عندما يجري التطرق إلى الدولة المدنيّة، فأول ما يتبادر إلى الذهن وضعها في مواجهة مفهوم الدولة الدينيّة. قد يكون هذا التناقض هو الشكل الغالب، لكنّ مفهوم الدولة المدنيّة تطوّر واتّخذ أشكاله الحديثة عبر الصراع البشري مع الأشكال الّتي كان المجتمع ينتجها في كلّ مرحلة من مراحل تطوره. في مواجهة استخدام الدين في السياسة ونظرية الحق الإلهي في السلطة، وفي مواجهة الاستبداد واحتكار السلطة من الأباطرة والملوك، وفي مواجهة التّجمعات القبليّة والعشائريّة والفئويّة المهيمنة.. نشأت كلّ مفاهيم الدولة المدنيّة الحديثة والقوانين والتشريعات الّتي تحكم مؤسساتها، وهو مسار تاريخي امتدّ قرونًا واصطبغ بصراعات مريرة وحروب أهليّة داميّة. لذا، في استعراض مقومات الدولة المدنية الّتي باتت اليوم المطلب الّذي تطمح الشعوب إلى تحقيقه، سيرد، حكمًا، الوجه الآخر لما يعاكس هذه الدولة، أي ما يشار إليه بالدولة الدينيّة.
المواطنة
إنّ مفهوم المواطنة هو مفهوم حديث لم يكن له موقع في العصور البشريّة الأولى، وتباعًا، في العصور اللّاحقة. تختصر المواطنة اليوم بجملة مفاهيم وقيم أهمّها المساواة بين سكان الوطن الواحد من دون تمييز حسب الدين أو العرق أو الجنس أو اللّغة، والمساواة في الحقوق والواجبات والحريّة والمشاركة في الحياة العامّة. كما تشكّل المواطنة القاعدة الّتي تقوم عليها الدولة الحديثة بمؤسساتها وتشريعاتها.
في منطق الفكر الديني والساعين إلى دولة دينيّة، من المؤكّد أنّ السلطة إذا ما تحققت لأنصار الدولة الدينية، لن تكتفي بالهيمنة على الصعيد السياسي، بل ستفرض مناهج التعليم المختص بالدين المسيطر، ومعها قواعد في السلوك استنادًا إلى تفسيرها الديني للنصوص، ممّا يخلق حالة من التمييز والهيمنة على سائر المكونات، وافتئاتاً على حقوقها السياسية والمدنية. لقد أثبت التاريخ استحالة بناء دولة حديثة استنادًا إلى الانتماء الديني وتطبيق الشريعة الّتي تأخذ طابعًا مقدسًا يصعب المسّ بأحكامها ، على رغم كونها قواعد استنبطها بشر هم الفقهاء. والأخذ بقواعد الشريعة المقدّسة في الحكم سيؤثر سلبًا على المساواة بين المواطنين، لأنّ المواطنة بالمفهوم المعاصر الّذي وصلت إليه تشدد على المساواة بين المواطنين في جميع الحقوق المدنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة ، فيما يذهب الفكر الديني، المسيحي منه والإسلامي، إلى تحديد المواطنة استنادًا إلى التمييز بين المواطنين وفق دينهم وجنسهم. هذا من دون نسيان أنّ العلاقة بين المواطن والدولة المدنيّة تقوم على الخضوع للقوانين الوضعيّة الّتي سنّها البشر والقابلة للتغيير والاعتراض عليها، فيما يفرض الفكر الديني نمطًا من العلاقة تقوم على الطاعة المطلقة للحاكم أو رجل الدين، لكونه ينطق نيابة عن الله، ويكتسب كلامه صفة المقدس، ممّا يعني أنّ الاعتراض على أقواله وأفعاله هو عصيان يطال الله نفسه .
