية وقطع يد السارق ورفعت الجزية عن
غير المسلم، وحرم الرق، وما عادت الردة جريمة، وحرم التسري، والرق وملك
اليمين، وجري النص في الدستور علي المساواة بين المواطنين امام
القانون، فانتهي بذلك التمييز بين المسلم والذمي، وجري الاخذ بفكرة
الانتخابات والنظام الجمهوري وتداول السلطة، وصار الحكم بين الناس يتم
بموجب القوانين المتغيرة، لا بموجب النصوص المستقرة. حتي التعطيل في
الاعياد المسيحية صار قانونا ملزما في بعض الدولة العربية. ومع ذلك،
فان هذه الدول ليست دولا علمانية علي الاطلاق. فالعلمانية نظام متكامل
من الوسائل والقيم والعلائق التي تتصل بالتعليم والتفكير والسلوك
السياسي معا. ولعل المدخل الي العلمانية هو الغاء التعليم الديني
بالذات، اي الغاء برامج التعليم الاسنة التي تقوم علي التلقين وحفظ
الاحاديث والمسائل الفقهية التي لا تتسم بالتسامح، واحلال تاريخ
الاديان محلها، علاوة علي علم الديانات المقارن وعلوم الانثروبولوجيا
الحديثة علي سبيل المثال.
سيمط الكثيرون شفاهم استنكارا لهذه
الافكار. غير انني متبع ولست بمبتدع. فالامام محمد عبده كان يقول منذ
سنة 1938 باذن الله تعالي، يمنع التعليم الديني في جميع مدارس العالم.
فتكون المدارس قاصرة علي العلوم غير الدينية والصنائع. ويكون للدين
مواضع مخصوصة لتعليمه والتربية بمقتضاه . ولعل المدخل الثاني الي
العلمانية هو احلال قانون مدني للاحوال الشخصية ينزع من فقهاء الدم
سلطة التحكم بحياة الافراد وسعادتهم، ويلغي تلك الاسوار الصينية التي
اقاموها بين المسلم والمسيحي حتي في قضايا الحب والحياة. لنتذكر
العلامة عبدالله العلايلي كم كان جريئا عندما افتي بصحة زواج المسلمة
من غير المسلم، فقال: درج الفقهاء بشكل اجماع، علي القول بعدم حلية
الزواج بين كتابي ومسلمة. والاجماع (...) في هذه المسألة بالذات من نوع
الاجماع المتأخر الذي لا ينهض حجة الا اذا استند الي دليل قطعي (اين
الخطأ؟ ص 114). اما المدخل الثالث الي العلمانية فهو تحديد التخوم بين
العلم والدين. فرجل الدين ليس رجل علم علي الاطلاق، وما يصدر عنه لا
يندرج في اي باب من ابواب العلوم قط، بل في باب من ابواب العقائد. وحتي
الامس القريب كان الشيخ بن باز يصر علي ان الارض ثابتة لا تدور. ومن
يقل غير ذلك فقد كذب علي الله. وكل من كذب علي الله فهو كافر ضال مضل
يستتاب، فان تاب تاب، والا قتل كافرا مرتدا (عبد العزيز بن باز الادلة
النقلية والحسية علي جريان الشمس وسكون الارض وامكان الصعود الي
الكواكب ).
قصاري القول، ان الاوان قد حان لتدشين رحلة الخروج من
شباك السلفيات القديمة، والشروع في نقد منهجي للفقه الديني معا، ولا
سيما الفكر السياسي الاسلامي. ومن الحيوي جدا عدم الانحناء بتاتا امام
التسويات الفكرية بين العلم والدين، لان من المحال ان يلتقي العلم مع
الدين في قصة الخلق والايام الستة وهبوط آدم من الجنة الي الارض وظهور
السلالة البشرية من آدم فقط.. الخ.
ان العلمانية هي الرد علي
السلفيات والاصوليات بصنوفها المتعددة واشكالها المختلفة. وهذا الرد
هو، في جميع الاحوال، شوط واحد من المواجهة الحضارية المتعددة الوجوه.
ولا مجال للمهادنة في هذه المواجهة، تماما مثلما لا مجال للتفريق
الجوهري بين السلفيات المنتعشة والاصوليات المنفلتة من عقالها، فالسمات
المشتركة تكاد تنحصر في ثلاث نقاط اساسية هي:
1 ـ الوقوف ضد اي
محاولة لاخضاع الفكر الديني للنقد التاريخي والعلمي باعتبار هذا الفكر
مقدسا.
2 ـ الوقوف ضد النظريات العلمية التي تخالف المعتقدات
الدينية ومحاربتها.
3 ـ رفض تأويل النصوص الدينية كي تتلاءم مع
الحياة المتغيرة.
4 ـ اشاعة ثقافة الكره وعدم التسامح والتكفير
والذبح.
5 ـ استعادة النصــــوص الميتة المخلفة للوعي، التي تشل
امكانات التفكير النقدي لدي الافراد والجماعات، وترويج المنوعات
الــــهابطة والمبتذلة.