"عندما خرقةُ تستر الخريطةلا يكاد العار يكفـــــيلكل هذه الدول العاريــة!"قاسم حداد
شهدت أحداث الهوس الكروي الأخيرة، في مصر والجزائر، مُطالبة إعلامي مصري
مُخضرم، على شاشة تليفزيون الدولة، باعتبار فريق كرة القدم في جمهورية مصر
العربية، وبصورة رسمية، رمزاً للوحدة الوطنية والكبرياء الوطني! تذرع
الاعلامي الكبير في دعوته (المُنافية للمنطق) بذرائع شتى، منها انتصارات
الفريق، ونجاحه في تأجيج المشاعر الوطنية على نحو غير مسبوق، والتفاف
الجماهير حوله! ومنها أيضاً تكريم أعضاء الفريق، وبعضهم أسطوري!
الناس في مصر يُشبِهون الهزيمة الكروية بهزيمة 1967، والناس في الجزائر
يُشبِهون الفوز الكروي باستقلال 1962! أوهام أورثت شعوبنا الهوس!
من هنا تأتي أهمية هذه المقالة، وفيها أحاول لفت الانتباه إلى خطورة
الاخفاق المُستدام في التعاطي مع "القومية"، لأنه ـ برأيي ـ يظل مسئولاً
عن رواج مثل هذه الأوهام! ولسوف أفسر هذا الاخفاق في ضوء فكرنا الأنسني(1)!
القوميات، وكما يُنبئنا الواقع، تختلف فيما بينها وفقاً للأفكار السياسية
والتقاليد التي تتضمنها، وللذكريات والآمال التي تستحضرها، ولموقفها إزاء
جيرانها وإزاء المجتمع الدولي، ولدرجة تركيزها على نفسها ودعاواها في
التفرد! بيد أن الخطورة ـ وبحسب هانز كوهن ـ تكمن في أن القومية، شأنها
شأن كل المشاعر الجماعية التاريخية، عُرضة لأن يُستولى عليها وأن يُساء
استخدامها من جانب باعة الأوهام(2)! وهذا على الأرجح عين ما يحدث في
ربوعنا الحائرة!
لنتذكر مثلاً الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وهو يُصرح بعد شهور
من هزيمة 1967 بقوله(3): "إننا نسعى إلى صرف اهتمام الشباب ـ يقصد الشباب
المصري ـ إلى الحماسة، والتعصب للكرة، وسماع أغاني أم كلثوم"!
ولننظر
أيضاً إلى المصريين الذين ذهبوا مؤخراً إلى السودان لمؤازرة فريق كرة
القدم، في تصفيات كأس العالم، سنجد بينهم أبرز رموز النخبة المصرية
الحاكمة! إلى هنا ولا مشكلة..ما يُوجع القلب حقاً هو كم الطائرات الخاصة
التى خُصصت لبعض أثريائهم، في وقت تُجاهد مستشفيات السرطان والفشل الكلوي
في بلادي أوضاعاً مُهينة! ذهبوا لايهام مواطنيهم أن حُلماً وطنياً يُوشك
أن يتحقق!
على أية حال، لنبدأ تحليلنا لتعاطي الثقافة العربية مع فكرة القومية..
ما المقصود بـ "القومية"؟القومية
من أهم المشاعر الجماعية التاريخية التي تربط الإنسان بالجماعات وتجعله
يحبها ويفتخر بها ويعمل من أجلها ويضحي في سبيلها. وما أعنيه بالقومية هنا
هو حب الأمة ـ جماعة من البشر ـ، والشعور بارتباط باطني نحوها..
المشكلة أن للأمة تعريفات كثيرة، يحاول كل منها استخلاص فكرة الأمة إما من
أحاسيس الناس أو من ظواهر بيولوجية أو سياسية أو من التاريخ الاجتماعي(4).
بيد أن تعريفاً بعينه لا يتسيد الحياة، وهي المُختبر العلمي الحقيقي!
في
محاضرة بنادي المعلمين ببغداد عام 1928، أورد ساطع الحصري ما اعتبره عوامل
بعينها، تربط الأفراد بعضهم ببعض، وتؤلف منهم أمة واحدة(5):
1.
الاعتقاد بوحدة الأصل والشعور بالقرابة، والنشوء عليهما، سواء أكان ذلك
موافقاً للحقيقة أم مخالفاً لها! فالأمم من وجهة نظر الحصري أشبه بالأنهر
العظيمة! وكل نهر من الأنهر تجري فيه مياه من منابع ومصادر وروافد مختلفة.
والأنهر الكبيرة تكون كثيرة المنابع وعديدة الروافد بوجه عام، وإذا بحثنا
عن منبع نهر من الأنهر، فإنما نفعل ذلك بالنسبة إلى ما هو الغالب
والأساسي، ولا نعني بذلك أن جميع مياه النهر تأتي من منبع واحد فعلاً!
2.
اللغة والتاريخ، هما ـ بحسب الحصري ـ العاملان الأصليان اللذان يؤثران أشد
التأثير في تكوين الأمة! فاللغة هي أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد
البشري بغيره من الناس. لأنها أولاً، واسطة التفاهم بين الأفراد، ثم هي
فضلاً عن ذلك، وعاء التفكير. وأخيراً، هي واسطة لنقل الأفكار والمكتسبات
من الآباء إلى الأبناء، ومن الأجداد إلى الأحفاد! صفوة القول إن وحدة
اللغة تُوجد نوعاً من الوحدة في التفكير وفي الشعور، وتربط الأفراد بسلسلة
طويلة ومعقدة من الروابط الفكرية والعاطفية.
3.
أما التاريخ، فهو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها. فكل أمة من الأمم إنما تشعر
بذاتها وتُكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص. وليس المقصود التاريخ المدون
في الكتب، بل التاريخ الحي في النفوس، الشائع في الأذهان، المُستولي على
التقاليد! إن وحدة التاريخ تُولد تقارباً في العواطف والنزعات، إنها تؤدي
إلى تماثل في ذكريات المفاخر السالفة وفي ذكريات المصائب الماضية، وإلى
تشابه في أماني النهوض وآمال المستقبل..
4.
من العوامل الأخرى التي ذكرها الحصري على أنها تؤثر في تكوين الأمم وتميز
بعضها عن بعض، عامل الدين! فهو تارة ينضم إلى تأثير اللغة والتاريخ
فيقويهما، وتارة يُضعفهما! الدين يُولد نوعاً من الوحدة في شعور الأفراد
الذين ينتمون إليه، ويثير في نفوسهم بعض العواطف والنزعات الخاصة التى
تُؤثر في أعمالهم تأثيراً شديداً! وطبقاً للحصري، تظل الرابطة الدينية
وحدها غير كافية لتكوين الأمة، وهو رأي قاسٍ بعض الشيء!
5.