العلمانيّة والفصل بين الدين والدولة
منذ قيام المسيحيّة وتجذرها في العالم، نشب صراع على السلطة والسيادة بين المؤسسة الدينيّة والمؤسسة الزمنيّة أي مؤسسة الدولة. اتّخذ هذا الصراع أشكالاً متفاوتة في حدّتها، إلى أن وصل ذروته عبر حروب أهليّة في القرون الأخيرة، شكلت عاملاً أساسيًا في توصل المجتمعات الأوروبيّة إلى فصل الدين عن الدولة، وتكريس هذا الفصل عنصرًا مركزيًا في تكوين الدولة المدنيّة. سعت المؤسسة الدينيّة إلى الهيمنة على الإنسان والسلطة باسم الدين، وفرض سلطة تستند إلى منطق السيطرة الإلهية على البشر المعطاة للكنيسة لتمارسها بشكل مطلق. سيشهد الإسلام لاحقًا ما شهدته المسيحيّة لجهة الصراع على الدين وموقعه. صحيح أنّ الإسلام لا يعرف مثيلاً للبابوية بصفتها ظلّ الله على الأرض، لكن الفقهاء المسلمين ذهبوا أبعد عندما اعتبروا أنّ الإسلام دين ودولة، وأنّ الدولة تخضع لمبادئ الشريعة الإسلاميّة وتلتزم قوانينها. واستنادًا إلى هذا المنطق، لا يزال الصراع مفتوحا في الساحة الإسلاميّة حول خضوع الدولة للدين أم استقلاليتها عنه.
يصعب تصوّر قيام دولة مدنيّة في العصور الحديثة من دون الفصل بين الدين والدولة وتحقيق العلمانيّة بوصفها التجسيد الحقيقي لهذا الفصل. لا بدّ من القول، وخلافًا لما يذهب إليه مفكرو التيارات الدينيّة بأنّ العلمانيّة تعني محاربة الدين ونفيه من المجتمع، وأنّ الفصل بين الدين والدولة سيؤدي إلى زوال الدين. على العكس من ذلك، فالعلمانيّة ليست نظرية نزلت من السّماء لتحل محلّ الدين في الحياة البشرية، بل هي نتاج مسار تاريخي، استند إلى العقلانيّة في الفكر والممارسة وإلى الحريّة الإنسانيّة في تقرير المصير، وانطلاقًا من ذلك كان الفكر العلماني يتصدى للموروثات السائدة في المجتمع والّتي تعيق تقدمه وتحرر الإنسان فيه. وإذا كانت العلمانيّة قد ارتبطت شكلاً كأنّها تخاصم الدين، فلأنّ الفكر الديني يسعى إلى قولبة الفكر الإنساني في قوالب غيبية ويمنع استخدام العقل في الكثير من الأمور اللاهوتيّة، ويحاول هذا الفكر فرض منظومات قانونيّة وتشريعيّة تتناقض مع الحريّة الإنسانيّة.
هكذا يمكن القول إنّ العلمانيّة بمفهومها الحقيقي هي أحد تجليات الحداثة في مرحلتها المتقدمة، حيث يتميّز النظام العلماني باحترام الفرد وحريّة الضمير ، وضمان الحريّة الدينيّة لجميع المواطنين من دون استثناء، إضافة إلى الاعتراف بالتعددية الدينيّة وبحريّة الاعتقاد أو عدمه بما فيها الحقّ بتغيير الدين. كما أنّ الدولة العلمانية هي دولة حياديّة تقف فوق الجميع وتعاملهم على قدم المساواة أمام القانون، لكونهم يمتلكون الحقوق نفسها ويترتّب عليهم الواجبات ذاتها أيضًا. أنّ العلمنة وحدها هي الّتي تحرص على البعد الروحي الّذي يحتاجه الإنسان، وهي بالتالي تضع هذا البعد في مكانه الصحيح وتمنع المتاجرة السياسيّة به واستغلاله لأهداف سياسيّة أو غير نزيهة.
ضرورة الديمقراطيّة
ممّا لا شك فيه أنّ نموذج الدولة المدنيّة الّذي تطور على امتداد القرون الماضية يظلّ الهدف الّذي تسعى إليه المجتمعات لكونه يحقق العدالة ويمنع التمييز بين المواطنين. لكنّ الوصول إلى الدولة المدنية لا يعني بالضرورة استبعاد الديكتاتورية والاستبداد. لقد أثبت التاريخ أنّ ما يجعل من الدولة المدنية دولة في خدمة الإنسان هو تسييجها بالديمقراطية : ثقافة ومؤسسات وقوى حاملة لقيمها. هذه الديمقراطية تثبت كلّ يوم أنّ تحققها شرط لتقدم البشريّة ووضع حقوق الإنسان موضع التطبيق.
