أوهام الدولة النفطية
♦ نــژدار سعدالله خالد تقييمك لهذه لمقالة
يرى العديد من السياسيين والاقتصاديين أن وفرة الموارد الطبيعية كفيلة لحل المشاكل الاقتصادية و السياسية التي تعاني منها الدول النامية، إذ أكد معظم اقتصاديو التنمية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي أن وفرة الموارد الطبيعية كالنفط والذهب والفوسفات …الخ وحتى الموقع الجغرافي في أي بلد سوف يساعد في إنجاح عملية التنمية الاقتصادية فيه، حيث اعتقد هؤلاء الاقتصاديين أن الدول النامية تعاني من اختلال توازن في العناصر الإنتاج إذ أن لديها وفرة في أيدي العاملة ونقص في رأس المال اللازم لتحقيق التطور الاقتصادي ولحل المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها هذه الدول، و بين هؤلاء الاقتصاديون انه يمكن استغلال الموارد الطبيعية كالنفط مثلاَ لتحقيق التوازن بين رأس المال والعمل، حيث أن هذا الموارد ستدر الأموال اللازمة لتمويل الأنشطة والمشاريع الاقتصادية المختلفة، وبعبارة الأخرى إن هذه العملية سوف تساعد حكومات هذه البلدان لحل مشكلة الفقر والجهل والمرض ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نحو الأمام، ومن ثم تحقيق الرفاهية الاقتصادية. إلا أن الوقائع و الدراسات أثبتت عكس ما ذهب إليه هؤلاء الاقتصاديين وبينت أنها مجرد أوهام تفكر بها الدول المصدرة للموارد الطبيعية.
وفي حين كان هناك مجموعة الأخرى من الاقتصاديين واغلبهم من المدرسة البنيوية الليبرالية الاقتصادية ابتداء من آدم سمث وPrebisch و Singer وآخرون اعترضوا على هذا التوجه وبينوا أن التنمية الاقتصادية القائمة على تصدير الموارد الطبيعية هي تنمية مشوهة حيث أن تصدير هذه الموارد سيؤدي إلى تدهور شروط التجارة بين الدول المصدرة والمستوردة لهذا الموارد، وستعاني هذه الدول من تقلبات في أسعار الموارد وستؤثر هذه التقلبات على المتغيرات والقطاعات الاقتصادية المختلفة لهذه الدول، وسيجعل في الاستثمار مخاطرة كبيرة في هذه الدول وذلك لعدم وجود استقرار اقتصادي فيها،كما يمكن ملاحظة أن وجود هذه الموارد يؤثر بشكل سلبي على الهيكل الاقتصادي لهذه الدول، إذ أن اقتصادياتها تعاني من مشكلة الازدواجية الاقتصادية حيث أن قطاع الموارد هو القطاع القائد في الاقتصاد الذي تعتمد عليه الدولة في تمويل جميع أنشطتها ويتم إدارته من قبل القطاع العام في حين تعاني القطاعات الاقتصادية الأخرى كالزراعة والصناعة والخدمات من التخلف نتيجة عدم اهتمام الحكومة لهذه القطاعات، علماَ أن هذه القطاعات هي التي تحقق القيمة المضافة وأيضا تساعد على تشغيل القوى العاملة.
أن الإيرادات التي تحصل عليها هذه الدول نتيجة قيامها بتصدير الموارد الطبيعية في الحقيقة لم تأتي من عملية إنتاجية وإنما جاءت من خلال عملية استخراج هذه الموارد وبمساعدة وسائل تكنولوجية خارجية وحتى معظم الأيدي العاملة في هذه القطاع تأتي من الخارج، وبالتالي فان هذه العوائد تدفع حكومات هذه الدول إلى تبني سياسات اقتصادية غير رشيدة ومشوهة قائمة على الإفراط في الإنفاق، و عدم الاهتمام بفرض الضرائب على الأفراد والشركات مما تغدو اقل عرضة للمحاسبة أمام الشعوب التي تحكمها، بالإضافة إلى أن هذه السياسات الاقتصادية تعزز دور القطاع العام على حساب القطاع الخاص مما يضعف ذلك المبادرة الفردية وحرية قيام الأعمال الحرة وهذا يتنافى مع مبادئ الحرية الاقتصادية . فتدفق الدولارات النفطية مثلا يشجع إلى نشوء منظومة جديدة من العلاقات والمعتقدات حول الدور المتسع للقطاع الحكومي، كما يؤدي إلى نشوء مصالح وعلاقات جديدة داخل الحكومة وخارجها، ويبدوا أن هذا الأمر أصبح واضحا في جميع الدول المصدرة لهذا الموارد حيث الإدمان على عوائد الموارد الطبيعية وعدم التقيد بالسياسات التقشفية،كما يمكن ملاحظة أن القادة السياسيين في هذه الدول هم سياسيون وتجار في نفس الوقت أي الزواج بين السلطة والمال أصبح سمة مميزة في هذه الدول. وبعبارة أخرى إن نتيجة هذه السياسات ستكون ظهور نوع آخر من الرأسمالية تسمى بـ “رأسمالية المحاسيب” وهذا النوع من الرأسمالية تظهر في الدول المصدرة للموارد الطبيعية، حيث تنشأ منظومة من العلاقات بين رجال السلطة والتجار من اجل تسيير الصفقات الاقتصادية بعيدة عن الشفافية مما يؤدي إلى ظهور الفساد و مركزية الحكم وسيطرة على جميع الخيوط الاقتصادية ومن ثم ستحاول هذه المجاميع إلى تكوين منظومة أمنية متماسكة من اجل قمع اي توجه يعارض الحكومة وأنشطتها.