طبقاُ للحصري، لا يتغلب عامل آخر على تأثير عاملي اللغة والتاريخ، في
تكوين الأمة، سوى عامل الاتصال الجغرافي، لأن فقدان الاتصال الجغرافي قد
يؤدي إلى بقاء أجزاء الأمة الواحدة منفصلاً بعضها عن بعض، رغم اتحادها في
اللغة والتاريخ. زد على ذلك، أنه قد يؤدي ـ بمرور الزمن ـ إلى تباعد
وتباين في اللغة والتاريخ أيضاً. وهذه النتيجة التي تظهر من التجارب
الحياتية، دفعت بعض المفكرين للحديث عن نظرية "مشيئة التعاشر ورغبة
الاتحاد"، فقالوا إن أهم العوامل التي تلعب دوراً حاسماً في تكوين الأمة،
هو مشيئة الجماعات في البقاء متحدين، وفي تكوين أمة متحدة، تتمتع بشخصية
واستقلال! وهو ما لا يُقره الحصري!
قارئي
الكريم، ثمة علاقة وطيدة بين مفهوم القومية ـ المُشار إليه تواً ـ ومفهومي
الوطنية والدولة! الوطنية هي ارتباط الفرد بقطعة من الأرض تُعرف باسم
الوطن، وبالتالي فمفهومها لا يختلف كثيراً عن مفهوم القومية! لأنه كما أن
حب الوطن يتضمن، بطبيعته، حب المواطنين الذين ينتمون إلى ذلك الوطن، كذلك
حب الأمة يتضمن، بطبيعته أيضاً، حب الأرض التي تعيش عليها تلك الأمة!
لهذا السبب يتقارب مفهوم الوطنية من مفهوم القومية تقارباً كبيراً، غير
اننا إذا أردنا أن نُحيط علماً بماهية هذين المفهومين ـ الوطنية والقومية
ـ إحاطة تامة، يجب علينا أن نلاحظ علاقة كل منهما بمفهوم ثالث مُهم، هو
مفهوم الدولة.
الدولة في أكثر تعريفاتها شيوعاً هي(6): "جماعة من البشر، يقيمون بصفة
دائمة في أرض معينة، وتُسيطر عليهم هيئة منظمة، استقر الناس على تسميتها
الحكومة". مفهوم الدولة، وكما نرى، يرتبط بمفهوم الوطن من جهة وبمفهوم
الأمة من جهة أخرى، فيكون بذلك خط واصل بين هذين المفهومين. بيد أن هذا
الارتباط لا يكون على نمط واحد في كل الدول والأمم وفي جميع أدوار
التاريخ، بل إنه يلبس أشكالاً متنوعة! والحصري يُلخص لنا، على نحو وافٍ،
أهم هذه الأشكال:
1.
إن الأمة قد تؤلف دولة واحدة مستقلة، وهنا تنطبق الوطنية على القومية تمام
الانطباق، ولا تختلف مطالبها عن مطالب القومية اختلافاً فعلياً.
2.
غير أن الأمة قد تؤلف دولاً عديدة، كل واحدة مُستقلة بنفسها. وهنا تُوجد
كل دولة من هذه الدول وطنية خاصة بها، تسعى إلى تقويتها بكل قواها، بينما
تكتفي القومية ـ في مثل هذه الحالات ـ ببناء فكرة وطن معنوي مثالي أوسع
وأعظم وأعلى من الأوطان القائمة، تصبو نفوس القوميين في هذه الأوطان إلى
تحقيقه واخراجه من عالم الفكر والتمني إلى عالم الواقع.
3.
قد تكون الأمة محرومة من دولة خاصة بها، وتابعة لدولة أجنبية عنها. وهنا
يحدث نزاع وخصام بين الوطنية التى تفرضها الدولة الحاكمة وبين القومية
التى يشعر بها أفراد الأمة المحكومة! القومية في هذه الحالة ترمي إلى
تكوين وطنية جديدة خاصة أضيق نطاقاً من الوطنية القائمة العامة.
4.
ولكن الأمة قد تكون محرومة من الاستقلال، وفي الوقت نفسه مُجزأة وموزعة
بين عدة دول أجنبية عنها. القومية في تلك الأمة المُجزأة ستعارض ذلك
معارضة شديدة، وتحمل جميع أفراد الأمة في جميع الدول الأجنبية عنها على
مقاومة الوضع القائم. وتدعو من جهة للاستقلال عن جميع الدول الحاكمة، ومن
جهة أخرى لتكوين دولة قومية جديدة، تجمع شتات الأمة المُجزأة تحت لواء
واحد، على أرض وطن قومي واحد.
القومية إذن، قارئي الكريم، تنطبق على الوطنية تارة، وتختلف عنها تارة
أخرى، وتأثيرها ينضم إلى تأثير الوطنية أحياناً، ويخالف ذلك التأثير
أحياناً أخرى. بيد أن القومية أصبحت ـ وعلى نحو ما سنرى في بقية هذه
المقالة ـ من أهم العوامل التي تؤثر في تطور الدول، منذ أوائل القرن الـ
19 وحتى الآن!
نشوء فكرة القومية في الحضارة الغربية: تُحدد الثورة الفرنسية التي وقعت في سنة 1789 نقطة تحول في التاريخ
الغربي. في أول الأمر، بدا أن النهضة الجديدة والأكثر عمقاً التي كانت
أمنية أوروبا كلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قد أخذت طريقها
إلى التحقق في فرنسا. وايقظ الاتصال بأفكار الثورة الفرنسية الحياة
السياسية والفكر السياسي من غفلاته في القارة الأوروبية، وعلى الخصوص في
ألمانيا وإيطاليا. فحب الحرية، واستهداف تكوين أمة واحدة غير منقسمة،
والشوق إلى تضامن قومي جديد وروح قومية جديدة، وفكرة دولة تضرب جذورها في
الرضاء الشعبي وحماسته وتسندها المشاركة الايجابية للناس ـ مفاهيم برزت
كلها مع الثورة(7).
غير أن التطورات اللاحقة أماطت اللثام عن وجهين من تأثير الثورة الفرنسية
على العالم الغربي! فقد قوت الديمقراطية في البلاد التي كانت توجد بها
أفكار مستقرة من قديم عن الحرية، وحكومة ذاتية محدودة القوة. كانت الحال
كذلك في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وسويسرا، وعلى العموم في كل تلك
البلاد الأوروبية الصغيرة التى تبعت النموذج الانجليزي للقومية،
سكانديناوة وهولندة.
في الدول الأخرى، أثارت الثورة الفرنسية قومية عسكرية! وقد ضرب الجيش
الفرنسي المثل على ذلك. إذ وضع الجنرال "بونابرت" قائداً للأمة في سنة
1799. وتتابعت الدساتير على الورق وقدمت النظم النيابية المحدودة السلطة
واجهة ديمقراطية. وهكذا لم ينم لدى الفرنسيين احترام الدساتير والأجهزة
البرلمانية الذى يميز البريطانيين والأمريكان. وورثت القومية في فرنسا وفي
القارة على العموم روح الحكم المطلق بما فيها من خوف من الحكومة الذاتية
واتجاه نحو المركزية. الفرنسيون، ورغم اطاحتهم بالملكية في 1789، جعلهم
ماضيهم أقل أهلية لاستبدالهم بها حكومة مستقرة وحرية تحت سلطان القانون!