تشدد الديمقراطية على الاعتراف بالآخر، وقبوله كما يقدم نفسه، والمشاركة معه مع احتفاظه بحقّ الاختلاف والتعبير. تعني هذه النقطة استبعادًا لمنطق العزل والنفي ورفض الآخر بسبب الاختلاف في الموقف أو الجنس أو العرق.
بلورت ثقافة الديمقراطية على امتداد نضال الشعوب من أجل إزالة الاستبداد، جملة قيم وأفكار ومعتقدات باتت تشكل مبادئ إنسانيّة شاملة تسترشد بها الشعوب والقوى المناضلة ضدّ الديكتاتورية.. أبرز هذه الأفكار التأكيد على الاعتراف بالحقوق الفرديّة والجماعيّة، على المستويين القانوني والعملي، وعلى الحريات الفردّية والجماعيّة على السواء، وعلى تعيين هدف الوصول إلى الحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعية، في وصفها تحقق إنسانيّة الإنسان وتفتح له آفاق التطور والتقدم.
لعلّ الديمقراطيّة هي النظام السياسي الوحيد الّذي يقرّ بالتعددية السياسيّة وقبول التنوع الحزبي وحقّ كل مكوّن من مكونات المجتمع بممارسة نشاطه السياسي والتعبير عن أفكاره ومطالبه من دون قيد أو شرط. كما أنّ هذه التعدديّة السياسيّة تترافق مع الحريّة الفكريّة والحقّ في نشر المعتقدات والآراء السياسيّة والسعي إلى إيصالها إلى أوسع الجماهير.
ولأنّ الديمقراطية لا تقتصر على جملة الأفكار والمعتقدات، لأنّها في الأصل صيغة من صيغ الحكم الّتي أنتجتها الحداثة وجعلت منها هدفا مركزيًا لخلاص الإنسان وتحرره، فإنّ هذه الصيغة، كما يثبت التاريخ البشري خلال العقود الأخيرة، يمكن لها أن تضع تحت “جبتها” خيارات سياسيّة وفكريّة وثقافيّة متعددة ومختلفة وأحيانا متناقضة، بحيث تتعايش أفكار وقوى الليبرالية وتعبّر عن نفسها، وتسمح لليسار بأن ينمو ويتجدد، وتدفع بالعلمانيّة بأفكارها وقيمها إلى السطح، وترعى قيم الإيمان وتضمن حقّ كل إنسان في التدين، كما تضمن أيضا حقّ كلّ إنسان في الإلحاد وترك دينه أو اعتناق دين آخر.
إنّ قيام الدولة بمؤسساتها وقوانينها وتشريعاتها وتعيين الولاء لها شرط لممارسة المواطنة والمبادئ الديمقراطيّة، وهو يشكل خطوة متقدمة في تطور المجتمع وانتقاله نحو تجاوز الفئوية والجهويّة في الولاء. لا تفترض الديمقراطيّة تخلي المواطن عن انتمائه الفئوي ، بل تحترم خياراته، لكنّها تلزمه بالخضوع إلى قوانين وتشريعات الدولة في ممارسة الحقوق والواجبات، وليس إلى عادات وتقاليد العصبيات الّتي ينتمي إليها في الأصل.
لعلّ من الميزات الهامّة جدّا في الديمقراطية أنّها فلسفة لتسوية النزاعات. يحمل كلّ بلد مكونات متعددة، وبالتالي تتفاوت المصالح بين فئاته، تناقضًا وتضاربا.
يعتبر تداول السلطة من أهمّ مقوّمات الديمقراطيّة في كلّ بلد. في مواجهة الحكم المطلق في الملكيات والإمبراطوريات حيث لا يترك الحاكم السلطة إلاّ بالوفاة الطبيعيّة أو بالإغتيال، وفي الضدّ من أنظمة سياسيّة يتربع فيها الحاكم إلى ما لانهاية ويرفض تحديد مدّة زمنيّة لنهاية سلطته، قالت الديمقراطيّة بتداول السلطة، وتحديد فترة الحكم.
