معمر القذافي.. الأخ قائد الثورة قاهر الجماهيرحب حتى الموتالعقيد معمر القذافي
تاريخ النشر: الثلاثاء 29 مارس 2011
تم التحديث: الثلاثاء 29 مارس 2011
في الوقت الذي توشك فيه ليبيا على الوقوع في حرب أهلية، تزداد صعوبة تجاهل
شخصية معمر القذافي غير المستقرة. يدور النقاش حول ما إذا كان الزعيم
الليبي واهما حقيقةً أم أنه يؤدي دورا متهورا يفتقد إلى الحس الأخلاقي
لإطالة أمد قيادته. الأمر المؤكد هو أن تجربته السياسية في ليبيا جعلت
الانتقال المنظم إلى نظام عادل أمرا مستحيلا فعليا.
في أواخر الستينات، أنشأت وكالة الاستخبارات المركزية
الأميركية (سي آي إيه) مركزا لدراسة الشخصية والسلوك السياسي. وتم تكليف
قسم جديد بإعداد بيانات لنفسية الزعماء في العالم، أصدقاء وأعداء الولايات
المتحدة، من أجل تقديم تقييم دقيق لكيفية تصرف الشخصيات المؤثرة في مواقف
معينة. ومن الواضح أنه كانت هناك ميزة كبيرة في توقع سلوك القادة الأجانب،
ولكن التخصص المعروف الآن بعلم النفس السياسي لم يثبت مصداقية دقيقة في
الفترة الحالية.
من المرجح أن الزعيم الليبي معمر
القذافي الذي يشتهر بغرابة أطواره كان خاضعا لعملية جمع بيانات سرية في «سي
آي إيه» أثناء فترة حكمه الممتدة في محاولة لتوقع تصرفاته. وعلى مدار
الأعوام الأربعين الماضية، قام القذافي بتصرفات غريبة، مما عزز من شهرته
بأنه غريب الأطوار. وبعد أن وصفه الرئيس رونالد ريغان بأنه «الكلب المجنون
في الشرق الأوسط»، اشتهر القذافي، في الغرب على الأقل، بإصراره على عقد
جميع الاجتماعات الدبلوماسية رفيعة المستوى في خيمة بدوية - وفي إحدى
المقابلات رفع نعل حذائه في مواجهة توني بلير عندما كان رئيسا لوزراء
بريطانيا - واختياره غير المفهوم لأزيائه، الذي جعل من السهل تصويره كشخصية
فكاهية. ولكن هناك أكثر من السلوك الظاهري الغريب الذي تراه العين، فعلى
سبيل المثال تعد الخيمة وسيلة القذافي لإعطاء انطباع عن أصوله القبلية،
مثلما يقصد من الأزياء التي يرتديها إظهار مكانته كزعيم للشعب. في الأسابيع
الأخيرة، منذ أن أصبحت ليبيا أحدث دولة تقع فريسة لموجة من الاحتجاجات
الشعبية التي تجتاح الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ظهر سلوك القذافي أكثر
غرابة - ويتضح ذلك بمشاهدة اللقطات التي يظهر فيها على شاشة التلفزيون
الليبي ممسكا بمظلة وهو يجلس في ما يشبه عربة ملاعب الغولف - ولكنه في
الحقيقة يتماشى مع طريقته القديمة منذ وصوله إلى السلطة.
كان
الصحافي المخضرم محمد حسنين هيكل، الذي يشتهر بقربه من جمال عبد الناصر،
من بين العديد من المحللين لشؤون السياسة في الشرق الأوسط الذين قدموا فكرة
السياسي كممثل. كان ناصر - مثل خليفته الرئيس المصري أنور السادات - خطيبا
بارعا وكان دائما يقدم نفسه بصورة شديدة الدقة، علما بأن صورته وقوة
شخصيته كانتا أداتين ثمينتين في الحفاظ على السلطة.