لم يصل الفرنسيون إلى هدف الحرية المستقرة واحترام القانون إلا بعد 120
عاماً!
جاوز نابليون الأول الملكية كثيراً في المركزية وفي مطامحه! لقد فرض ميراث
فكرة الامبراطورية الرومانية على القومية الفرنسية! وحاول مؤتمر فينا عام
1815، في نهاية الحروب النابليونية، أن يُعيد أوروبا إلى ما قبل القومية!
وبالفعل، مرت أوروبا بفترة سلم دولي أكثر من أربعين عاماً حتى استعمل
نابليون الثالث وأوتوفون بيسمارك وسيلة القومية العسكرية في خدمة آمالهما
في القوة. فلم يكن ثمة أثر لسباقات التسلح أو المركزية أو التقدم في
الوسائل الفنية الحربية. وكان هذا السلم، على أية حال، منبعثاً من الرضا
والاكتفاء الذاتي المبني على استيفاء الحالة القائمة. ومع ذلك فإن شعور
الرهبة الغامض بعض الشيء نحو الملكيات صاحبة الحق المقدس، بدأ يفقد بريقه
خلال الحروب النابليونية. رغم أنه ظل باقياً بعد ذلك بين الطبقات
الألمانية العليا والمتوسطة، وربما بين الفلاحين الروس حتى بداية القرن
العشرين. وساعد بيسمارك في ألمانيا والكونت كافور في إيطاليا على إضعاف
مبدأ شرعية الملكية بهدمهما الملكيات القديمة بشكل مهين!
ووراء الواجهة الأرستقراطية للحياة، بدأت الثورة الديمقراطية والاجتماعية
التي عبرت عنها أفكار الثورة الفرنسية سنة 1789 تنتشر في سنة 1815 في بطء،
ولكن في عمق، بدرجات مختلفة في أوساط المفكرين أولاُ، ثم الجماهير..
وفي نهاية فبراير 1848 اندلعت الثورة مرة أخرى في فرنسا، وأقيمت الجمهورية
الثانية. وفي هذه المرة أثرت الحوادث في وسط أوروربا كله بسرعة لم تكن
متوقعة. وحملت الثورة المُجددة إلى كل مكان الميراث المزدوج لسنة 1789 ـ
التحررية والقومية. وأثبتت القومية مرة أخرى، كما فعلت من قبل نصف قرن،
أنها أقوى من التحررية، فوضعت الأخيرة ـ طول مدة بقائها في أوروبا ـ نفسها
في خدمة القومية العسكرية. وفي فرنسا ذاتها بهرت أفكار نابليون الأغلبية
الساحقة من الشعب. وانتهت الجمهورية الثانية إلى ديكتاتورية عسكرية!
كان المفكرون في أنحاء أوروبا الوسطى أقل شجاعة في سبيل التحررية. ومن ثم
هزمت المطامح المتنازعة للقوميات المختلفة فيما بين 1848ـ1849 الأمل في
التحررية وفي السلم الدولي، ومكنت للملكيات المحافظة شبه المطلقة أن تتابع
الحياة. على أن هذه القومية المتأججة استمرت في الانتشار في أوروبا الوسطى
بعد 1918 عام سقوط الملكيات. وبعد أقل من عشرين عاماً من نهاية الحرب
العالمية الأولى، عمت الديكتاتوريات المستبدة أوروبا الجنوبية والوسطى.
وانتصرت الفاشية في كل مكان تقريباً بوصفها نوعاً من القومية المُركزة على
نفسها بشكل مُبالغ فيه! على انه، حتى حيث لم تحل الفاشية محل النظم
الديمقراطية، فقد حطم الديمقراطية تصرف الحكومات على أنها ممثلة لجماعة
الجنس المُفضل أو لجماعة دينية أو لطبقة من أجل الاضرار بالغير وتحقيره.
صفوة القول إن الثورة الفرنسية، بتأججها وتجددها، تقف وراء نشوء وشيوع
فكرة القومية بين أبناء الحضارة الغربية! ففرنسا هي قلب أوروبا، وثورتها
المُلهمة لم تلبث أن تجاوزتها إلى بقية أوروبا، ومنها إلى العالم، على نحو
مُدهش!
التعاطي مع فكرة القومية في الثقافة العربية:كان
من الطبيعي، في ظل نشوء وشيوع فكرة القومية، في شتى أنحاء العالم، ان
تتزعزع وتتخلخل اركان الكثير من الدول القائمة، وان تتغير وتتطور اوضاع
معظم الدول، وفق مقتضيات فكرة القومية ومطالب مبدأ القوميات..
كان من الطبيعي أن تتفكك اوصال الدول المؤلفة من أمم متعددة، وكان من
الطبيعي أيضاً ـ بعكس ذلك ـ ان تتحد اوصال الدول التى تنتسب إلى أمة
واحدة! وعليه، ظهرت على المسرح العالمي بعض الدول الجديدة، وزالت من
المسرح بعض الدول القديمة! السلطنة العثمانية مثلاً أخذت تتفكك شيئاً
فشيئاً.
وللسلطنة العثمانية ارتباط كبير بحديثنا عن وفود فكرة القومية إلى ثقافتنا
العربية! ففي أوئل القرن التاسع عشر، عندما بدأت فكرة القومية تلعب دوراً
مهماً في السياسة الأوروبية، كانت البلاد العربية داخلة في حوزة السلطنة
العثمانية منذ قرون عديدة، وذلك باستثناء المغرب الأقصى من جهة، وحضرموت
مع قلب الجزيرة العربية من جهة أخرى! وكانت البلاد العربية هادئة وخاضعة
هدوء الولايات التركية وخضوعها! غير أنه حدث فيها، في النصف الأول من
القرن التاسع عشر، حادثان خطيران، زعزعا الأوضاع القائمة في السلطنة
العثمانية زعزعة شديدة، هما: ثورة الوهابيين في نجد وثورة محمد على باشا
في مصر.
كانت الثورة الوهابية حركة دينية في الدرجة الأولى، ولهذ لم تؤثر في نشوء
فكرة القومية العربية تأثيراً يُذكر. وأما ثورة محمد علي، فهي أيضاً لم
تستمد قوتها من نزعة قومية، ولهذا السبب لم تُؤثر في نشوء فكرة القومية
العربية تأثيراً مباشراً، ولكنها خدمت القومية العربية خدمة كبيرة، ولو
بصورة غير مباشرة. لأنها اوجدت دولة عصرية ـ نسبياً ـ قائمة في بلاد
عربية، وأفسحت بذلك ميداناً واسعاً لقيام حراك فكري وأدبي عربي. أما نشوء
فكرة القومية العربية، بمعناها التام، فقد بدأ في البلاد العربية التي
كانت باقية تحت الحكم العثماني المباشر، كسوريا والعراق، في النصف الثاني
من القرن التاسع عشر.