قبل أن تتحول الديمقراطيّة إلى نظام في الحكم، كانت ولا تزال منهجًا في التفكير، يستند بشكل رئيسي على العقلانيّة في القراءة والتحليل والحكم على الأمور، وعلى رفض إطلاقية الحقائق، بل القول بنسبيتها. اعتمد المنهج على التفكير العلمي وعلى الحسّ النقدي في مقاربة الفكر والممارسة، وشدد على نبذ هاجس الهوية والانغلاق على الذات، والدعوة إلى التفتح على الآخر، ورفض انضواء الفرد في السجن المغلق للعصبيات، وهي بذلك ساهمت في تحرير الفرد من أسر الانتماء الاجتماعي ووضعته في رحاب الدولة والمجتمع الأكبر.
إذا كانت المواطنة قد شكلت مرحلة متقدمة في ولاء المواطن للدولة، فإنّ الديمقراطية ترفض اختزال الكائن البشري في هذه المواطنة فقط. لعلّ أهمّ إنجازات الحداثة الّتي خرجت الديمقراطيّة من جوفها، هو الاعتراف بالكائن البشري في وصفه مواطناً حرًا، بعد أن حبسته الأديان وطوائفها ومعها العصبيات في قمقمها ومنعت تصنيفه إلّا في كونه فردًا ينتمي إليها. إنّ الاعتراف بالإنسان فرد حرّ يعني حريته في أن تكون له هويات متعددة وانتماءات مختلفة، بحيث يدخل في هذا السياق انتماؤه الاقتصادي والثقافي والديني والفكري، بما يجعل الهويّة منفتحة على ما يتجاوز السياسي والقانوني.
لا تستقيم الدولة الدينية الّتي يدعو إليها الفكر الديني، بتياراته ومذاهبه وطوائفه المتعددة، مع هذه المقومات الّتي تقول بها الديمقراطية، طريقًا للحكم وحقوقًا للإنسان. ممّا يضع الدولة الديمقراطية على النقيض مع الدولة الدينية. لعلّ ما يشهده العالم العربي من حراك اليوم يؤكد هذا اللاتلاقي بين مبادئ وقيم إنسانيّة ومساواة في الحقوق والواجبات، حيث يجد نقيضه في الدعوات الصادرة عن التيّارات الدينيّة الّتي تؤكد على التمييز بين البشر استنادًا إلى دينهم ورفض كلّ منطق المساواة بين المواطنين من دون أي تمييز.
مصدر السلطات
من أين تستمد السلطة شرعيتها، ومن هي القوّة الّتي تعتبر مصدر السيادة في النظام السياسي؟ الإجابة عن هذا السؤال تشكل مفتاحًا مركزيًا في القواعد الّتي تقوم عليها الدولة الدينيّة، وجوهر ماهيتها. السؤال لا يزال مطروحًا بقوّة اليوم خصوصًا في المجتمعات العربية والإسلامية، ويستعر السجال حوله، ولم يبق محصورًا في النقاش الفقهي، بل يأخذ الجواب عنه منحى عنفيًا. في المجتمعات الديمقراطية، حسم النقاش عن مصدر السلطات والأساس الّذي تقوم عليه السيادة، باعتبار أنّ الشعب هو المصدر الّذي تأخذ السلطة السياسيّة مشروعيتها منه.
وإذا كانت مقولة الشعب مصدر السلطة شبه بديهية في الفقه الدستوري اليوم، إلاّ أنّ ثمنًا غاليًا دفعته الشعوب في العالم الغربي قبل أن تصل إليه، وهو ثمن جرت أنهار من الدماء قبل أن يتجسد في الدساتير ويصبح واحدًا من المحرمات الّتي يمتنع المسّ بها. في هذا المجال، يعود الفكر الديني الداعي إلى دولة دينيّة ليأخذ موقعه بشكل قوي. إنّ مفهوم السيادة الشعبيّة لم يكن السائد إلاّ لقرون خلت أي منذ القرن السابع عشر وما تلاه. كان السائد أنّ السلطة مصدرها الله الّتي فوضها إلى البابوات والمؤسسات الدينية، لكون البابا هو ظل الله على الأرض. ساد هذا المفهوم، ليس بصفته مفهوما لاهوتيًا ونظريًا، بل بصفته مصدر الهيمنة الماديّة والعقليّة على الشعب منذ أن بدأت الكنيسة توطد موقعها في القرون الأولى للمسيحيّة. يمتلئ التاريخ الغربي بشواهد وأحداث وصراعات بين السلطة الزمنيّة والسلطة الدينيّة حول من تؤول إليه السلطة. لعلّ هذه المسألة من أهمّ النقاط الّتي ساهمت في إنتاج الفكر السياسي الحديث منذ عصر النهضة، ومنها نبعت مسائل الحريّة والعقلانيّة والمساواة وغيرها من مفاهيم الديمقراطيّة.
