4- ألا تتفق معي أنّ العلمنة ومسارها في التأكيد على مسألة التمايزات الاجتماعية وبأن أحد نتائج هذا كان إكساب الدين «استقلالاً»، ثم ليتحرك هذا الاستقلال إلى المركز حاملاً معه الخطط الكلانية والسياسية للمجتمع...الخ، يحيلنا ضمناً إلى أن الصعود الأصولي هو من إنتاج العلمنة (مأخوذاً بعين الاعتبار والنقد تأكيدك الدائم أنّ البداية يجب أن تكون من الحداثة لا من العلمانية)؟ أجد في هذا الكلام صدى لمن يقول (أوليفيه روا مثلاً) إنّ الإسلام السياسي هو «من إنتاج التحديث» (4). هناك البعض من الخطابات النقدية الغربية لا يقول بهذا إلا من أجل أنْ يؤكد أنّ الأصولية هي من فعل الحداثة. المشكلة هي مشكلة الحداثة إذن، هكذا لتُصب اللعنات عليها! هل اللّوم ينصب هنا، بالفعل، على الحداثة؟
- لا بل يقال أكثر ممّا تقوله أنت في نهاية مداخلتك حول الارتباط بين العلمانية والإسلامية، ليس فقط الأخذ بأنّ الواحدة ناتجة عن الأخرى كمنتوج فرعي، بل يّدعى أنّها، أي الإسلامية، نتاج رئيسي للعلمانية، ومن منظور اعتذاري هي نتاج طبيعي وحتمي. إنّ النتائج الّتي تستخلص من هذا في نمط التحليل الّذي تشير إليه أنت هو أن الإسلامية مشروعة ومرتجاة، وبأنّ الحداثة هي في حقيقة الأمر مفهوم فارغ، وينبغي إمّا إسقاطه أو استبداله بفكرة «تعدد الحداثات»، وهي الفكرة الّتي يستخدمها من يعتذر للظلاميّة أو ينتصر لها ممن يود الإبقاء على لفظة «الحداثة»، ولكن مع تجريدها من أي محتوى أو معنى محدد: وهنا، فإن نتيجة ما يقال في هذا الصدد هو أن كلّ ما يحدث في العصر الحديث هو حديث. إنّ الحداثة، بالنسبة لما بعد الحداثة، تمثل وحشاً مسؤولاً عن التوتاليتارية، وهذا أمر يؤول إلى جمالية لعوبة على افتراض أنّ الحداثة تامّة متحقّقة لا رجوع عنها. أمّا في البلدان الّتي لديها مشاكل وتعثّر في التّحديث والتّرقي والتّقدم فإن هذه رؤية غير مسؤولة ورديفة للقوى الرّجعية. قد يكون من المفيد بالمناسبة أن نستذكر أنّ فكرة تعدد الحداثات اقترنت في منشأها باسم عالم اجتماع إسرائيلي، وأنّ مسارها في مناقشة العلمانيّة جاء عبر شخصيتين متجددتي الكثلكة.
إنّ فكرة تعدد الحداثات والزعم أنّ العلمانية هي “ما بعد مسيحيّة” فوق كلّ شيء، وبالتّالي يجب أنْ يكون هناك علمانية “ما بعد إسلامية” أي نابعة من “الدّاخل” الاسلامي على ما يقال، إن كان لها أن يكون مقام بين المسلمين، مع ترجيح امتناع العلمانية على البلدان الاسلامية، لهي فكرة موجهة نحو القطيعة مع تاريخنا الحديث والمعاصر ونحو الاحتفاء بالتراث أي التغنّي بالتخلّف والانتصار له، واعتماد نظرة ثقافوية إلى التاريخ والاجتماع: حيث إنّ التراث المسيحي، وفقاً لهذه القراءة الشائعة جداً، يتميز بالتمييز بين الدولة والكنيسة، على العكس من الإسلام. وهذه رؤية تبسيطية بإخلال بالغ ومعاندة لوقائع التاريخ، كان بولس الرسول يدعو إلى وجوب طاعة السلطة للربّ، ولم يكن الملوك الفرنجة أو البيزنطيين أقلّ من ممثلين للربّ وأوصياء نيابة عنه. يحتاج المرء هنا لكي يتبيّن كيف أنّ هذه الحجّة زائفة وعبثيّة، إلى النظر إلى التحالف السعودي/ الوهابي بين هيئتين متميزتين تستدعيان للذّهن ما يقال عن المسيحيّة: أمراء آل سعود ورجال الدين من آل الشيخ في تمايز مستمر رغم محاولة الملك عبد الله الحدّ من استقلالية العلماء تجاه الدولة. إلا أنّ هذا سيكون صراعاً طويلاً جدًّا.