كانت الدولة العثمانية تُعامل المسلمين من العرب معاملة تختلف كثيراً عن
معاملتها للمسيحيين منهم. ولهذا السبب كان ارتباط العرب بالدولة العثمانية
يختلف باختلاف أديانهم اختلافاً بارزاً! وللسبب نفسه نجد أن التفكير في
القومية العربية بدأ عند العرب المسيحيين قبل أن يبدأ عند المسلمين منهم.
كما أن الكتاب والشعراء الذين سبقوا غيرهم في الدعوة إليها كانوا من العرب
المسيحيين(8).
وساعد على ذلك أنهم ـ أعني العرب المسيحيين ـ كانوا أكثر تفاعلاً مع
الحضارة الغربية. لأن اعتقاداتهم الدينية وأحوالهم الاجتماعية ما كانت
تُقيم بينهم وبين الغربيين حواجز معنوية، تُعرقل التواصل الثقافي. ولذلك
كان تأثير فكرة القومية في هؤلاء أشد وأسرع من تأثيرها في إخوانهم من
العرب المسلمين..
بيد أن فكرة القومية العربية لم تلبث أن شملت جميع العرب ـ من مسلمين
ومسيحيين ـ، وصارت تُوجههم وجهة واحدة! والتالي عرض لأهم التيارات
الرئيسية التى تنازعت، ولا تزال تتنازع، ثقافتنا العربية، إزاء فكرة
القومية:
التيار اللاقومى ـ الإسلامي: يرفض
أنصار هذا التيار فكرة القومية, الوافدة من الغرب, باعتبارها افتئاتا على
الأخوة الإسلامية وتهديداً لوحدة المجتمع الإسلامي. ويُعد المُفكر الراحل
"سيد قطب" أبرز أنصاره وأكثرهم تأثيراً، فمؤلفه الشهير "معالم في الطريق"
يُكرس رفض القومية المعاصرة ويستبدل العقيدة بها. وتنبع رؤية قطب من
إدراكه للمعطيات التاريخية والمعاصرة، على نحو خاص، التالي أبرز ملامحه:
1. عقيدية الحضارة :
يعتبر
قطب انصهار الأجناس المختلفة في بوتقة العقيدة الإسلامية مُحدداً مُهماً
لازدهار الحضارة الإسلامية في الماضي، حيث ضم المجتمع الإسلامي أجناساً
شتى كالعرب والفرس والأتراك، مما أتاح للحضارة الإسلامية الاستفادة من
مميزات كل جنس، خاصة وأن الإسلام ألف بين هذه الأجناس المختلفة ونظر إليها
على قدم المساواة، وهو ما لم يتوافر لحضارة أخرى. وبذلك ينفي قطب عروبة
تلك الحضارة, ويؤكد عقيديتها وهويتها الإسلامية، ويعبر عن ذلك بقوله(9):
"اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري
والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والإندونيسي
والأفريقي..إلى آخر الأقوام والأجناس. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة
متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن
يوما قومية إنما كانت دائما عقيدية..لقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة
وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلي وجهة واحدة. فبذلوا جميعهم أقصى غاياتهم،
وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية
والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم
المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم
وحدها بلا عائق، وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ".
2. جاهلية العالم :
على
خلاف رؤيته للماضي الإسلامي الزاهر، يرى قطب العالم المعاصر رافلاً في
جاهليته، تلك الجاهلية التي تُمثل القومية بمفهومها المعاصر أحد ملامحها.
ولا تحول التيسيرات المادية المعاصرة دون قناعة قطب بجاهلية عالم اليوم
لاعتدائه على أخص خصائص الألوهية وهى الحاكمية. فنراه يساوي بين جاهلية ما
قبل الإسلام وجاهلية اليوم ممثلة في ادعاء حق وضع التصورات والقيم
والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بعيداً عن منهج الله وافتئاتاً على
سلطانه. ويذهب قطب إلى أبعد من ذلك بتأكيده على إفلاس فكرة القومية وعدم
قدرتها على الاستمرار في أداء الدور المنوط بها باعتبارها أحد مظاهر
الحضارة الغربية المشرفة على الزوال، لنفاذ رصيدها من القيم، ويعبر عن ذلك
بقوله(10):
"إن
العالم يعيش اليوم كله في جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية
الهائلة، وهذا الإبداع المادي..هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على
سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية..وهى الحاكمية..إنها تسند
الحاكمية إلي البشر، فتجعل بعضهم لبعضاً أرباباً، لا في الصورة البدائية
الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات
والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله
للحياة، وفيما لم يأذن به الله..فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله
اعتداء على عباده".
وقوله(11):
"لقد
أدت النهضة العلمية دورها، هذا الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في
القرن السادس عشر، ولم تعد تملك رصيدا جديدا..كذلك أدت الوطنية والقومية
التي برزت في تلك الفترة، والتجمعات الإقليمية عامة دورها خلال هذه
القرون، ولم تعد تملك هي الأخرى رصيداً جديداً".
3. عقيدية القومية:
بينما
ينكر قطب القومية بمفهومها الغربي المعاصر، فإنه يتبنى مفهوماً مغايراً،
فجنسية المسلم عقيدته ووطنه دار الإسلام وحاكمه الله ودستوره القرآن.
وينبع هذا المفهوم المغاير من قناعات قطب الخاصة بعقيدية الحضارة
الإسلامية وجاهلية العالم المعاصر، وإيمانه بأن عصبية العشيرة والقبيلة
والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة متخلفة، عصبية جاهلية عرفتها
البشرية في فترات انحطاطها الروحي. فضلاً عن تمييزه بين دارين، إحداهما
دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة
الله، وتُقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون بعضهم بعضاً. والأخرى دار
الحرب، تلك التي تحكم علاقة المسلم بها المهادنة على عهد أمان أو القتال.
ويعبر قطب عن ذلك بقوله(12):
"إن
عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة
متخلفة..عصبية جاهلية عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي، وسماها
الرسول(ص) منتنة بهذا الوصف الذي يفوح منه التقزز والاشمئزاز..وكل أرض
تحارب المسلم في عقيدته، وتصده عن دينه، وتعطل عمل شريعته، فهي دار حرب
ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته..وكل أرض تقوم فيها عقيدته
وتعمل فيها شريعته، فهي دار إسلام ولو لم يكن له فيها أهل ولا عشيرة، ولا
قوم ولا تجارة..والأمة التي يكون من الرعيل الأول فيها أبو بكر العربي،
وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وإخوانهم الكرام. والتي
تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع..الجنسية فيها هي العقيدة، والوطن
فيها هو دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها القرآن".
