نذ اندلاع الثورات الشعبية العربية، انقسم الرأي حولها بين فئة المؤيدين
لهذه الثورات باعتبارها تشكل تحوّلا مفصليّا في مسار المنطقة عبر انتقال
أنظمتها من ديكتاتورية وشمولية إلى ديموقراطية وليبرالية، وفئة المتوجسين
منها لأنها ستؤدي لا محالة إلى ضرب ما يسمّى بأنظمة الممانعة، والتجربة
أكبر برهان من خروج حماس من التحالف الرباعي (إيران، سوريا، حزب الله
وحماس) إلى دخول النظام السوري في حال من عدم التوازن، وصولا إلى سقوطه
الحتمي. وبالتالي، فإنّ كل المحاولات الجارية لتشويه هذه الثورات تهدف الى
ضربها للحؤول دون نجاحها في إكمال مسارها وإسقاط النظام الإيراني من
الداخل.
ولعلّ مناسبة هذا الكلام الانتخابات التونسية، وإعلان السلطات الليبية
الجديدة التحرير وتدشين المرحلة الجديدة. أما الجامع بين المحطتين، فهو
التوجّه "الإسلامي" الذي ظهر في كلام رئيس المجلس الانتقالي الليبي، وتقدّم
حزب "النهضة" الإسلامي الذي من المتوقع أن يحقق فوزا عريضا بنحو 40 في
المئة من الأصوات.
ففي مهرجان اعلان "التحرير" في بنغازي، قال مصطفى عبد الجليل: "نحن كدولة
اسلامية اتخذنا الشريعة الاسلامية المصدر الاساسي للتشريع، ومن ثم فإنّ أي
قانون يعارض المبادئ الاسلامية للشريعة الاسلامية هو معطّل قانونا ...
وأضرب مثلا هو قانون الزواج والطلاق الذي قيّدَ تَعدّد الزوجات... هذا
القانون مخالف للشريعة الاسلامية وموقوف". واضاف ان "هناك نية صادقة لتقنين
كل القوانين المصرفية، ونحن نسعى الى تكوين مصارف اسلامية بعيدة من الربا،
مع محاولة إلغاء كل الفوائد مستقبلا وفقا للتقليد الاسلامي".
أما على المستوى التونسي، فأثار صعود حزب النهضة قلقا لدى العلمانيين
الذين يعتقدون أن قيمهم الليبيرالية معرضة للخطر حاليّا، في الوقت الذي
أعلن زعيم حزب "النهضة" راشد الغنوشي الذي من المرجّح أن يحصل على النصيب
الاكبر من الأصوات "إن حزبه ينتمي الى الاسلام الوسطي، مثل رئيس الوزراء
التركي رجب طيب اردوغان".
ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل هبّ الهواء الإسلامي على الربيع العربي؟
وهل وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس وليبيا يشكل تقويضا للثورات
العربية التي ظهرت على حقيقتها بأنها إسلامية وليست ليبرالية؟
ولكن قبل الشروع في الإجابة، لا بد من تسجيل مسألة بغاية الأهمية، وهي
الإقبال الكثيف على الاقتراع الذي كان موضع إشادة واسعة، حيث هنّأ الأمين
العام للأمم المتحدة بان كي مون تونس على "الطريقة السلمية والمنظمة" التي
جرت فيها الانتخابات، وقال وزير الخارجية الفرنسية ألان جوبيه: "إنّ باريس
ترحّب بحسن سير أول انتخابات حرة في تونس، حيث فتحت الثورة الطريق الى
الربيع العربي"، ووصفت الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد
الأوروبي كاثرين آشتون انتخابات الجمعية التأسيسية التي جرت في تونس أمس بـ
"الحدث التاريخي".
إنّ حسن سير الانتخابات يشكل فوزا لتونس والديموقراطية، و"نموذجا" يحتذى
في مهد "الربيع العربي". ومن هنا، لا خوف من العودة إلى الديكتاتورية في ظل
انتخابات ديموقراطية ومناخات من الحرية.
لا شك في أنّ فوز التيارات المدنية على الإسلامية يشكل قفزة نوعية في
المجتمعات العربية، ولكن فوز التيارات الإسلامية لا يشكل انتكاسة أو هزيمة
للتيارات الإصلاحية، لأن التحدي الأساس ليس أن يكون القرآن مصدرا للتشريع،
وهذا أمر طبيعي في مجتمعات إسلامية بحاجة إلى مسارات طويلة لتتمكن من ترسيخ
مفاهيم مدنية للحكم على غرار الأنظمة الغربية، إنما التحدي هو في إرساء
أنظمة ديموقراطية تحترم التعدد والتنوّع وتكون الانتخابات النزيهة والشفافة
المدخل للوصول إلى السلطة، وهذا أقلّه ما أظهرته الانتخابات الأخيرة، حيث
أقرّت القوى المتصارعة على اختلافها بنزاهة هذه الانتخابات.
فالمعيار إذا يكمن في إرساء أنظمة ديموقراطية، وفي حال تمّ احترام هذه
القاعدة، تكون حركات التغيير تمكنت من تحقيق الأهداف المرجوّة، إذ ليس
المطلوب الانتقال من أنظمة ديكتاتورية إلى أنظمة مدنية علمانية، ومن يضع
هذا السقف هدفه التصويب على هذه الثورات لضربها في مهدها عشيّة أوّل
استحقاق انتخابي ديموقراطي، إنما المطلوب الانتقال إلى أنظمة ديموقراطية
على غرار النموذج التركي، بمعزل عن طبيعة النظام أكان إسلاميا أم مدنيا،
لأن الأولوية هي للحريات السياسية الكفيلة وحدها بتطوير الحياة السياسية.