واستناداً إلى ما سبق، فقد طور الباحثون نظرية سميت بـ”نظرية الدولة الريعية” لتفسير المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعاني منها الدول المصدرة للموارد الطبيعية وخاصة الدول النفطية حيث يبين سجل هذه الدول أن هناك غياب واضح للديمقراطية والتنمية الاقتصادية والبشرية في هذه البلدان، إذ يرى حسين مهدوي Mahdavy وهو أول من حدد مفهوم الدولة الريعية ” أن الإيرادات النفطية تجعل المسؤولين في الدولة مفرطين في التفاؤل، هيابين في المجازفات. وحين تتلقى الحكومات الموارد المالية فان تفاؤلها يتجاوز حدود العقلانية بصدد الموارد في المستقبل ولذلك فإنها تكرس القسط الأعظم من مواردها للحفاظ على الوضع القائم بحرص كبير بدلا من تعزيز التنمية”، وهذا يدل أن التوجه نحو بناء نظام ديمقراطي يحمي الحقوق الملكية للأفراد أمر غير ممكن في هذه الدول وذلك لان القادة السياسيين في هذه الدول يتجنبون إجراء التغييرات البنيوية والهيكلية الضرورية لأنه ليس هناك ضغوط داخلية عليهم، وبهذا فان عوائد النفطية تقفل خيارات التنمية الاقتصادية والسياسية وتخلق جموداً في المؤسسات وتعيق جهود الإصلاح، وبالتالي فان التغيير لن يأتي إلا من خلال أزمات اقتصادية أو انقلابات عسكرية. وبهذا يمكن القول أن وجود الموارد الطبيعية يعيق جهود التنمية المستدامة وتعيق بناء نظام ديمقراطي وحكم رشيد، فعلى سبيل المثال يعاني العراق باعتباره دولة مصدرة للنفط من مشاكل جمة، حيث يعاني من مشكلة الفساد والبيروقراطية والترهل في القطاع العام والبطالة والفقر والتهميش وتخلف في البنية التحية والفوقية نتيجة الحروب والمشاكل الداخلية وسوء إدارة القطاع النفطي حيث تسيطر الحكومة على هذا القطاع من دون وجود إشراف ورقابة من قبل السلطات القضائية والتشريعية، كما يعتمد الاقتصاد العراقي على الإيرادات النفطية بنسبة 94% وبهذا يعني أنها دولة مفرطة في الاعتماد على الإيرادات النفطية من دون الاعتماد أو إعطاء أية أهمية للقطاعات الاقتصادية الأخرى مثل الزراعة أو الصناعة أو السياحة أو الخدمات، نظراً لان هذه القطاعات لم تعد لديها بنية تحية وفوقية منذ حرب الخليج الثانية في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وبرغم من أهميتها فان الحكومات التي تعاقبت في الحكم في العراق وحتى الآن ليس لديها رؤية اقتصادية وتنموية لتطوير هذه القطاعات من ثم إنها فشلت في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والبشرية نحو الأمام، حيث بينت العديد من التقارير الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العالمية أن العراق يعاني من أزمات اقتصادية خانقة ، إذ أنها تحتل المرتبة 174 في مؤشر الشفافية العالمية وهذا يدل على حجم الفساد المستشري فيه، ويدل أيضا على فشلها في إدارة واستغلال مواردها حيث أن هناك زواج غير شرعي بين المال والسلطة، إضافة إلى ذلك، فإنها تبين ضعف الهيكل المؤسساتي في العراق بسبب ضعف المؤسسة القضائية وعدم استقلاليتها، كما جاء العراق في المرتبة 120 في تقرير التنمية البشرية لسنة 2014 وهذا دليل آخر يبين بان العراق قد فشل في تطوير وتنمية موارده البشرية برغم من امتلاكه موارد مالية ضخمة.وبعبارة أخرى، برغم من هذا الكم الهائل من الموارد فإنها أصبحت نقمة للعراقيين في الوقت التي لابد أن تكون نعمة .