وهكذا
يرفض سيد قطب القومية العربية صراحة، ويقرر بوضوح أنه كان في استطاعة
الرسول(ص)، وهو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً، أن يثيرها قومية
عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات،
وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة
(الرومان في الشمال, والفرس في الجنوب)، وإعلاء راية العروبة، وإنشاء وحدة
قومية في كل الأرجاء العربية. لأنه لو فعل ذلك لاستجابت له العرب قاطبة،
بدلاً من أن يعاني وصحبه أعواماً في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان.
ولكنه لم يفعل، وهو ما يفسره قطب بتوجيه الله له أن يصدع بلا إله إلا
الله، وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء، حتى لاتخلص
الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى يد طاغوت عربي، فالطاغوت كله
طاغوت، والبشر لا يكونون عبيداً إلا لله وحده، فلا حاكمية إلا لله، ولا
شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله، ولأن
الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها
العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله(13).
التيار اللاقومى– الوطني: يُعد التيار اللاقومى ـ الوطني أحد التيارات الرئيسية التي تتنازع
الثقافة العربية إزاء فكرة القومية العربية. ويُثمن أنصار هذا التيار
الوطنية على حساب القومية العربية، ويرونها أكثر مواءمة للعالم العربي،
لتحبيذها نزوع الدول العربية لتعزيز خصوصيتها وإعلاء مصالحها الخاصة،
انطلاقاً من دوافع أهمها(14):
1. ضعف الدول العربية :
فقد روى عبد الرحمن عزام، أول أمين عام لجامعة الدول العربية، في إحدى
المجلات حديثاً جرى بينه وبين السياسي المصري سعد زغلول، في أوائل عهد
الوفد المصري. فعندما أراد عزام أن يتكلم عن الوحدة العربية، قاطعه سعد
زغلول بسؤاله: "إذا جمعت صفراً إلى صفر، فصفر، ماذا تكون النتيجة؟". ولا
زال سؤال سعد زغلول يجول في صدور أنصار الوطنية في ربوعنا. فطبقاً لهم،
يُقوض ضعف الدول العربية دعاوى القومية العربية، ويُفرغها من مضمونها.
2 . إقليمية الأدب العربي :
أنشأ بعض الأدباء المصريين من أساتذة الجامعة المصرية في عصرها الأول
نظرية في الأدب العربي وتاريخه، تقول باختلافه من إقليم إلى إقليم، فضلاً
عن مناداتها بضرورة بقائه إقليميا (وطنيا)، يساير خصائص كل إقليم من
الأقاليم العربية. وترجع بدايات نظرية إقليمية الأدب العربي إلى
المحاضرات التي ألقاها أحمد ضيف في الجامعة المصرية، ونشرها بعنوان
"مقدمة في بلاغة العرب"، وقال فيها إن الآداب العربية ليست لها صفة
واحدة، بل هي آداب مختلفة. ويستند أنصار الوطنية إلى مقولات نظرية إقليمية
الأدب لتعضيد رؤيتهم القائلة بتعدد الأوطان في العالم العربي، وانتفاء
دعاوى القومية العربية..
3 . مصالح النخب الحاكمة:
تعد حماية المصالح الشخصية للنخب الحاكمة في عالمنا العربي، أحد أهم
دوافع الوطنية. ففي كل دولة عربية، طائفة من الحكام والساسة وغيرهم، ترتبط
منافعهم بالأوضاع السياسية القائمة، فينزعون إلى المحافظة على كيان
الدولة، ولا يرضون بزوال ذلك الكيان بدعوى المصلحة الوطنية. ويساعدهم على
ذلك امتلاك كل دولة لمعالم، مشهودة وملموسة، وسلطات فعلية تظهر وتثبت
وجودها في شتى المناسبات، يراها كل فرد من أفرادها منذ نعومة أظفاره،
ويألفها، ويرتبط بها نفسياً، ويشعر من جرائها بأنه يختلف عن غيره من
منتسبي الدول الأخرى.
التيار القومي ـ اللاديني: يُجسد
هذا التيار رغبة واضحة من جانب أنصاره في إعلاء قيم القومية العربية،
باعتبارها تفوق ما عداها في أهميتها. ويُعد الراحل جمال عبد الناصر أحد
أبرز رموزه، ولا تزال أصداء خُطبه وتصرحاته الشهيرة تتردد حتى اليوم في
ربوعنا، رغم اخفاقه المُلفت في وضع أقواله موضع التطبيق! ويمكن التمييز
بين ثلاث مراحل لتطور الوعي القومي العربي عند عبد الناصر:
1. مرحلة إرهاصات الوعي القومي العربي:
اقترن
الميلاد الشهير لقضية فلسطين بتسلل طلائع الوعي القومي العربي إلى تفكير
جمال عبد الناصر، حيث احتلت فلسطين مكاناً خاصاً وبارزاً في هذا الفكر!
وبتطور القضية الفلسطينية, توالت إرهاصات هذا الوعي لدى عبد الناصر، سواء
أثناء دراسته في كلية أركان الحرب أو إبان انخراطه في القتال على أرض
فلسطين! عبد الناصر نفسه هو الذى أخبرنا بهذه الأمور، وذلك بقوله(15):
"إن
طلائع الوعي العربي بدأت تتسلل إلى تفكيري وأنا طالب في المدرسة الثانوية
أخرج مع زملائي في إضراب عام في الثاني من شهر ديسمبر من كل سنة احتجاجا
على وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود ومنحتهم به وطنا قوميا في
فلسطين اغتصبته ظلما من أصحابه الشرعيين..ثم بدأ نوع من الفهم يخالج
تفكيري حول هذا الموضوع لما بدأت ادرس وأنا طالب في كلية أركان الحرب حملة
فلسطين ومشاكل البحر المتوسط بالتفصيل..ولما بدأت أزمة فلسطين، كنت مقتنعا
في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالا في أرض غريبة، وهو ليس انسياقا
وراء عاطفة، وإنما واجب يُحتمه الدفاع عن النفس".
2. مرحلة ميلاد الوعي القومي العربي: شهدت هذه المرحلة
تبلور الوعي القومي العربي في فكر عبد الناصر، حيث أدرك بوضوح المحيط
الخارجي لمصر، وتجلى ذلك في حديثه عن الدوائر الثلاث(العربية, والأفريقية,
والإسلامية)، وتأكيده على الدائرة العربية ووصفه لها بأنها أهم الدوائر
وأكثرها ارتباطاً بمصر. ولطالما أرجع الرجل تغلغل الفكر القومي في شخصيته
إلى إدراكه للتاريخ العربي المشترك والديانة الإسلامية التي تدين بها
الأغلبية في العالم العربي، مختزلاً بذلك دور الإسلام في كونه أحد روافد
القومية العربية، وهو ما يخالف مقولات أنصار التيار اللاقومى ـ الإسلامي
الذين ينادون بعقيدية القومية. ويؤرخ ناصر للحظات ميلاد وعيه العربي
بقوله(16):
"..أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدائرة منا
ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها..حقيقة
وفعلا وليس مجرد كلام؟..أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة أفريقية، شاء لنا
القدر أن نكون فيها، وشاء أيضا أن يكون فيها اليوم، صراع مُروع حول
مستقبلها، وهو صراع سوف تكون آثاره لنا أو علينا، سواء أردنا أو لم
نُرد؟..أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالما إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا
تقربها العقيدة الدينية فحسب، و إنما تشدها حقائق التاريخ كذلك؟".