ويعرف
العقيد القذافي، الذي يعترف بأنه تلميذ لناصر، قيمة الأداء. وكما يفعل
كثير ممن يسمون أنفسهم بزعماء الأمم، يتسم القذافي بشخصية معقدة وأنسب وصف
لهذا النوع من السلطة التي تعتمد على تقديس الشخصية - والمستعار من نماذج
مريبة مثل ستالين وأخيرا صدام حسين - هو الكاريزمية. في الواقع، يشير طول
بقاء القذافي إلى أن خطابه اللاحق للثورة يرمز إلى جميع الطموحات المميزة
للزعيم المقدس - على سبيل المثال توحيد الشعب خلف التزام مشترك بولاء لا
ينتهي - بل وأيضا إلى براعته في الأسلوب. وبهذا ترسخ الاستقرار النسبي في
ليبيا على مدار الأعوام الأربعين الماضية على نجاح تجسيد القذافي للسلطة
الشرعية في البلاد. إنه قائد المجتمع السياسي في ليبيا ومحور المجتمع
السياسي الليبي في الوقت ذاته، وهو ما حققه بفضل قوة شخصيته، ليبث كلا من
الخوف والثقة في قلوب الليبيين.
الخوف هو الكلمة
الأساسية هنا، يلخص التهديد المتعجرف بالعقوبة العاجلة سلطة القذافي. وتوضح
القصة الحقيقية لهشام مطر، الروائي الليبي، الإرهاب الذي يمارسه نظام
القذافي. أمضى مطر، الذي كان النظام يعتبر والده منشقا، فترة دراسته في
أوروبا يعاني من مشاعر الاضطهاد، لدرجة أنه لم يستطع أن يفصح عن هويته
لأقرب أصدقائه، حيث كان صبيا ليبيا من أسرة موالية للقذافي. يشوب قصته
المأسوية المؤثرة، المنطق الهزلي الملتوي، الاستبداد، حيث يصبح من الضروري
أن يقول المرء شيئا ما ويفعل الآخر من أجل البقاء، وهذا الأداء إجباري على
جميع الممثلين المشاركين.
وفي هذا الإطار، أدلى
القذافي الممثل بأحدث تصريحاته التي ظهرت بعيدا تماما عن الواقع في ما
يتعلق بالاضطرابات المنتشرة في بلاده. لقد ذهب إلى درجة الإصرار على القول:
«إن كل شعبي يحبني. وإنه مستعد للموت من أجلي». وذلك على الرغم من
التقارير الإخبارية التي تشير إلى الاستعانة بمرتزقة أجانب لتخويف وقتل
المتمردين المعارضين للقذافي، مما يشير إلى تناقض عرضي في شخصيته. انتهزت
مندوبة الولايات المتحدة لدى مجلس الأمن سوزان رايس الفرصة لوصف الزعيم
الليبي بأنه «متوهم وغير كفء للقيادة». ربما حقا يكون غير كفء للقيادة،
ولكن لعله أكثر توهما مما كان عليه قبل 40 عاما ماضية، وتحديدا في عام 1969
عندما قاد ضابط الجيش الذي يبلغ من العمر 27 عاما انقلابا للإطاحة بملك
ليبيا الراحل إدريس. وبعد الانقلاب بفترة وجيزة، والذي لم يكن له أدنى صلة
بأي نوع من الانتفاضة الشعبية، ألقى القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة المعين
حديثا البيان التالي: «إن هذه الثورة شعبية.. بعيدة كل البعد عن أن تكون
انقلابا عسكريا.. الشعب هو المعلم، الشعب هو الرائد، الشعب هو الذي ألهم
القوات المسلحة، والشعب هو الحاكم والسيد وملك الملوك».
تؤدي
النرجسية الأكيدة لزعيم يتمتع بكاريزما، بالإضافة إلى التنازل عن الأخلاق،
إلى افتراض متكرر بنوع من عدم الاتزان العقلي. بالطبع يحتل أي دكتاتور
موقعا لا يتاح لطبيب النفس الوصول إليه، ولكن حاول جيرولد بوست، المدير
المؤسس لمركز دراسة الشخصية والسلوك السياسي، حل مشكلة الوصول إلى الشخصية.
جمع بوست تقييمات نفسية سرية لمجموعة كاملة من الشخصيات السياسية القوية
في النصف الثاني من القرن العشرين بتحليل ظهورهم العلني وحاور شخصيات كانت
على اتصال بها. ويؤكد بوست أن البعد عن الشخصية يجعل من الممكن رسم صورة
غير متحيزة، وبهذه الطريقة، على مدار 20 عاما، قدم للحكومة الأميركية
تحليلا لشخصيات أهم الحكام المستبدين في العالم. أعلن بوست، الذي يدرّس
حاليا في جامعة جورج واشنطن، أخيرا عن رأيه في القذافي لقناة «بي بي سي».
