تحتاج الولايات المتحدة
الأمريكية إلى التغيير، حتى تحافظ على زعامتها للعالم؛ ذلك هو الشعار
المركزي للحملة الانتخابية التي قادت باراك أوباما إلى البيت الأبيض عام
2009. من مؤلفات الرّجل كتاب أصدره إبان حملته الانتخابية تحت عنوان:
"التغيير، يجب أن نؤمن به"، وهو شهادة على حاجة أمريكا إلى تغيير يجب أن
يطال مختلف المجالات الاجتماعية، من التعليم إلى الصحة والبيئة والاقتصاد.
وفرنسا أيضاً تحتاج إلى التغيير، لكي تحافظ على عضويتها في نادي
الأقوياء؛ ذلك هو الشعار المركزي للحملة الانتخابية التي أوصلت نيكولاس
ساركوزي إلى قصر الإليزيه عام 2007. من مؤلفات الرّجل كتاب أصدره مع انطلاق
حملته الانتخابية تحت عنوان: "شهادة"، وهو شهادة على حاجة الفرنسيين إلى
فرنسا أخرى.
يجمع أقوياء العالم على أنّ نماذجهم التنموية والتربوية والتدبيرية، لم
تعد صالحة لهم كي يظلّوا أقوياء في المستقبل العاجل أو الآجل؛ يدركون أنّ
معركة المستقبل ليست معركة نماذج وإنما هي معركة نتائج، في هذه المعركة كلّ
شيء قابل للمراجعة، كل شيء خاضع للمساومة، سوى شيء واحد، هو القوة نفسها،
في هذا التغيير المنشود، شيء واحد يظلّ خارج طاولة المساومة؛ حصّة الأقوياء
من الإنفاق العسكري العالميّ، هذا الإنفاق الغريزيّ والانتحاريّ، يتجاوز
اليوم الألف مليار دولار سنويا؛ ما يعني أنّ ثلاث سنوات فقط من الإنفاق
العسكري العالمي، قادرة على تحرير كافة دول العالم الثالث من كامل
المديونية الخارجية، وهو ما يمثل بلغة الأرقام ودلالاتها، خيانة كبرى
لمبادئ كل من الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية؛ إننا اليوم أمام نماذج،
تعيد ترتيب آلياتها فقط من أجل إعادة إنتاج النموذج الاستعلائي لعلاقة
السيد مع العبد في مستوى العلاقات بين الدول.
هناك من يقترح طريقاً آخرً، لا هو بالنموذج الاجتماعيّ الفرنسيّ ولا هو
بالنموذج الليبراليّ الأمريكيّ، فيما اصطلح عليه رئيس الوزراء البريطاني
السابق، توني بلير، بالطريق الثالث، طريق لا يعرف أحد إلى أين ينتهي، بيد
أن هؤلاء السادة جميعهم يلتقون حول فلسفة واحدة تقوم على خمسة أركان:
إنهم يرتكزون على فلسفة التدبير الموجه نحو النتائج، والتي لا تعني في
الغالب أكثر من معدلات النمو الاقتصادي.
إنهم يعتمدون فلسفة براغماتية لا تولي أهمية للاختيارات الفكرية وإنما فقط
للأهداف المباشرة.إ
نهم يستحضرون العامل الديني باعتباره أداة تنموية، بالمعنى الفيبري (نسبة
إلى ماكس فيبر).
إنهم يعتبرون الأخلاق والقيم جزءاً لا يتجزأ من الحقل الديني.
إنهم يجعلون معيار النتائج، تطور القدرات التنافسية، والتفوق على الدول أو
الشعوب أو الحضارات الأخرى، في عالم اقتصادي تحكمه فرضية هوبز حول حرب
الجميع على الجميع.
"الجهاد الإسلامي" هو الابن الشرعي لهذا"العقل الأداتي"؛ حيث لا مكان لغير الأهداف العملية والعامل الديني وغريزة القوّة.
دول كثيرة لا تأمل في أكثر من مكان تحت الشمس، في عالم لن تسع أرضه
للجميع، وهي لا تخفي حيرتها في الاختيار بين نماذج جاهزة، لكنها استنفدت
مدة صلاحية استعمالها.
تجتمع الحركات المواطنة في عالم اليوم، هي الأخرى، حول شعار عالم آخر
ممكن، لكن من غير أن تضيف صفة أفضل، إلى هذا العالم الآخر. كما لو أنها
تسعى فقط إلى الخروج من الوضع الحالي. فهل صار عالمنا جحيماً إلى هذا الحد؟
لا أحد يقول إنّ حالة البيئة والصحة والغذاء والماء والسلام على أحسن
ما يرام. لا أحد يرى أن النظام المالي والتجارة العالمية، على أكمل وجه.
صحيح أنّه على الدول المتخلفة، وبينها دولنا، يقع عبء الخروج من عنق زجاجة
أعباء وتكاليف خدمة المديونية الخارجية، إلاّ أن التحرّر من علاقات
العبودية التي تخلقها المديونية، تتطلب أيضاً، إصلاحاً شاملاً في المؤسسات
المالية، وعلى رأسها البنك الدّولي، كما أكد باراك أوباما نفسه، في مؤلفه
الانتخابي سالف الذكر.
