إذا كان تنظيم داعش قد أعلن “دولة الخلافة الإسلاميّة” في الأعوام الأخيرة فهو لم يفعل سوى أنّه حقّق حلماً قديماً ظلّت تتبناه تنظيمات إسلامية كثيرة على مدى عقود طويلة.
إنّ أعضاء تنظيم الشباب في كينيا وفي الصومال وهم يقتلون المدنيين في المقاهي لأنهّم يتفرجون على التلفزيون، وأعضاء تنظيم بوكو حرام في نيجيريا وهم يختطفون الطالبات من مدارسهنّ، يحملون نفس الهدف الّذي حقّقه عملياً تنظيم داعش فيما بعد: إقامة دولة الإسلام.
كان الإسلام السنّي حتّى سقوط السلطنة العثمانيّة بعد الحرب العالميّة الأولى يقوده “خلفاء” في سلسلة متّصلة تبدأ بأبي بكر، أوّل خليفة للنبيّ محمد. وبسقوط آخر سلاطين آل عثمان بقي الإسلام السنّي دون قائد روحيّ. وخلال القرن العشرين ظهرت مشاريع عديدة لإعادة تأسيس الحكم الإسلاميّ، تمّ خنقها جميعها على أيدي حكام سياسيين قمعيين في العالم العربيّ. والمثال الكلاسيكي هنا هو تنظيم الإخوان المسلمين الّذي اكتسب طابعه المتطرف في زنازين السجون المصرية في الخمسينات. لكن ما إن سقطت في السنوات الأخيرة عدة ديكتاتوريات في الشرق الأوسط واستبدلت – غالباً – بكيانات سياسيّة هشّة، مبعثرة وفاسدة، حتّى اتّخذت تلك الحركات المخنوقة سابقاً مكاناً لها. كمثال على هذه العملية، نجاح منظمة داعش في الاستيلاء على ثلث العراق في ظرف أيّام قليلة وذلك في ظلّ حكومة المالكي الفاسدة.
لكنّ اشتراك منظمات ومسميات عديدة في حلم الخلافة لا يعني اتّفاقها تطبيقياً. فالطّابع المطلق والشمولي لتنظيم داعش، حيث لا يَقبل أن يُعتبر أقلّ من “دولة” يجب أن يخضع لها الجميع، وضع التّنظيم في مواجهة مع بقية الحركات الإسلاميّة المسلّحة رغم كون الأطراف المتصارعة جميعاً من مذهب دينيّ واحد، ولديها عدوّ طائفيّ وسياسيّ مشترك، ويجمعها “حلم” واحد. وهكذا هاجمت داعش في سوريا تنظيمات مسلحة أخرى تهدف، مثلها مثل داعش، إلى إسقاط بشار الأسد. وأدّى ميل داعش إلى تصفية كلّ المختلفين معها فكرياً، وحتّى السّنة غير المتشدّدين بشكل كاف، إلى توترات سواء مع تنظيم القاعدة أو بقية التنظيمات. يمكن القول إنّ مبالغة داعش في طموحاتها، وتضخّم صورتها عن نفسها، كان من أهمّ أسباب هزائمها، فقد أدّت بها ممارساتها العنيفة والإقصائيّة ليس فقط إلى أن تخسر أنصاراً كثيرين وإنّما حتّى إلى أن تستنزف قواها في معارك مع تنظيمات سنية مسلحة أخرى. لكن فيما يتعلّق بموضوع هذه المقالة يمكن القول إنّ تنظيم داعش قد انغمس في الدور الّذي يؤدّيه مثلما يبالغ الممثل المسرحيّ في “معايشته” للدور الدراميّ: فالانتصارات السّريعة في العراق مثلت لقادة التنظيم “برهاناً” على أنّ حلم الخلافة لم يعد حلماً: فها هي ثلاث مدن عراقية تسقط تحت أيديهم، أي ما يساوي إقليماً كاملاً، وها هي الشريعة الإسلاميّة بنسختها المتشدّدة تسود هذه المدن كمنهج إداريّ وقانونيّ، وهو تقدّم لم يحرزه أي تنظيم آخر من قبل، فكان مفهوماً أن يصدق الدواعش أنّهم بالفعل “دولة” كما يشير اسم التّنظيم، وأن يطالبوا بالأولويّة والعلوّ على بقية التّنظيمات. والى جانب هذا، فإنّ النّظر إلى موضوع العنف يختلف من تنظيم إلى آخر، بمعنى أنّ هذه التّنظيمات مختلفة في النّظر إلى وسائل تحقيق حلم دولة الخلافة.
“حلم الخلافة عبارة عن يوتوبيا ساذجة يسهل انتشارها بين البسطاء والشبّان الصّغار”. الصورة: أنصار داعش في مدينة الموصل العراقيّة يحتفلون بالانتصارات الدمويّة للتّنظيم.
في الحقيقة كان الظواهري، قائد تنظيم القاعدة، هو الّذي أطلق فكرة إعادة إقامة الخلافة الإسلاميّة، هذه الفكرة الّتي جعل تنظيم داعش منها علامة مسجّلة باسمه.
في حديثي مع يان ياربه، الباحث في علم الإسلاميات وأستاذ الدراسات الإسلاميّة في جامعة لوند، عبر عن اعتقاده بأنّ حلم الخلافة، ابتداءً من صيغته المبكّرة في أدبيات الإخوان المسلمين وانتهاء بصيغته العنيفة على يد القاعدة وداعش، هو عبارة عن يوتوبيا ساذجة، يسهل انتشارها بين البسطاء والشبّان الصغار. ويقول إنّ ممارسات داعش في المناطق الّتي استولت عليها ستؤدّي إلى العكس ممّا تطمح إليه، بل وستسرّع من انتشار العلمانيّة في المنطقة.
– إنّ هذا النّوع من التّنظيمات يخزي الدين ولغة الدين من خلال العنف الّذي يمارسه. لكنّ النَّاس تريد أن تعيش في هدوء وسلام. وها نحن اليوم نرى علامات على انتشار إلحاد واعٍ لم يكن أحد يتوقّعه قبل عشر سنوات مثلاً، يقول يان.