قال بوست: «لا يستطيع القذافي استيعاب فكرة أن شعبه الحبيب من الممكن أن
يثور ضده»، ولكن هذا الرأي بأن الزعيم الليبي متوهم كلية لا يضع في اعتباره
جوهر الاستبداد المتناقض.
كانت سلطة القذافي على
الدوام راسخة في التوهم بوجود تأييد شعبي له، بل وولاء لا يفنى. أشار
المراقبون للتطور السياسي للقذافي ومشروعه السياسي الفريد الذي نفذه في
ليبيا، إلى تطور معقد لفكره الذي تجدر مقارنته بنظريات جان جاك روسو. توجد
تكهنات حول ما إذا كان القذافي متأثرا بصورة مباشرة بروسو، ولكن تتشابه
تجربة «الجماهيرية»، التي حولت البلاد بأسرها إلى أمة مفترض أنها ذات
ديمقراطية مباشرة والتي عبر عنها على صفحات كتابه الأخضر الشهير، في نقاط
غير قابلة للبس مع أفكار الفيلسوف الفرنسي. يؤيد وجود مثل هذا الاهتمام
السياسي القوي، وإن لم يكن مترابطا، من جانب القذافي، فكرة أنه على الرغم
من غرابة أطواره الواضحة (ارتداؤه الدائم لنظارة شمسية ومجموعة من النساء
للحراسة ومن الشقراوات للتمريض) إلا أن هناك منهجا لما يهذي به من أفكار.
تشير
إحدى النظريات إلى أن الإفراط في تمثيل الرجال الأقوياء سياسيا في الشرق
الأوسط يخضع لعوامل ثقافية في المنطقة تشجع على النرجسية في السلطة. يقال
إن خصائص القومية العربية، التي كان القذافي من أشد مؤيديها، تدعم على نحو
خاص صورة الأب الكاريزمية. ولكن يُنظر إلى تجربة القذافي السياسية في ليبيا
على أنها ظاهرة الرجل القوي وليست ظاهرة ثقافية. وتساهم الأوضاع الفريدة
في ليبيا والتطبيق الفردي لفكرة الجماهيرية في ظهور القذافي كشخصية واهمة.
السمة
العملية الخطيرة في الجماهيرية الليبية هي حقيقة أنها محت بالفعل جميع صور
التمثيل السياسي وفي النهاية تمركز النفوذ السياسي في يد زعيم الجماهيرية
العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى «الأخ قائد ثورة الفاتح من
سبتمبر العظيم»، وهو اللقب الذي اتخذه القذافي لنفسه عام 1979. ربما يبدو
اللقب منافيا للبديهة، ولكن جعل محو البنية التحتية السياسية للبلاد من
الأسهل على القذافي حكمها. وعلى الرغم من أن منصبه الرسمي مجرد قائد رمزي –
مما يضع في الاعتبار تشبيهه لذاته أخيرا بالملكة إليزابيث الثانية - فإنه
أيضا لا توجد حكومة أو معارضة، مجرد شبكة فضفاضة عاجزة من «اللجان الشعبية
واللجان الثورية». ومن أجل البقاء على رأس السلطة يستطيع الزعيم المقدس أن
يفعل ببساطة ما كان يفعله - حتى وقت قريب - وأن يرسم حوله هالة من الخوف مع
ظهوره المهيب، اعتمادا على قوة جبرية موجودة باستمرار.
الحقيقة
المروعة هي أن الشعب الليبي يحب زعيمه بالفعل حتى الموت، لأن القذافي
وضعهم في موقف أصبح فيه الخياران الوحيدان المتاحان هما الحب أو الموت.
وليس من المرجح على الإطلاق أن ينتهي الاضطراب الحالي في البلاد - والذي
يبدو وقت كتابة هذا الموضوع متجها نحو حرب أهلية - بإقامة منظمة لما يشبه
نظاما عادلا أو منضبطا، بفضل جهود الأعوام الأربعين الأخيرة لمحو أي معارضة
قوية. ومن غير المرجح أيضا أن يرحل القذافي بهدوء، بعد أن استغرق بصورة
كاملة في تقديس شخصيته لدرجة أنه في النهاية أصبح يجسد دوره حقيقة.