ظل القذافي يضع كتاب "الرأسمال" على يمينه و"الرأسمالية" على يساره،
ليبشر الليبيين بأن نجلي الحضارة الغربية وتطور التاريخ لا يساويان شيئا
أمام عبقرية النظرية العالمية الثالثة، ولا يمكنهما أن يعادلا التفكير
العملي والنظري الفذ لشخصيته ، التي جادت بها الصحراء على أبنائها
الليبيين. وظل يصدق الأحجية وينفق المال من أجل أن يكون له، المرفق الأعلى
في بناء الحضارة. وظل القذافي أيضا يعتبر أن البلاد مختبر صحراوي لكل
الافكار التي تخطر على باله، أو التي لم تجد بالا آخر، عاقلا، لكي تخطر
به، فدخلت رأسه واستوطنته. أربعون سنة، والقذافي يهذي علي مرأى من العالم ،
ولم نسعفه في أية لحظة ، نحن العرب ونحن المسلمون ونحن الأفارقة، بطبيب
أو بسيارة إسعاف تقوده الى حيث كان من الممكن أن يواصل شطحاته. كنا جميعا
في العالم نتوزعه بين مؤمن بثوريته، وبين مخدوع في قوميته وبين من يستمري
أضواءه على مسرح دولي ملتبس يقبل به ويقبل بالصعود الى القمر في نفس النشرة
الاخبارية.
أربعون سنة والرجل يؤمن بأن البشرية بطيئة الفهم،
عاجزة عن فهم ما يقدمه لها من ألوان الفكر وأطراف العقل، ولم يفهم
القذافي، الثوري النحيف، أن يقبل بأن تتطور البشرية، حتى تقر بأنه على
صواب استراتيجي، يقضي على كل أشكال الفكر المنحرف ماركسيا أو رأسماليا. ظل
القذافي فوق المسرح، يقلد التروبادور أحيانا، ويقلد شخصيات تنبثق من عقله
الباطني والسطحي، ويقبل أفكاره المسرنمة كما لو كان في فيلم عتيق ..
ولم يكن يحرم نفسه من القتل ومن التصفيات التي تبقيه تحت خيمة السلطة.
حين نستيقظ ولا نجد القذافي، سنفكر ولا شك أن العرب يكبرون ، قليلا ،
بعيدا عن رؤ?اءهم وقادتهم الأفذاذ والمستنيرين بنور الله العظيم، في
أحلامهم الثورية وفي أفكارهم السلطوية ، حتى يركع الشعب المسكين والفقير
إليه منذ أربعين سنة وأكثر? حين نستيقظ ولا نجد القذافي، نشعر بالفعل بأن
تيارا هوائيا جاء بالتاريخ إلى غرف الحكم المغلقة على الحاكم وأشباحه أو
أشباهه . الحاكم الذي يستطيع أن يبقى، ضدا على كل قوانين الطبيعة والتاريخ
والبورصة والمصالح والمبادلات التجارية، ضد كل أحوال الطقس والنشرات
الإخبارية، وعلى كل التحولات الجيواستراتيجية، أربعين سنة وبعض
الغبار.ويحول البلاد الى غرفة عائلية فوق السجون والقبور والمصطبات المتقدة
على درب التعذيب والتنكيل والبهرجة الفكرية.
أربعون سنة لكي
نكتشف أن القذافي معمر.. بالخاوي،? وأن سببا ما، غير حكيم ،لا مفهوم،
أبقاه كل هذه المدة بالرغم من أنه حول ليبيا الى أنقاض تتحول فيها شخصياته
العديدة في زي قريب من الفزاعات. لقد أعطانا العقيد الصورة التي تصبح
عليها البلدان العربية قبل أن يعصف بها الربيع، دويلات على مقاس العائلة
والأقارب ، وفوق أفخاذ العشيرة وفي سرير الأقرباء.
تحولت
ليبيا إلى سرير للممرضات ، اللواتي يحمين فحولة الرئيس، كما تحولت إلى بنك
شاسع بشيك باسم سيف الاسلام، الذي لا يتورع في مخاطبة العالم بلغة سوقية لا
يعرفها المسؤولون، وإلى شركة معروفة الاسم والصفة تديرها عائشة، والى
شاطئ مقفر تمرح فيه شبكات القبيلة، بالخيل والبارود، ولم يبق له، بطبيعة
الحال سوى الأبناء ليتحدثوا باسمه أو ليطلقوا الرصاصة الأخيرة على شعب لا
يريد الخنوع. نودع القذافي وعيوننا على دمشق.
سيبدأ الخطاب من
جديد حول مصير الدولة ومصير الشعب إذا سقط الطوطم. ليسقط الطوطم وسوف
تتحرر الشعوب من القتلة ومن مصاصي الدماء والمسعورين ، وسترسم خارطة بلادها
بكل الألوان، ،تنادي الأرض بكل الاسماء ، غير أسماء العائلة. لقد انتهى
عصر السلطة التي تخرج من بين الصلب والترائب في جمهوريات عارية على قارعة
التاريخ، سلطة تخير الشعب بين السجن والمقبرة، بين الزحف على البطون أو
الوقوف في الهامش. هذا الشعب الذي يهان، لا يهادن في لحظة الحرية، وكل
الشعارات التي رفعها الحاكم في اللحظات السابقة على سقوطه، لن تستطيع أن
تضيف يوما واحدا في حياته السياسية. لقد ظل الحاكم يعتقد أن كل مطالب
بالحرية هو جاسوس أو عميل للقوى الاجنبية ، وهو يعتقد بأنه يخرج الحجة
الكبرى من قبعته.
وظل ينعت كل معارض بالكلب الأجرب وبالجرذ
الذي لا يستحق شرف أن يقتسم معه الشمس التي تطلع على البلاد، وهو يعتقد
بأنه سينام بين شعب أقنعته المهزلة. ولما استفاق على صوت الحرية، لم يصدق ،
فأخرج سلاحه لعله يقتل فكرة تجول في كل الرؤوس. ولكن السلاح كان يطيش في
كل النواحي، ولا يصيب سوى .. الطوطم الإفريقي الذي سقط بلا مسيرات تخرج
لوداعه وبلا شعوب كان يعتقد بأنها تنتظر نهوضه من الفراش لكي تدون حياتها،
ولكي ترسم مستقبلها. يا لها من نهاية تبعث على الشفقة ، يا له من تاريخ
كالنفايات.