وقوله(17):
"..ما من شك في أن الدائرة العربية هي أهم هذه الدوائر وأوثقها ارتباطا
بنا، فلقد امتزجت معنا بالتاريخ وعانينا معها نفس المحن، وعشنا نفس
الأزمات، وحين وقعنا تحت سنابك خيل الغزاة كانوا معنا تحت نفس السنابك.
وامتزجت هذه الدائرة معنا أيضا بالدين، فنقلت مراكز الإشعاع الديني، في
حدود عواصمها، من مكة إلى الكوفة، ثم إلي القاهرة".
3. مرحلة نضج الوعي القومي العربي:
في
حين اتسمت المراحل السابقة على هذه المرحلة بالحماسة المُفرطة، اتسمت هذه
المرحلة بقدر نسبي من العقلانية، حيث بدأ الحديث عن أهداف النضال
العربي(الحرية، والاشتراكية، والوحدة)، وبُذلت بعض الجهود لبلورة مضمون
واضح لتلك الأهداف. وهو ما أكده عبد الناصر في الميثاق، الذي قدمه إلى
المؤتمر الوطني للقوى الشعبية يوم 21مايو 1962، حين قال(18):
"إن عهودا طويلة من العذاب والأمل بلورت في نهاية المطاف أهداف النضال
العربي ظاهرة واضحة، صادقة في تعبيرها عن الضمير الوطني للأمة (العربية).
ولقد أصبحت الحرية الآن، تعنى حرية الوطن، وحرية المواطن وأصبحت
الاشتراكية وسيلة وغاية، هي الكفاية، والعدل. وأصبح طريق الوحدة هو الدعوة
الجماهيرية لعودة الأمر الطبيعي لأمة واحدة مزقها أعداؤها ضد إرادتها وضد
مصالحها، والعمل السلمي من أجل تقريب يوم هذه الوحدة، ثم الإجماع على
قبولها، تتويجاً للدعوة والعمل معا".
التيار القومي ـ الإسلامي: نجح أنصار هذا التيار نسبياً في توظيف الرابطتين القومية والدينية، حتى لا
تجور إحداهما على الأخرى. على خلاف أنصار التيارين السابقين، إذ آثر أنصار
كل تيار إحدى الرابطتين دون الأخرى. ويعد عبد الرحمن الكواكبى أحد أبرز
أنصار التيار القومي ـ الإسلامي، فقد أخذ على عاتقه مهمة التبشير بالقومية
كإحدى سمات الأمم المتحضرة، بالإضافة إلى تأكيده على العروبة كضرورة
لحماية الحياة الدينية للمسلمين في أنحاء العالم. وهو ما يعكس إيمانه
بقناعتين:
1. اقتران الولاء القومي بالتحضر:
تُعد هذه القناعة مدخلاً للفكر القومي عند الكواكبى، فهو يرى في القومية
رابطة مميزة لتلك الأمم المتحضرة، تعمل على ترسيخها في نفوس أبنائها بشتى
الوسائل والطرق، وبخاصة من خلال تعميم الوعي التاريخي لديهم، ليتسنى لهم
إدراكها على نحو جلي. وتجاوز الكواكبى ذلك إلى تأكيده على انحلال رابطة
القومية العربية كأحد الأسباب المباشرة لمحنة الأمة الإسلامية، بقوله(19):
"
أظن أن السبب الأعظم لمحنتنا هو انحلال الرابطة الدينية..وقد زاد على ذلك
فقدنا الرابطة الجنسية أيضا، فان المسلمين في غير جزيرة العرب لفيف أخلاط
دخلاء، وبقايا أقوام شتى لا تجمعهم جامعة غير التوجه إلى هذه الكعبة
المعظمة ".
وقوله(20):
"إذا
دققنا النظر في حالة الأمم الحية المعاصرة، وهى ليس عندها ما عندنا من
الوسائل الشريفة للاجتماعات ولاسترعاء السمع والاستلفات بوسائل شتى..نجد
اعتناؤها غاية الاعتناء بتعميم معرفة تواريخها الملية، المفصلة المدمجة
بالعلل والأسباب، تمكيناً لحب الجنسية".
2. ارتباط الولائين العربي والإسلامي:
تعكس هذه القناعة اعتقاداً راسخاً لدى الكواكبى بعدم وجود تعارض بين
الولائين العربي والإسلامي، فهما صنوان لا يفترقان. فلا استقامة للرابطة
الإسلامية من دون الرابطة العربية، نظراً لامتلاك العرب لخصائص وخصال
متفردة تؤهلهم دون غيرهم لحفظ الحياة الدينية الإسلامية، رغم امتلاك غيرهم
لخصائص ومزايا تجعل لكل منهم مقاماً مهماً في حياة المسلمين. وهو ما يعبر
عنه الكواكبى ـ على لسان جمعية أم القرى ـ، بقوله(21):
"إن
الجمعية بعد البحث الدقيق والنظر العميق في أحوال وخصال جميع الأقوام
المسلمين الموجودين، وخصائص مواقعهم والظروف المحيطة بهم، واستعداداتهم،
وجدت أن لجزيرة العرب ولأهلها بالنظر إلى السياسة الدينية مجموعة خصائص
وخصال لم تتوفر في غيرهم. بناء عليه رأت الجمعية أن حفظ الحياة متعينة
عليهم لا يقوم فيها مقامهم غيرهم مطلقا، وأن انتظار ذلك من غيرهم عبث
محض..على أن لبقية الأقوام أيضا خصائص ومزايا تجعل لكل منهم مقاما مهما في
بعض وظائف الجامعة الإسلامية، مثل أن معاناة حفظ الحياة السياسية ولا سيما
الخارجية متعينة على الترك العثمانيين. ومراقبة حفظ الحياة المدنية
التنظيمية يليق بها أن تُناط بالمصريين. والقيام بمهام الحياة الجندية
يناسب ان يتكفل بها الأفغان وتركستان..يمينا ومراكش وامارات أفريقيا
شمالا. وتدبير حفظ الحياة العلمية والاقتصادية خير من يتولاها أهل إيران
وأواسط آسيا والهند وما يليها ".