عند التدقيق في الحروب والنزاعات الأهليّة الّتي قامت في أوروبا على امتداد قرون، شكّل الصراع على مصدر السلطة الحلقة المركزيّة في هذه الحروب، بين المؤسسات الدينيّة الّتي اعتبرت أنّها مصدر السّلطة والتشريع، سواء عبر إمساكها بالحكم مباشرة، أو عبر الوصاية على السلطة الزمنيّة.
لم يتسنّ للمجتمعات العربيّة والإسلاميةّ أن تنتج فكرًا سياسيًا يتصدى لنظرية الحكم الإلهي على غرار ما أنتجته أوروبا على يد فلاسفة الأنوار، وذلك لأسباب تتصل بدرجة التطور السياسي والاجتماعي والفلسفي المتدني في هذه المجتمعات، والناجم عن استبداد وديكتاتورية محليّة، وعن هيمنة استعمارية ساهمت في إعاقة تقدم هذه المجتمعات. لكنّ نظرية السلطة ومصدرها انبعثت في العقود الأخيرة بشكل كبير على يد التيّارات السياسيّة الدينيّة الّتي نشأت مع ولادة حركة الإخوان المسلمين في مصر في الربع الأول من القرن العشرين، والنظريات السياسية الّتي قالت بها، وعلى رأسها أنّ مصدر السلطة في المجتمع هو الله وليس الشعب أو الحزب.. وأنّ الحاكميّة هي لله، وصولاً إلى الحسم بأنّ “الإسلام هو الحل”. تطورت هذه النظرية في العقود الأخيرة، وباتت تمثل الأساس الأيديولوجي لفكر التيارات الدينيّة والسلفيّة الساعية إلى السلطة، وبات الرافض لها والمتمسك بمقولة الشعب مصدر السلطات بمثابة المرتد عن الدين والكافر بنصوصه.
يبقى أخيرًا التوقف أمام ادعاءات أنّ الحاكم أو البابا يحكم باسم الإله. يمكن القول أنّ الأنبياء الثلاثة في الأديان التوحيدية كانوا يتحدثون باسم الله، لكون الوحي ينزل عليهم وهم المكلفون بنقل الرسالة السماويّة. لكن بعد وفاة الأنبياء الثلاثة، بتنا أمام بشر عاديين، من رجال دين وفقهاء وعلماء، يفسّرون الدين وفق فهم كلّ واحد منهم لنصوص الدين ودرجة تطوره العلمي والفقهي، وهو ما أنتج تفسيرات مختلفة، بل ومتناقضة، وذات صلة بالهوى السياسي لهذه السلطة أو تلك، وهو أمر يطال الأديان التوحيديّة على السواء.
الفصل بين السلطات
شكلت نظرية الفصل بين السلطات أحد نتائج الصراع السياسي في المجتمعات الأوروبية، وأحد أبرز ما توصل إليه الفكر السياسي في عصر الأنوار. بلور النظرية بشكل مفصّل الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو في كتابه “روح الشرائع” عام 1748. تقول النظرية بالفصل بين السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، بحيث تكون لكلّ سلطة صلاحياتها المستقلّة ومجالها المحدد في تولي المسؤوليات.
لم تسقط النظرية فجأة على الفكر السياسي الأوروبي، بل أتت في سياق الصراع ضدّ الاستبداد والديكتاتورية الّتي كانت سائدة في أوروبا على يد الملوك والأباطرة من جهة، وعلى يد الكنيسة ممثلة بالبابوات من جهة ثانية. اعتبر مفكرو عصر الأنوار أنّ الأساس الّذي تقوم عليه الديكتاتورية السائدة، بشقيها السياسي والديني، تعود إلى كون الحاكم يضع في يديه السلطة بمجالاتها الثلاث :التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، ممّا يجعله حاكمًا مطلق الصلاحيّة، بعيدًا عن الرقابة والمحاسبة.
