معمر القذافي.. الطاغية الذي فضحه ربيع الديمقراطية العربي
كتاب «تشريح للطاغية معمر القذافي» يسلط الضوء على دموية النظام الليبي
المعطي قبال
إن انبثاق علم اجتماعي وسياسي ليبي بمواصفات علمية دقيقة يتطلب جيلا
جديدا من الباحثين كما هو رهين بعامل الزمن. في انتظار ذلك، غيرت الحرب
نظرة العالم إلى البلد،
مسلطة المزيد من الأضواء على جنون عظمة معمر القذافي. وفي هذا السياق،
يوفر القذافي للكتاب والروائيين كشخصية مادة روائية خصبة لأنه تتوفر فيه
جميع التوابل التراجيكوميدية: الدم، البارود، الهزل. وهذا هو العمل الذي
أنجزه الكاتب اللبناني ألكسندر النجار، في مؤلفه «تشريح للطاغية معمر
القذافي»، الذي صدر هذا الأسبوع عن منشورات «أكت سود» في 248 ص. وقد سبق
للروائي أن نشر روايات تاريخية. كما يعمل محاميا ويشرف في نفس الوقت على
الملحق الأدبي لجريدة «لوريان لوجور».
مع انتفاضات الربيع العربي اكتشف المواطن العربي أن بعضا من الطغاة العرب
حيوانات مرضى بشتى أنواع الآفات. منهم من هو مصاب بمرض القلب، ومنهم من
يعاني من داء السكري، أو من «خنزير» الحلقوم، أو من جهاز التبول، أو من
داء الكبد. ولنا في أمثلة عبد العزيز بوتفليقة، حسني مبارك، زين العابدين
بن علي، وغيرهم أمثلة حية على ذلك. لكن المرض النفسي (من جنون العظمة إلى
انفصام الشخصية إلى الهذيان بمؤامرات يحيكها الأعداء في الظل)، يبقى
القاسم المشترك الذي يوحد بينهم. وهم «يتحلون» بالعنف والعصبية،
وبالميلانخوليا والتسلط. ويتصدر العقيد معمر القذافي رأس القائمة، التي
تضم بشار الأسد، وعلي عبد الله صالح. إنهم رؤساء مصابون بالصرع ويستحقون
أن يقفل عليهم في مارستان من نجمة واحدة!
بالرغم من تراثها الثري، ومن ثروتها الاقتصادية والبشرية، لم يعرف عن
ليبيا إلا ما سربته عنها الدلائل السياحية أو المجلات الجامعية المتخصصة
في الآثار، كبلد يزخر بثروة أركيولوجية لم تسبر أغوارها بعد، أو ما سربه
عنها الرئيس القذافي في خطبه السوريالية أمام الوفود الزائرة عن بلد لا هو
بالاشتراكي ولا هو بالرأسمالي، بل «جماهيرية زنكزنكية»! وبذلك حجب القذافي
التاريخ العميق والأصيل للبلد بصفته تاريخا يقوم على التعدد الإثني
والديني بسجنه لهذا التاريخ في المنظومة العشائرية. مع المواجهة أو الحرب
الدائرة الآن، التي دخلت 90 يوميا، نلمس عن كثب استقواء هذه النزعة
القبلية والعشائرية، وهو تشرذم لم يدرك مغزاه جيدا أولئك الذين يحاولون
إركاع النظام في طرابلس.
لقد حجب النظام كل سبل البحث العلمي (السوسيولوجي، التاريخي،
الأنثروبولوجي) عن البلد. فيما موّل القذافي بسخاء طائي مناظرات، ندوات،
مؤتمرات عالمية، تناظرت، على نحو فولكلوري، حول الكتاب الأخضر أو حول
مفهوم الجماهيرية وغيرهما من الأطروحات الإيكزوتيكية وكأن أي تاريخ سابق
أو لاحق للجماهيرية يدخل في خانة العصر الجاهلي.
إن انبثاق علم اجتماعي وسياسي ليبي بمواصفات علمية دقيقة يتطلب جيلا جديدا
من الباحثين كما هو رهين بعامل الزمن. في انتظار ذلك، غيرت الحرب نظرة
العالم إلى البلد، مسلطة المزيد من الأضواء على جنون عظمة معمر القذافي.