والآن،
أما وقد انتهيت من عرضٍ، أراه كافياً، لأهم التيارات الرئيسية (بما فيها
التيار السائد على أرض الواقع، وهو التيار اللاقومى– الوطني)، تلك التى
تنازعت، ولا تزال تتنازع، ثقافتنا العربية، إزاء فكرة القومية، أراني
مُطالباً على نحو ما وعدت في صدر هذه المقالة، بتفسير الاخفاق المُستدام
لهذه التيارات في التعاطي مع "القومية"، وكذا بيان تداعياته الخطيرة، في
ضوء فكرنا الأنسني!..
تفسير أنسني لاخفاق التعاطي مع فكرة القومية:
القومية فكرة غربية وافدة، لا جدال في ذلك، تُشاركنا شعوب العالم
المُختلفة في الأخذ بها، بيد أننا كعرب نظل الأمة الأكثر طنطنة بها،
وعجزاً عن التعايش معها، ناهيك عن تثمينها! فلا يكاد ـ وياللاستفزاز ـ
إجتماع عربي يتم، إلا وتصحبه طنطنة آلية بـ"العروبة"، وترديد للكليشيهات
المُتعارف عليها في الأوساط الفكرية! وليس لقارئي الكريم أن يُسيء بي
الظن، فيستشف من كلماتي اني أحد دراويش "العروبة"! وليصبر حتى نهاية
المقالة، ليعلم ما أريد قوله!..
المُدقق في التيارات الرئيسية، المذكورة سلفاً، والتى تنازعت، ولا تزال
تتنازع، ثقافتنا العربية، إزاء فكرة القومية، والساعي للتعرف على دواعي
القول باخفاقها في التعاطي مع فكرة القومية العربية، يجد أن دواعي القول
بالاخفاق تختلف باختلاف موقف أنصار كل تيار إزاء فكرة القومية العربية!
فأنصار التيار اللاقومي ـ الاسلامي، برفضهم القاطع للقومية العربية وقولهم
بعقيدية القومية، ينأون بأنفسهم عن الواقع المُعاش، ويُثيرون مخاوف
الأقليات الدينية، علاوة على اتخاذهم من تاريخنا المُظلم مرجعية، يسعون
لمُحاكاتها! حقاً كانت الدولة الاسلامية قوية وفاتحة ومنتصرة، لكن الإنسان
المُسلم كان دوماً فاقداً لحرية العقل والقلب، كان ـ ولا يزال ـ خائفاً
وعاجزاً عن تعهد ثقافته، لا ديانته، بالنقد والتطوير! فما جدوى قوة
وكبرياء الدولة، حين يتنازل أبناؤها عن حرية عقولهم وقلوبهم(22)!
ولا
يكاد أنصار التيار القومي ـ الإسلامي، يرقون إلى نظرائهم من أنصار التيار
اللاقومي ـ الإسلامي، رغم مآخذنا عليهم، فاخفاقهم أمر وأضل سبيلاً! إنهم
يزعمون امتلاك العرب لخصائص وخصال متفردة، تؤهلهم دون غيرهم لحفظ الحياة
الدينية الإسلامية، ويرون الخلاص معقود بألويتهم! وهو قول لا تعليق لنا
عليه!
أما أنصار التيار القومي ـ اللاديني، فهم الأكثر صخباً
في ربوعنا الطيبة، إنهم ينادون ليل نهار بوحدة الأمة العربية، وإقامة
الدولة العربية الواحدة، من المحيط إلى الخليج! وقد يكون هؤلاء هم فعلاً
الأكثر فهماً وتأثراً بفكرة القومية التي نشأت وشاعت بفضل الثورة
الفرنسية، غير أن المُشكلة هي أنهم يؤيدون، أو على الأقل لا يمانعون، في
التضحية بالتحررية، لصالح القومية العربية!.. يبدو ذلك واضحاً في تمجيدهم
لأحد أبرز رموزهم، وهو عبد الناصر، رغم سطوه المؤلم على القومية، وإساءة
توظيفه لها داخلياً وخارجياً! على نحو كانت بلادي المغبونة الأكثر تضرراً
منه! أوهمنا أن القومية والتحررية لا يجتمعان!
لم يبق إذن سوى التيار اللاقومي ـ الوطني، وهو يستمد أهميته وخطورته من
كونه التيار السائد عملياً والمُهيمن على أرض الواقع! أنصار هذا التيار
يتمتعون ببعض الخصوصية، إذ ينقسمون على الأرجح إلى فئتين: الأولى تُناصر
الوطنية، عن قناعة فكرية وعاطفية، ومن هؤلاء على سبيل المثال السياسي
المصري سعد زغلول، وأحمد ضيف، صاحب "نظرية إقليمية الأدب العربي"!
وأراني
أتفهم كثيراً، دوافع زغلول وضيف في انتصارهما للوطنية على حساب القومية
العربية! فالدولة في مصر، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ!
الفئة
الثانية من أنصار التيار اللاقومي ـ الوطني، والتى تتمثل في النخب العربية
الحاكمة، يظل إخفاقها في التعاطي مع فكرة القومية العربية هو الأجدر
بالدراسة والتحليل، لكون هذه النخب هي الأخطر والأكثر تأثيراً في مجريات
الأحداث، منذ رحيل الآخر الغربي/العالمي(23)، عن عالمنا العربي! كذلك، يظل
تفهم السر وراء التعاطي المُستفز لهذه النخب مع القومية والوطنية، مرهوناً
بالتعرف على ملابسات بروزها ـ أعني النخب ـ، وتسيدها لربوعنا الحائرة!
برحيل
الآخر الغربي/العالمي عن عالمنا العربي، بعد استعمار دام لعقود طويلة،
توقع الكثيرون أن تأخذ ربوعنا طريقها الطبيعى نحو التطور! لكن، يبدو أن
ثأراً قديماً ظلت نيرانه تتأجج فى قلب الآخر الغربي/العالمي، ويبدو كذلك
أن مخاوفاً قديمة ظلت تؤرق الآخر نفسه! أما الثأر فدافعه الغزو العربي
للغرب، ذلك الذى أجج الآخر العربي يوماً نيرانه وسماه فتحاً مُبيناً! فى
حين أنه لم يكن سوى توسع مألوف من دولة فتية ناهضة! خطيئة الآخر العربي أن
غلفه برقائق دينية!
أما المخاوف المستعرة فى صدر الآخر الغربي/العالمي فمصدرها الخشية من نهوض
دولة فتية فى ربوعنا العربية، تُعيد إخراج بلاده من التاريخ(24)!
مزاعم غربية لا تخلو من وجاهة! يُجيد الآخر الغربي/العالمي توظيفها لتبرير
سياسته اللاإنسانية تجاه عالمنا العربي، ويحظى بفضلها بدعم واضح من الذات
الغربية، رغم صيحات الادانة التى تُطلقها تلك الذات بين الحين والآخر على
استحياء، احتجاجاً على نهج الآخر الغربي/العالمى تجاه ربوعنا الطيبة..