ان هذه التقارير والوقائع تبين أن الإيرادات النفطية التي تحصل عليها العراق لم تساعدها في تحقيق التنمية والاستقرار السياسي والاجتماعي وإنما أثبتت الوقائع أن النفط أصبح عائقاً كبيراً للتقدم والتنمية في هذا البلد، ومن هذا المنطلق اعتقد انه مهما تغيرت الحكومات والوجوه فان الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية ستبقى قائمة ولن تحقق التنمية المنشودة وان المشروع الديمقراطي والحرية لن ترى النور في ظل انعدام النظام المؤسسي القادر على إدارة الموارد الاقتصادية والبشرية، فالتنمية والديمقراطية سوف تتحققان في العراق فقط من خلال بناء مؤسسات لازمة لإنجاح وترسيخهما كبناء نظام قضائي مستقل وشفاف ودعم منظمات المجتمع المدني وحكم القانون والصحافة الحرة. إضافة إلى ذلك، ضرورة تثقيف وتوعية أفراد المجتمع حول حقوقهم وواجباتهم في المجتمع لان اغلب أفراد المجتمع لا يعرفون حقوقهم وواجباتهم، وبالتالي فان توطيد هذه المؤسسات سوف يضمن شفافية عمل الحكومة وقدرة المواطنين على محاسبتها من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن أراد العراقيون التنمية المستدامة والديمقراطية فلابد أن يتم إعادة تنظيم صناعة النفط على أسس لامركزية من خلال إنشاء عدد من الشركات الوطنية منفصلة ومتخصصة لإنتاج النفط في البلد وتدار هذه الشركات بمجلس إدارة خاصة بها وتخضع تقاريرها المالية لتدقيق من قبل محاسبين مستقلين وسلطات قضائية وتشريعية ومنظمات المجتمع المدني، مما يساعد ذلك على تكوين المنافسة بين هذه الشركات وإضفاء الشفافية على سير أعمالها، أما وظيفة وزارة النفط فستتركز على قضايا السياسة النفطية ولعب دور الحكم بين هذه الشركات دون التدخل في عمل هذه الشركات أو تولى إدارتها. إضافة إلى ذلك، يمكن وضع نظام آخر يسمى بنظام المدفوعات النقدية للشعب من عائدات النفط أي توزيع إيرادات النفط بشكل مباشر على أفراد المجتمع من دون أن تذهب هذه العائدات إلى خزائن الحكومة، وفي هذه الحالة على الحكومة أن تحصل على الإيرادات وتمول أنشطتها من خلال فرض الضرائب على الأفراد، فهذا التوجه باعتقادي سيساعد على تحقيق الديمقراطية لان الحكومة ستكون تحت قبضة المواطن إذ في حالة رفض الأفراد دفع الضريبة إلى الحكومة فان الحكومة ستسقط أي أن الأفراد سيستطيعون محاسبة الحكومة، والحكومة في هذه الحالة ستعمل بطريقة كفوءة، وان هذه الطريقة في إدارة الموارد النفطية تم تطبيقه في آلاسكا، كما أن بناء صناديق الاستقرار يعد وسيلة المهمة لإدارة عوائد النفطية كما هو الحال في النرويج وآلاسكا حيث تساعد هذه الصناديق في إبعاد أموال النفط من تلاعب السياسيين والعسكريين والبيروقراطيين الحكوميين على أن تدار هذه الصناديق من قبل هيئة مستقلة تتكون من محاسبين و اقتصاديين وحقوقيين مستقليين وتخضع هذه الهيئة لرقابة صارمة من قبل السلطات القضائية والتشريعية ومنظمات المجتمع المدني والصحافة الحرة من اجل مزيد من الشفافية. فمن خلال هذه الطرق الثلاثة يمكن إدارة وتوزيع العائدات النفطية على أفراد المجتمع بشكل تسود فيه الشفافية والعدالة، وبالتالي ستحجم ذلك الفساد المستشري في الأجهزة الحكومية وتقلل من دور القطاع العام في الاقتصاد الوطني ويزيد من فرص و دور القطاع الخاص فيه وهذا ينسجم إلى حد كبير مع مبادئ وأسس الحرية الاقتصادية، إضافة إلى ذلك، أن إضعاف الدور الاقتصادي الحكومي سيزيد حرية الأفراد وهذا سيساعد على ترسيخ الديمقراطية في العراق.وعليه، فبدون وجود هذه الخطوات أي بدون بناء مؤسسات قادرة ومتينة في إدارة الموارد الطبيعية فلن يتحقق الاستقرار الاقتصادي والسياسي المنشود ومن ثم لا يمكن التكهن بترسيخ التنمية والديمقراطية في الدول النفطية، و النتيجة هي مزيد من الفشل المؤسسي و الإداري والفساد والفقر والدكتاتورية، وبعبارة أخرى، فالدول النفطية تحتاج إلى مؤسسات ديمقراطية لتحقيق التنمية والرفاهية والحرية والديمقراطية، فبعكس ذلك، فإن كل ما يقال عن التقدم والتنمية والديمقراطية في الدولة النفطية ما هي إلا أوهام.
المصدر: الحياة
* طالب دكتوراه في الاقتصاد.