وفي هذا السياق، يوفر القذافي للكتاب والروائيين كشخصية مادة روائية خصبة
لأنه تتوفر فيه جميع التوابل التراجيكوميدية: الدم، البارود، الهزل. وهذا
هو العمل الذي أنجزه الكاتب اللبناني ألكسندر النجار، في مؤلفه «تشريح
للطاغية معمر القذافي»، الذي صدر هذا الأسبوع عن منشورات «أكت سود» في 248
ص. وقد سبق للروائي أن نشر روايات تاريخية. كما يعمل محاميا ويشرف في نفس
الوقت على الملحق الأدبي لجريدة «لوريان لوجور».
يرى الكاتب اللبناني أن معمر القذافي يتصدر قائمة الديكتاتوريين سفاكي
الدماء. اشترى صمت الديمقراطيات الغربية لمدة 40 عاما من حكمه عن طريق
النفط وتسلية الجميع بلباسه الفلكلوري، وخيامه التي ينصبها أينما حل،
وأبنائه المنحطين، وأفكاره البهلوانية التي تهدف إلى حجب الجرائم التي
اقترفها في حق شعبه. في البداية، لم تكن شخصية القذافي، التي تذكرنا
برواية ماريو فارغاس يوسا «عيد العتنون» أو رواية غابريال غارسيا ماركيز
«خريف البطريرك»، كما هي عليه اليوم. في إحدى المقابلات التي أنجزها صحافي
من التلفزيون الفرنسي مع معمر القذافي غداة «الثورة البيضاء»، بدت على
محيا القذافي علامات الخجل. في سنة 1969، كان القذافي ملازما أول يلبس بزة
عادية من دون ميداليات عسكرية، يبتسم، بل يضحك بسخاء، بدل الإجابة عن
أسئلة الصحافي. كان بمنأى عن البهلوان السفاك الذي أصبحه سنوات فيما بعد.
الربيع العربي
يلاحظ ألكسندر النجار أن «الربيع العربي» بنوع ما امتداد لربيع بيروت
لعام 2005، الذي يعتبر إنجازا شبابيا. إذ ساعد على انبثاق خيار ديمقراطي
ثالث يتجاوز خيار الديكتاتورية والتطرف. حين بلغت موجة الثورة التخوم
الليبية، انكب الكاتب على دراسة مسار و«نتاج» الطاغية القذافي، بغية نزع
الهالة عن أسطورة حاكم أصبح لطخة في التاريخ الحديث.
وبعد أن استعرض الكاتب جغرافية ليبيا وتاريخها، انتقل إلى مقاربة مسار
معمر القذافي، الذي رأى النور في خيمة ببلدة سيرت عام 1942. فهو أصغر فتى
لعائلة من البدو تنتمي إلى قبيلة لقذاذفة. لعب هذا الانتماء القبلي دورا
حاسما في تكوينه «الثوري». وفي هذا الباب يقول : «إن القبيلة مدرسة
اجتماعية يستوعب أعضاؤها منذ الصغر المثل العليا التي تمنح الفرد سلوكا
اجتماعيا يتحلى به مدى الحياة». لكن يبدو أن القذافي لم يستوعب سوى المغزى
الضيق للقبلية كرديف لـ«أخذ الثأر». كان والده محمد عبد السلام حامد،
الملقب بأبي منيار، راعيا للأغنام والإبل. بقي القذافي وفيا لمدينة سيرت
التي جعل منها فيما بعد ملتقى للطرق بين الشرق والغرب، ومركزا يحتضن
العديد من الإدارات وتعقد به المؤتمرات والمناظرات الدولية.
وهو طفل، «ورث» معمر القذافي «مهنة» رعي الأغنام عن والده. ويشير إلى أن
ليبيا في تلك الفترة (الحرب العالمية الثانية) كانت مسرحا لحرب ضروس بين
القوى العظمى. وقد عاين قصف الطائرات والمدافع. في أحد أسفاره للفزان،
التقى والد القذافي أحد الفقهاء الذي قبل تعليمه تعاليم الكتاب والسنة.