الآخر الغربي/العالمي أعد الشرك، وهو إبقاء الجماهير العربية فى إغتراب
ثقافي، تُحرم بموجبه من الحق فى نقد ثقافتها وتطويرها! الآخر
الغربي/العالمي إذن فى مأزق، لأن إضطلاعه المباشر بدفع الذات العربية نحو
الشرك، غير مأمون العواقب، فالذات العربية، على سذاجتها، لابد وأن تتنبه
إلى ما يُراد بها!
لم تلبث العبقرية الغربية الآثمة أن وجدت الحل السحري(25)! آخر عربي/محلى،
ينتمى لنفس ثقافة الذات العربية، يتولى مهمة دفعها نحو الشرك، دون أن
تتنبه له الذات، وكيف تفعل؟! وهو يشاركها الملامح الجسدية، ويشاركها
عاداتها وتقاليدها، وأفراحها وأتراحها، والأهم من ذلك يشاركها عقيدتها
الدينية!
بالفعل نجحت الخدعة، على سذاجتها، وساعد على نجاحها أمور عديدة، منها أن
الآخر العربي كان موجوداً إبان قوة الدولة العربية، إذ كانت الدولة قوية
بينما كان الانسان العربي مُغترباً، وهو ما ساعد بالتأكيد على تعميق
إنهيارها!
وهكذا، ارتبط بروز نسخ الآخر العربي وتسيدها لربوعنا الحائرة، برغبة الآخر
الغربي/العالمي في خلق آخر عربي/محلى، يُشارك الذات العربية البائسة
الملامح الجسدية، ويشاركها كذلك عاداتها وتقاليدها، وأفراحها وأتراحها،
والأهم من ذلك يشاركها عقيدتها الدينية! آخر عربي/محلي يُديم تخلف الذات،
عبر تكريس إغترابها ثقافياً، أي تكريس تخليها عن حقها فى نقد ثقافتها
وتطويرها!
ولتعلم
قارئي الكريم، أن التواطؤ الذى تقول رؤيتنا بتوافره بين نُسخ الآخرية
العربية/المحلية، وبين الآخريتين العالمية والاقليمية، لا يكون بالحتمية
صريحاًً، فغالباً ما يكون ضمنياً، يقتضيه التوافق الآخري، لا الصفقة
الصريحة!
فترة
خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تظل برأيي الأكثر تعبيراً عن مُساندة
الآخرية العالمية، الغربية وغير الغربية، لمبدأ الاستقلال السلبي لدولنا
العربية، وللآخرية العربية/ المحلية، فخلالها أرسيت دعائم تلك المساندة،
وإليها ترجع أهم الأحداث التي لاتزال آثارها تتفاعل في عالمنا، حتى يومنا
هذا(26)!
من
هنا، يصير منطقياً إختيارنا لأحد أهم النماذج الرائدة للنخب العربية
الحاكمة، وهو نموذج النخبة المصرية الحاكمة في خمسينيات وستينيات القرن
الماضي، والتى شكلت حجر الزاوية في هيكل الآخر المصري آنذاك، لايضاح دواعي
قول فكرنا الأنسني، باخفاقها في التعاطي مع القومية العربية والوطنية!
وهو
اختيار يُعضده اتخاذ هذه النخبة ذائعة الصيت، من الرئيس الراحل جمال عبد
الناصر رمزاً أسطورياً لها، إضافة إلى ريادة النخبة نفسها في تعميق آخرية
بقية النخب العربية الحاكمة ـ قليلة الخبرة آنذاك ـ، وكذا تعليمها كيفية
التغلغل في الذات، ليختلط عليها الأمر، فتنشد خلاصها في جلادها وتموت دونه!
على
أية حال، أشرت عند تعريف مفهوم القومية لارتباطه الوثيق بمفهومي الوطنية
والدولة، وذكرت أيضاً أن الأمة الواحدة، تتوزع أحياناً على عدد من الدول
(أعني عدداً من الوطنيات)، وهذا عين ما يحدث لأمتنا العربية الحائرة!
فقد
قامت في عالمنا العربي، بعد انتهاء التواجد العسكري المُباشر للآخر
الغربي، دول عربية عديدة مُستقلة، تتسيدها نُخب عربية حاكمة، يعنينا منها
الآن النخبة المصرية الحاكمة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي! إذ عمدت
هذه النخبة، على نحو حماسي مُبهر، إلى جمع الأمة العربية، في دولة قومية
واحدة!
كان
واضحاً جداً، على نحو ما يُحدثنا التاريخ، أن طموح أبناء النخبة المصرية
الحاكمة، يذهب إلى أن تكون الدولة العربية المنشودة، تحت سيطرتهم،
المُباشرة أو غير المُباشرة، على نحو ما تؤكد تجربة الوحدة مع سوريا(27)!
وهو أمر يمكن تفهمه في ظل حداثة عهد معظم الدول العربية آنذاك بالاستقلال،
ومن ثم افتقادها لخبرات، تصورت النخبة المصرية ـ على ما يبدو ـ إمتلاكها
لها!..
المهم،
كان مُتوقعاً أن تُقدم النخبة المصرية تجربتها مع الانسان المصري، كنموذج
لما ينبغي أن تكون عليه علاقة حكومة الدولة العربية المنشودة بأبنائها!
وكان مُتوقعاً أيضاً أن تجتهد النخبة نفسها في بناء الإنسان المصري، ليصبح
نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، خاصة العربي، في الدولة المُبشر
بها!
المُحير
أن هذا لم يحدث للأسف الشديد، والأكثر إثارة للحيرة هو تمادي النخبة
المصرية الحاكمة في استهانتها وإضعافها للإنسان المصري، في وقت لم تتوقف
أبواقها الدعائية عن التبشير بالخلاص العربي الموعود، على يد النخبة
الحاكمة ورمزها الأسطوري! ولسوف أقدم تفسيراً لهذا التناقض المُستفز..
أغلب
الظن أن النخبة المصرية الحاكمة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتى
آلت إليها مقاليد الأمور في مصر، عقب الإنقلاب العسكري في 23 يولية 1952،
والذي يحلو للنخب المصرية المُتعاقبة أن تُطلق عليه ثورة 23 يوليو ـ أقول
أغلب الظن أن النخبة المصرية الحاكمة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي،
وعت على نحو مُلهم الميراث المُزدوج للثورة الفرنسية، وأعني به القومية
والتحررية! غير أنها، وإن كانت قبلت بالقومية المنشودة والوطنية القائمة،
لم تقبل بالتحررية، وآثرت مناهضتها! أغراها بذلك السلوك أمور، منها:
أولاً:
وجود مناخ عالمي وإقليمي مواتي لمناهضة التحررية في الدول العربية
المُستقلة، فقد أرادت الآخرية العالمية، خاصة الغربية، لهذه الدول أن يكون
إستقلالها سلبياً، بمعنى أن تُحاكي النخب العربية الحاكمة ـ بوصفها حجر
الزاوية في هيكل الآخرية المحلية ـ المُستعمر الغربي، في تكريسه لتخلف
أبناء ه