في المجتمعات الديمقراطية، خصوصًا في العالم الغربي، ينظر إلى الفصل بين السلطات في وصفه مكونًا مركزيًا من مكونات قيام الدولة. اتّخذ تحقيق هذا الفصل عقودًا، اتّسمت بتعقيدات وصراعات بين القوى السياسيّة والحاكم، وترافقت المعركة السياسيّة بمعركة فكريّة وثقافيّة، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، من أجل أن تترسخ هذه النظريّة في المجتمع وتصبح سندًا أساسيا في يد الشعب لمقاومة الطغيان والجموح الّذي يسعى إليه الحاكم للتفلت من الرقابة والقيود المفروضة عليه في ممارسة السلطة.
في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، كان جمع السلطات في يد الحاكم القانون المطلق في كلّ العصور منذ العهود الإسلاميّة الأولى وصولاً إلى العهود العثمانيّة قبل انهيار إمبراطوريتها. ظلّ مفهوم الفصل بين السلطات غريبا عن الفكر السياسي الإسلامي والعربي، يعززه الفكر الديني الّذي كان يرى في هذا الفصل هرطقة وكفرًا. لم ينتج هذا الفكر ما يشير إلى ضرورة الفصل بين السلطات على امتداد تاريخ “الاستبداد الشرقي”، بل بدأ يلامس العالم العربي في مراحل لاحقة من تطوره بعد نيل الاستقلالات، ليس في الممارسة، بمقدار ما ترد نظريًا في الدساتير الموضوعة، والّتي كان قسم كبير منها مستوحى من الدساتير الأوروبية. لذا ظلّ احتكار السلطة سائدًا في الدول العربية وإن يكن هذه المرّة بأشكال مختلفة عن المرحلة العثمانيّة أو العباسيّة.
وضعيّة المرأة
تشكّل الوضعيّة الاجتماعيّة والمدنيّة للمرأة ومساواتها بالرّجل ومنع التمييز بينهما واحدًا من القضايا الأساسيّة الّتي لا يستقيم وجود الدولة المدنية من دون تحققها. عرفت كلّ المجتمعات البشريّة تمييزًا فاضحا بين الرّجل والمرأة، وهو أمر يعود لثقافات وتقاليد وفكر ديني، وهيمنة مجتمع الذكور، ممّا أوجد وضعيّة تتسم بالدونية للمرأة. جميع المجتمعات خاضت ولا تزال معركة إلغاء التمييز، فالمجتمعات العربية تعاني من التمييز، وتشهد نضالات متفاوتة بين بلد وآخر للخروج من الحالة المهينة للمرأة في وصفها إنسان، في أكثر من بلد عربي. والمجتمعات الأوروبية، ترافق فيها النضال السياسي لتكريس حقوق المواطنة والمساواة بين الرّجل والمرأة، في معارك أنجزت فيها المرأة الأساس في نيل حقوقها، على رغم أنّ بعضًا من التمييز ما يزال يطل برأسه، ويتّصل بدرجة تطور المجتمع هنا وهناك. في كلّ الأحوال، فإنّ تحقيق المساواة بين المرأة والرّجل وإلغاء التمييز بينهما يقع في صميم مكونات الدولة المدنيّة.
المرأة والأديان
لعبت الأديان، بنصوصها وبالثقافة الّتي أنتجتها، دورًا رئيسيًا في التمييز بين الرّجل والمرأة. أول التمييز كون الأنبياء الّتي عرفتهم الأديان التوحيدية وغير التوحيدية كانوا من الرّجال، ولا يذكر لنا التاريخ قيادة امرأة لدعوة دينيّة في أي مجتمع بشري. بل إنّ الأديان التوحيديّة تحمّل المرأة مسؤولية الخطيئة الأصليّة الّتي ارتكبها آدم وحواء وأودت بهما خارج الجنّة، وهو إثم ما تزال المرأة تحمل أوزاره حتّى اليوم. والكتب المقدسة تنتسب جميعها إلى الرّجال، ولا نعرف كتابًا منسوبًا إلى امرأة، على رغم وجود نساء ساهموا في نشر الدعوات الدينيّة. ولا يمكن تبرئة الأديان جميعًا من إعطاء الرّجل قوّة دفع جعلت سلطته مطلقة، بما فيها إخضاع المرأة إلى هذه السلطة بكلّ ما يرافقها من دونية وهضم لحقّها كإنسان في علاقتها بالرّجل وبالمجتمع.