وكان لهذه التربية دور حاسم في مستقبله. في سن التاسعة، التحق القذافي
بالمدرسة الابتدائية لمدينة سيرت، واختار مسجد المدينة سكنا له. ومرة في
الأسبوع كان يقطع مسافة 30 كلم للالتحاق بعائلته مشيا على الأقدام. بين
أصدقاء الصف، أظهر القذافي نوعا من السلطة، وقد التحق في سن الرابعة عشرة
بمدرسة سبها الإعدادية. ونظرا لولعه بالسياسة كان معجبا بالجنرال ديغول،
الماريشال تيتو، ماو تسي دونغ، كما كان يتابع الأخبار على إذاعة القاهرة،
موزعا المنشورات التي تتحدث عن جمال عبد الناصر، الذي كان أحد مثله
السياسية العليا. بعد فسخ معاهدة الوحدة بين سوريا ومصر، خرج معمر القذافي
على رأس مظاهرة تأييد لعبد الناصر، وقد ألقي عليه القبض رفقة 20 من رفاقه،
ليطرد فيما بعد من مدرسة الفزان. تابع دراسته فيما بعد بمدينة مصراتة،
والتحق سنة 1963 بالأكاديمية العسكرية لمدينة بنغازي حيث استنسخ تنظيم
الضباط الأحرار، بإنشائه مجموعة ثورية سرية (حركة الضباط الوحدويين
الأحرار). كان الهدف منها هو قلب الملكية وطرد القوات الأجنبية من البلاد.
وبعد حصوله على الدبلوم سنة 1965 أرسل القذافي إلى المملكة المتحدة
لمتابعة تدريب بالمدرسة الملكية ببلانفورد، وبعد ثلاثة أشهر من التدريب
التحق بليبيا ليعمل بقسم المواصلات.
الانقلاب
في مساء 31 من غشت 1969 أطيح بالملك إدريس الثاني، الذي كان في رحلة
نقاهة باليونان. وبعد الانقلاب، تضاربت الروايات حول القذافي: ثمة من يقول
إنه كان على رأس الكومندو، الذي احتل بناية الإذاعة، فيما جاء في رواية
أخرى بأنه بقي متمددا على سريره يستمع للنشيد العسكري، وبأن القذافي بنا
أسطورته على الأكاذيب. لكن القائد الذي لم يتجاوز 27 من عمره أصبح بسرعة
رجل الثورة القوي. اقترح القذافي اشتراكية الدولة ليؤمم أهم القطاعات
الصناعية، وخاصة قطاع البترول والنفط و51 في المائة من البنوك الأجنبية.
كما رفع أثمنة البترول وسن سياسة تقوم على مضاعفة الأجور، وتعريب الإدارة،
وإلغاء الاتفاقيات العسكرية، وإغلاق القواعد العسكرية الأمريكية
والبريطانية. كما طرد عام 1970 الرعايا الإيطاليين المقيمين في ليبيا،
الذين كان يقدر عددهم باثني عشر ألف مواطن.
انتظمت الخطوط العريضة لسياسة النظام على التوجه القومي، معاداة الغرب،
التبرم من الولاء للاتحاد السوفياتي. كما رفع القذافي لواء الجمهوريات
العربية المتحدة بتقربه من مصر وسوريا. لكن هذا الحلم كان مجرد هلوسة، إذ
ما لبث أن تشاجر مع حلفائه، وخاصة أنور السادات، بسبب توقيع الرئيس المصري
على معاهدة كامب ديفيد. أما أنور السادات فشجع رونالد ريغان على تخليص
المنطقة من «مجنون» ليبيا! وقد رأى القذافي في اغتيال السادات عقابا له.
وهكذا لم يستثن أحدا من ملوك ورؤساء الدول العربية من الشتائم. من جهة
الغرب، فتحت فرنسا في خريف 1969 ذراعيها للكولونيل، الذي كان يرغب في
تعزيز ترسانته العسكرية. وهكذا أجريت بين البلدين مفاوضات سرية، في الوقت
الذي كانت ليبيا لا تزال تحت حظر بيع الأسلحة. وقد سربت إسرائيل خبر هذه
المفاوضات، مما دفع حكومة جاك-شابان ديلماس إلى التعجيل بالإعلان عن «صفقة
القرن» بين البلدين، والقاضية ببيع 110 طائرات من نوع ميراج، علاوة على
طائرات هيلكوبتر، وصواريخ جو-أرض، وقنابل من نوع ماترا، ورادارات بحرية.
