دخل العالم العربي منذ نهاية سنة 2010م مرحلة جديدة من تاريخه، عرفت تحولات سياسية راديكالية لم يتوقعها أحد قبل انطلاقها، وإذا كانت هذه المرحلة ومن خلال الشعارات التي أطرتها، والعناوين الكبرى التي رفعها الكثير من رموزها حالمة متفائلة، وتعد بالكثير من «الأنوار»، فإن الواقع الذي تعيشه اليوم الكثير من البلدان العربية التي دخلت هذه المرحلة بنوع من الحماس، والانعطافات والصراعات التي عاشتها على مدى ست سنوات تقريبا، يثير الكثير من الشكوك حول صدقية وواقعية هذه الشعارات، وكونها فعلا خطوة نوعية وتقدمية بخصوص الطموح النهضوي العربي حاضرا ومستقبلا.
إن الفكر العربي وإزاء هذه الواقعة انقسم إلى تيارين كبيرين: تيار احتفى بـ«الربيع العربي» وعلق عليه آمالا عريضة في تجاوز أعطاب التقدم والنهوض العربي، وأغمض العين في هذا السياق عن كل السوءات والتهديدات التي أبان عنها، وكان من نتائج هذا الاحتفاء رسوخ وصف «الربيع» في الدلالة على هذا التحول؛ وتيار أنكره منذ البداية، واعتبره انحدارا نحو الفوضى والظلامية، أو شكلا من أشكال المؤامرة على العرب. ولا نحتاج للقول بعد مرور ست سنوات تقريبا عن هذا الحدث، أن هذه الحدية في الموقف من الربيع العربي كانت غير موضوعية، فهو وكما يبدو اليوم كان مختلط المعاني والدلالات، فقد جمع بين معاني تقدمية، وأخرى رجعية في الآن نفسه.
إن حقيقة الربيع العربي كما أسفرت عنها السنوات الست الماضية تتيح للمفكر العربي فرصة تصحيح منظوره، واستعادة هذا الحدث الجسيم استعادة نقدية، استشرافية، تتيح للعرب التحكم ما أمكن في مصيرهم، ومن ثم التخلص من آثار وآثام المقاربة الدعائية والأيديولوجية المضللة. ولعل من فضائل هذا الوعي التاريخي والنقدي في مقاربة واقعة الربيع العربي إتاحة الفرصة أمام العقل العربي، لتملك الحراك الجماهيري، وترويضه بصورة تجعله حراكا أليفا، وتقدميا، بدل السعي لإعاقته والحيلولة دون بلوغ مداه.
إن هذه الاستعادة النقدية لواقعة الربيع العربي تطرح على الباحث جملة من المشاكل، وفي مقدمتها مشكلة التعميم؛ فأحداث سنة 2011م - كما يعلم الجميع - لم تهم كل البلاد العربية، بل مست بعضها وسلمت منها أخرى، فهل حديثنا عن الربيع العربي هو حديث مخصوص يهم بعض الدول دون بعض، أم أن الأمر يهم سائر الدول بما فيها تلك التي لم يمتد إليها الحراك الجماهيري؟
إن هذا السؤال يشكل أساسا لرؤيتنا المنهجية في هذه المحاضرة، والتي يمكن إجمالها في الآتي: إن الحراك الجماهيري الذي عرفته بعض الدول العربية ابتداء من أواخر سنة 2010م، والأسئلة التي طرحها، والآفاق التي بشر بها، لم تقف عند حدود دول الحراك، ولم تكن شأنا خاصا بها، بل امتدت إلى سائر الدول العربية، حيث أمسى بعد فترة وجيزة من انطلاقه حراكا عربيا قوميا، يمتد من الماء إلى الماء، وهَمَّ كل النخب والدوائر، وانقسم الناس حوله بين مؤيد ومعارض؛ فالحدث المصري - على سبيل المثال - أمسى واقعيا حدثا خليجيا حيويا، حاضرا في كل الدوائر، وهكذا بالنسبة إلى باقي الأحداث في تونس والمغرب وسوريا وليبيا واليمن.
انطلاقا من هذه الرؤية المنهجية، فإن تطورات الأحداث الميدانية والسياسية للربيع العربي، لم تكن تطورات قطرية يستقل بتدبيرها ويتحكم في مجرياتها الفاعل القطري باستقلال عن الفاعلين الإقليميين وخاصة من العرب، بل على العكس من ذلك كانت تطورات يَنسُج خيوطها، ويتحكم في شكلها فاعل فوق قطري.
ومن ناحية أخرى، تطرح هذه الاستعادة النقدية إشكالية أخرى تتعلق بموضوعها، إذ يستحيل - في مثل هذه المناسبة - مقاربة الموضوع في شموليته، وفي كل امتداداته الإشكالية؛ فالربيع العربي كواقعة إقليمية أو قومية طرح عدة إشكالات وقضايا، بعضها مرتبط بثنائية الديمقراطية والاستبداد، والبعض الآخر مرتبط بسبل استعادة النظام، وشرعية الدولة، والدستور، ودور الجيش في الحياة العامة.. إلخ، وهي قضايا وإشكالات صعبة ومعقدة تصعب الإحاطة بها في حيز كهذا، وهو ما اضطرنا لممارسة قدر من الاختيار بينها، واخترنا إشكالية استعادة النظام، باعتبار مكانتها الاستراتيجية بين خريطة الإشكاليات التي طرحها حدث سقوط عدد من الأنظمة السياسية، وخروج المواطن من رِبقة النظام، واختلال بنية الدولة.
وفي سياق هذه الإشكالية اشتغلنا على فرضية أساس، وهي أن فشل أو تعثر جهود استعادة النظام التي قام بها كل الفاعلين السياسيين في السنوات الماضية، وفرت كل المسوغات الموضوعية والأخلاقية لعودة السلطوية، وتأجيل الخيار الديمقراطي؛ فالجهود التي بذلتها كل الأطراف لأجل هذه الغاية، والنتائج التي حققتها لم تكن في المستوى المطلوب، حيث أمسى اللااستقرار السمة العامة للعالم العربي على مدى ست سنوات وإلى اليوم، جعلت من السلطوية خيارا عقلانيا لاستعادة النظام.