لا يقتصر الأمر على الموقع الفوقي العام المعطى من الأديان للرّجل، بل حملت النصوص المقدّسة للأديان التوحيديّة الثلاث ما يحسم في موقع المرأة الدوني ويؤكد تفوّق الرّجل وسلطته عليها. بل إنّ بعض الفقرات الواردة مليئة بالإذلال والمهانة تجاه المرأة.
لا تعني هذه النصوص وصم الأديان بالمطلق في كونها ضدّ المرأة، فالكتب المقدسة تحمل في مواضع أخرى ما يدعو إلى احترام المرأة ومعاملتها بالحسنى. إذا قرأت هذه النصوص وغيرها المشابهة لها في وصفها تعبيرًا عن درجة تطوّر المجتمع في المرحلة الّتي نزلت فيها النصوص، فيمكن القول أنّها كانت تعكس نمط العلاقات الاجتماعيّة السائدة والثقافة المهيمنة الّتي كانت تعطي الموقع المركزي للرّجل، وهي بهذا المعنى ترتبط بمرحلة زمنيّة محدّدة تجاوزتها تطورات المجتمعات ودرجة التّقدم الّتي حصلتها، بما فيها إزالة، أو الحدّ من هذا التمييز. أمّا إذا ظلّت المؤسسات الدينيّة تنظر إلى هذه النصوص بإطلاقيتها وكونها صالحة لكلّ زمان ومكان، تصبح هذه الأديان مسؤولة بقوّة عن التمييز بين الرّجل والمرأة.. في هذا المجال تشكّل معركة تعديل قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربيّة والإسلاميّة أهمّ المعارك الّتي تخوضها المرأة خاصّة، والمجتمع عامّة، لإزالة الغبن اللاحق بالمرأة والمستند في هذه القوانين إلى نصوص دينيّة، (من قبيل تعدد الزوجات والتمييز في الإرث وحضانة الأولاد، ومسائل الطلاق..) حيث تصرّ بعض المؤسسات الدينيّة على التّمسك بها لاعتبارها تستند إلى النّص المقدّس.
شرعة حقوق الإنسان
تشكّل المبادئ الّتي يتضمنها “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” خلاصة القواعد الفلسفيّة والسياسيّة الّتي تقوم عليها الدولة المدنيّة. على رغم أنّ الإعلان أقرّته الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول / ديسمبر 1948، إلاّ أنّه في حقيقته أتى تتويجًا لنضال طويل خاضته المجتمعات الأوروبية في صراعها المديد ضدّ الاستبداد الديني والسياسي الّذي مارسته الكنيسة والسلطات السياسية القائمة. يشرح محمد أركون المسار الّذي تبلورت فيه حقوق الإنسان فيقول :“في البداية كان هناك الفكر الديني، وكان يطرح أولاً حقوق الله لا حقوق الإنسان. فالله هو الخالق، وفعل الخالق نعمة. فالله ينعم على الإنسان إذ يخلقه في مركز الكون، وإذ يعطيه المكانة العظمى في الكون. ومقابل هذه النعم فإنّ الله ينتظر من الإنسان ردّ الجميل : أي الشكر والطاعة... وبناء على هذه العلاقة القائمة على الاعتراف بالجميل والنعم، تترتب بعض الواجبات الملقاة على الإنسان تجاه الخالق. وهذه الواجبات هي”حقوق الله“على الإنسان. يضاف إلى ذلك أنّ مفهوم الإنسان لا يعتني ولا يكبر إلاّ بمعونة الله، إلاّ إذا دخل الله عالمه ومناخه”.
لم يلق الإعلان قبولاً، في البداية، من الكنيسة المسيحيّة ومن المؤسسات الدينيّة الإسلامية على السواء. احتاج الأمر طويلا لكي تعترف الكنيسة بالإعلان، ولو كان نظريًا، فيما بقي رفضه قائما بالنسبة للمؤسسة الدينيّة الإسلاميّة بالنظر إلى القضيّة المركزيّة الّتي ينطلق منها الإعلان حول مفهوم الشخص البشري ومعه مفهوم المواطنة الّتي تقول بالمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن جنسهم أو دينهم.