لكن هذه السياسة القاضية بتعزيز القوة العسكرية الليبية وبناء جمهوريات
موحدة، لم تخف الصراعات داخل مجلس الثورة، التي قادت رفاق درب العقيد في
أكثر من مناسبة إلى محاولة الإطاحة به. في سنة 1975، حاول 13 من الضباط
الوحدويين الأحرار و4 ضباط من المجلس الثوري الإطاحة بالعقيد بسبب
استفراده بالحكم، وهيمنته على القرار، وغياب الحوار داخل المجلس... وكان
جواب العقيد إدخاله مادة تبيح إعدام العناصر المشاغبة، الشيء الذي دفع
بالعديد من رفاق السلاح أو من المعارضين إلى مغادرة البلاد. اتخذ القذافي
هذا القرار خلال الزيارة الرسمية التي قام بها إلى ليبيا الرئيس الكوبي
فيديل كاسترو، وفي الوقت الذي كان الجميع ينتظر مغادرة الكولونيل الحكم،
أعلن عن قيام الجماهيرية محل الجمهورية.
تسريح وجه العقيد
لم يتردد العقيد مثله مثل سيلفيو بيرلسكوني في الاستعانة بالجراحة
التجميلية أو التشويهية. وحسب ما جاء في تسريبات «ويكيليكس»، فغالبا ما
لجأ العقيد إلى استعمال الـ«بوطوكس» لمحو تجاعيده، الشيء الذي يفسر
العضلات الجامدة لفكيه ولوجهه المنتفخ. كما أنه قام بعملية زرع للشعر. في
مارس 2011، أفشى جراح برازيلي بأنه أجرى للعقيد عملية جراحية ليعيد له
شبابه. وفي مقابلة خص بها أسبوعية «إيبوكا» البرازيلية، صرح لياسير
ريبيرو، البالغ 70 عاما، والذي شغل منصب رئيس جمعية الجراحة الإستيتيقية
بالبرازيل، بأن القذافي صرح له بأنه على رأس السلطة منذ سنوات وبأنه لا
يرغب أن ينظر إليه الشباب وكأنه عجوز. ولتسريح وجه الكولونيل استخرج
الطبيب الشحم من بطنه ليحقنه في خديه. بعد هذه العملية، عاد الطبيب مرة
ثانية رفقة فابيو النقاش لزرع شعر مصطنع للعقيد. لكن التشويه، الذي طال
خلقته، ليس سوى مرآة للتشويه الذي لازم نتاجه وجنونه السياسي، الذي أوصل
ليبيا اليوم إلى وضع تراجيدي.
بذرة الجنون لدى العقيد القذافي
من هو القذافي؟ يتساءل ألكسندر النجار. ما هي أصوله؟ أي تفسير يمكن تقديمه
لهبله، وجنونه؟ كيف احتضنته المجموعة الغربية بعد أن شيطنته «عقود من
الزمن»؟
ظاهرة القذافي ليست بالجديدة. إذ يشبه غالبية الطغاة المعروفين. فهو حاكم
توتاليتاري، منع تعددية الأحزاب، ورتب الدستور على هواه لضمان ديمومة
سلطته. وبما أنه مصاب بجنون العظمة، فقد راوده حلم بأن يكون خليفة جمال
عبد الناصر لتوحيد الأمة العربية. مستفز، استعراضي، متشنج، يتصرف على هواه
ومن دون ضوابط، يلقي خطبا مبهمة، ويتظاهر بمحاربته الزبونية، ويدافع عن
الديمقراطية على الطريقة الليبية بمنح السلطة للجان الثورية. كمم حرية
الصحافة، وتصرف بطريقة أصولية حتى في محاربته للأصوليين، عبر الرجوع إلى
الشريعة، كما أعرب عن مناهضة الغرب. وقد حمل مسؤولية فشل ثورته للشعب،
مشيرا إلى أن هذه الثورة كانت ستحقق إنجازات خارقة لو كان الشعب مثقفا.
وبشهادة العديد من المراقبين فإن القذافي «معتد بنفسه» (إيريك رولو)،
«مضطرب» (فرانسوا ميتران)، «شخص لا يطاق» (جورج بوش)، «كلب مسعور» (رونالد
ريغان)، «مجنون» (أنور السادات)، «إنسان مزدوج الشخصية» (جعفر النميري)،
«خطر على نفسه وعلى منطقة المغرب العربي» (الحسن الثاني). «في غمرة
الثورات العربية وجهت إلى العقيد تهمة اقتراف «جرائم ضد الإنسانية»، لكن
الجريمة الحقيقية هي الإهمال المتواطئ للمجموعة الدولية التي سمحت ببقائه
لمدة نصف قرن على رأس السلطة