توحي منظمة التجارة العالمية بقدر عالي من الديمقراطية والشفافية، ويجلس
الجميع على طاولة اتخاذ القرارات، على قاعدة صوت واحد للبلد الواحد، حتى
الطابع الزجاجي لجدران مقر المنظمة في العاصمة السويسرية جنيف، يوحي بتلك
الشفافية، لكننا نعلم أيضا أن الدّول التي تستطيع أن توفر عشرات، بل مئات
من الخبراء في مختلف مناحي التجارة العالمية، من الفلاحة بكل أنواعها، إلى
الصناعة بكافة حقولها، ومن التربية بكل مجالاتها إلى الصحة بأدق تفاصيلها،
وأن يكون بوسع هؤلاء المشاركة بشكل شبه يومي، في مختلف اللجان الوظيفية
ومجموعات العمل، داخل عاصمة تعد تكاليف العيش فيها هي الأكثر ارتفاعاً في
العالم، ولكي يوفروا في آخر المطاف لدولهم أدوات التحليل والتفاوض واتخاذ
القرار المناسب، مثل تلك القدرة لن تكون لغير الدول الأكثر قوة وثراء. في
جنيف كثير من الدول لا تستطيع أن توفر لها مجرّد سفير دائم.
كل شيء مرتب لكي يبقى السادة سادة حتى إشعار آخر.
نتلقى من الغرب الكثير من المساعدات المالية الغربية، في شكل دعم
مشاريع التنمية للدّولة أو للمجتمع المدني، أو في شكل رشاوى لهما، لكن
الأرقام تخبرنا بأن تلك المساعدات لا تمثل إلا أقل من عشر في المائة من
مجرّد تكاليف خدمة الديون الخارجية للدّول، وهي ديون بنسب معدلات فائدة تعد
الأكثر ارتفاعاً مقارنة مع نسب الفائدة الاعتيادية في أسواق المال، معظم
الدول العربية والإسلامية تجد نفسها في عنق الزجاجة.
لنقرر ما يلي:
تخلف دول العالم الإسلامية ليس مجرّد مشكلة ذاتية، طبعاً لا نغفل عن
مسؤولية الذات في استعادة العقل والإرادة، ولكن سيكون من العبث أن نسعى
لمعالجة مشاكل بيتنا الداخلي بإغلاق أبوابه ونوافذه أمام مشاكل العالم،
إننا جزء من تراث متخلف، لكن التخلف هو أيضا جزء من عالم قائم على تقسيم
الأسواق، والمديونية، وعلى قانون القوة بدل قوة القانون.
جان زيغلر، من أبرز خبراء الأمم المتحدة في مجال التغذية، عالم اجتماع
من أصل سويسري، ومناضل قوي من أجل إلغاء المديونية عن العالم الثالث، ومن
ثمة فهو متهم في الغرب، بنزعة محاباة العالم الثالث، وأحياناً بمحاباة
العرب والمسلمين، الصحيفة الفرنسية "شارلي إبدو"، والتي سبق أن أعادت نشر
ما سمي بالرسوم المسيئة للرّسول، أعادت في بعض نصوصها نفس الاتهامات
السابقة في حق جان زيغلر، هذا الأخير، في كتابه المثير للجدل "إمبراطورية
الشر"، يوضح كيف أن إلغاء المديونية، أو على الأقل التخفيف من أعبائها، لن
يكلف الدول أو البنوك الدائنة أية خسائر، ما يعني أن التشدّد الغربي في
مسألة المديونية، لا تبرره أية ضرورة "عقلانية"، عدا غريزة الجشع وعقيدة
التفوق.
ما يسمّى في الغرب اليوم، بالخوف المرضي من الإسلام (الإسلاموفوبيا)،
ما هو إلا صورة مشوشة ومشوهة لصورة السيد الذي لا يطمئن لانتصاره إلا
عندما يصير المغلوب مغلولاً، إنها صورة معكوسة للخوف من المستعمرات
السابقة، من الجنوب، من العالم الثالث، من أحزمة الفقر والمديونية والسوق
السوداء للعمل، من ضحايا التقسيم الاستعماري وبرامج التقويم الهيكلي والبيع
المجحف للممتلكات العمومية، ومن العيش بأقل من دولار في اليوم، ومن العض
على الجرح لكي لا تتراجع "ثقة الأسواق"، ومن الموت من سوء التغذية لمجرد
أعباء خدمة ديون تكبل إرادة الأجيال وتحكم عليها بمسار تاريخي انحداري، على
منوال الخطيئة الأصلية في الديانات السماوية. إنه الخوف من عبيد لا أحد
يعرف كيف سيطالبون بالحرية والمساواة والإخاء حين يفعلون.
تدخل الرأسمالية العالمية اليوم، نفقاً جديداً ضمن ما يصطلح عليه
الكثيرون بدورات الأزمة، بيد أن النفق هذه المرّة، تدخله الشعوب من دون حلم
كبير، من دون أي وعد برخاء كبير مرتقب، أو عالم أفضل منتظر، سوى جحيم في
الأرض ورجاء في السماء.
أمتنا تستوطن المناطق الحرجة من هذا اليأس الأممي، وهي تحمل قلقاً قلما
تحتمله، وتفرز أنهاراً من مجاري الدماء المستعملة على هامش صناعة التاريخ،
ويعوزها الحلم لكي تشفى من علتها.
في العراق قديماً، وفي إحدى ليالي الأزمنة الغابرة، حمل جلجامش صديقه
أنكيدو إلى سفح جبل الآلهة، فقد كانت الآلهة تستوطن الجبال، ثم بدأ يناجيها
منادياً: أيا آلهة الأحلام، امنحي لصديقي حلماً، امنحيه حلماً ليشفى من
علّته!
علتنا أننا صرنا بلا حلم.
نأخذ من الواقع أكياساً من الرّمل الناعم والصخور الجرداء، وعلى
جنبات التاريخ نفتش في المهملات عن تصاميم جاهزة تريحنا من العياء وتختصر
لنا طريق البناء، ومن غير رؤية نمشي، وبلا أحلام نبني، ومرّة بعد كل مرّة،
نكتشف أن ما بنيناه لم يكن سوى أوهام من إسمنت.