الدولة المدنيّة في وثيقة “الأزهر”
انخرطت مؤسسة الأزهر في السجال الّذي اندلع في مصر حول مستقبل الدولة في المرحلة المقبلة. واكتسب سجالها حول الدولة الدينيّة والمدنيّة أهميّة خاصّة بالنظر إلى الموقع الّذي يحتله “الأزهر” كمرجعيّة أساسيّة للإسلام السنّي، ليس في مصر فقط، وإنّما في مجمل العالمين العربي والإسلامي. نالت الوثيقة اهتمامًا خاصًا من القوى الديمقراطيّة والتيارات الدينيّة على السواء، كما وضعت على محك النقد، الإيجابي منه والسلبي، ونظر البعض إليها كمؤشر حاسم بضرورة الدولة المدنية في مصر، ورفض الدولة الدينيّة الّتي تقول بها بعض القوى السلفيّة. أمّا أهمّ المسائل الّتي قالت بها الوثيقة فهي:
ــ دعم تأسيس الدولة الوطنيّة الدستوريّة الديمقراطيّة الحديثة، الّتي تعتمد على دستور ترتضيه الأمّة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونيّة الحاكمة..
ــ اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحرّ المباشر.
ــ الالتزام بمنظومة الحريات الأساسيّة في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعدديّة واحترام الأديان السماويّة، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية فى المجتمع .
ــ الاحترام التّام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين.
ــ اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصّة الّتي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهيّة والفكريّة الحديثة.
تستدعي الوثيقة الأزهريّة بعض الملاحظات :
1ــ تحوي الوثيقة، كلّ ما يمت إلى الدولة المدنيّة وإلى مقوماتها الديمقراطيّة في جميع الميادين. بهذا تشكّل الوثيقة مرجعًا فكريًا وسياسيًا ومدنيًا ندر أن صدر مثيله عن أي مؤسسة دينيّة، بما فيها “الأزهر” نفسه من قبل. كما أنّها تشكّل خطابًا متقدمًا جدًّا عن خطب سائر التيّارات الدينيّة الموجودة في مصر أو أي مكان في العالم العربي. لذا لا بدّ من تسجيل هذه النقلة الإيجابيّة في نظرة “الأزهر” إلى طبيعة السلطة والحقوق الخاصّة بالمواطن.
2 ــ مقابل هذه الإيجابيّة في الطرح، لا بدّ من رؤية “بيت القصيد” في الوثيقة، وهي الأسطر القليلة الّتي تربط تحقيق ما نصت عليه الوثيقة من حقوق، بالاحتكام إلى الشريعة الإسلاميّة وإخضاع التنفيذ إلى ما تحدّده المنظومة الفقهيّة الإسلامية بطابعها السنّي، وليس سائر المذاهب، وهو أمر يكشف التناقض الجوهري في الوثيقة، ويؤشر إلى موطن الخطورة الّذي تحمله، بحيث تلغي هذه النصوص القليلة، عمليًا، مفاعيل التوجّهات المدنيّة والديمقراطيّة للوثيقة، وتجعل من الكلام الجميل عديم المعنى. إن وثيقة الأزهر هي في حقيقتها دعوة “مواربة” لإقامة دولة دينيّة.
إنّ الضمانة الفعليّة لتحقيق ما تقول به وثيقة الأزهر في جانبها الحقوقي والفكري والسياسي، هو إزالة النّص الّذي يربط هذه الحقوق بالشريعة الإسلاميّة وبفتاوى رجال الدين في شأنها. إنّ اعتبار الفقه الإسلامي نفسه متدخلاً في كلّ شؤون الحياة الإنسانيّة، الدينيّة منها وغير الدينيّة، وإعطاء الحقّ في إصدار فتاوى تتصل بالحياة الدنيويّة، حتّى البسيط والشكلي منها وتحمل من الغرابة الشيء الكثير، هو أقصر الطرق لهيمنة الاستبداد الديني في المجتمع واتّخاذه أشكالا تعسفية تتجاوز بكثير ما شهدته المجتمعات العربية من تسلّط واستبداد الأنظمة السياسيّة القائمة. وحدها الدولة المدنية والتشريعات الوضعيّة الّتي لا تتدخل فيها أي سلطة دينيّة أو مرجعيّة “إلهية”، وحدها تؤمن العدالة والمساواة للمواطن أمام القانون، وتضمن له ممارسة حرياته السياسيّة والفكريّة والدينيّة من دون قيود أو خوف.