الأمور بالنّسبة لي، في المقابل، مختلفة تماماً، بالنظر إلى أنّني لطالما أشدد في تفضيلي دوماً للالتفات إلى التمايز على الانشغال بالمماهات بين الأشياء المختلفات المتمايزات، وعلى النّظر كذلك في الجدل بين الخاصّ والعام، وليس ردّ أي منهما إلى الآخر. من الواضح أنّه ليس لدينا تناقض بسيط بين الخطاب الاعتذاري المنتصر للرجعيّة الدينيّة من جهة، والذهاب إلى ضرورة البحث عن داء أساسي، خلقي –تكويني فينا نحن (وأنا أشعر أنّك أنت سائر في هذا الوادي). إنّ التطوير والتحديث والعلمنة تمثل ديناميات، وهي ما كانت مجرّد صيغ أو وصفات. ولا يمكن أبدًا أن يقال عن أي أمر من أمور المجتمع أنّه تامّ الاكتمال أو أنّ له التمام في أي بلد أو قارّة وفي أي مرحلة زمنيّة، ذلك أنّنا بصدد ديناميّات لا بصدد أحوال قارّة. كما أنّ الأحداث التاريخية لها الكثير من النتائج غير المتوقعة، إذ أن الرياح تجري كما لا تشتهي السفن. وبالتالي، لا يمكن القول أنّ الإسلامية، أو أياً كان مّما تشير إليه أنت بالتعبير الغامض «الإسلام الأول»، في تناقض محتم وإجباري مع هذه الديناميات. ولد الإسلام السياسي وتمدّد في كنفها، إلا أنّه حمل من قبل قوى معارضة لتلك الّتي أولدتها، وهي قوى تقدم ثقافة تتعارض مع نتائج العمليات الّتي أُنجبت منها، وكأن ذلك شكل من أشكال قتل الأب أو قتل الأم على يد سليل مختل. ولا بدّ أنْ نضع بعين الاعتبار من باب المقارنة أنّه لا يمكن التفكر في الرومانتيكية (وهي ظاهرة تاريخية معقدة للغاية) في أوروبا دون اعتبار الحداثة، حيث إنّها تعارضها في أسسها المخياليّة وفي تمجيدها لما قبل الرأسمالية (ولكن بالطبع، في المقابل، أدت الرومانتيكية إلى ابتكارات مهمّة في الموسيقى والأدب؛ وكان العديد من الثوريين والتقدميين رومانتيكيي المشاعر). وبالمناسبة، أعتقد أنّه ينبغي علينا أيضاً أن نكون واضحين حول ما تدعوه أنت بـ«الطهرانية».
حسب تقديري، فإنّ هذه اللفظة (الطهرانية) هي تعريب مباشر لـPuritanism: لقد كانت الطهرانية عبارة عن حركة بروتستانتية راديكالية بل ثوريّة، بدأت ناشطة سياسياً (ومحاربة للتصاوير والتماثيل في الكنائس، كما هو حال طالبان وداعش والنصرة، عاملة على محو أو تدمير الأعمال الفنّية في الكنائس — تقدّر خسارة بريطانيا من الاعمال الفنيّة في الكنائس في القرن السابع عشر إلى ما يربو على 80٪)، ثمّ تحولت من الهجوم إلى الدفاع بعد هزيمتها السياسيّة والعسكريّة عندما انتقل مناط نشاطها إلى مجال الورع والأخلاق، وإلى حدّ كبير إلى الهجرة من حيث تركت أثراً قوياً للغاية على المجتمع الأمريكي وجسمه السياسي. ودون الرّغبة في الدخول في التفاصيل التاريخية، فإن الطهرانية تشير عموماً إلى ما يشير إليه النّاس العاديون بالورع الّذي يشكّل سلطة أخلاقية شديدة السطوة والوزع على السلوك الشخصي، ممّا يعرف عادة بـالتزمت. والعديد من الجماعات البروتستانتية كان لديها أو لا تزال متّسمة بهذه الخاصيّة. وإن حزب النّور السلفي في مصر قد زود الورع، والورع الوسواسيّ أحياناً، بنكهة سياسية؛ أمّا جماعة التبليغ فقد زودها بنكهة الدعوة والتدروش. ومن جهتهم فإن المطّوعين السعوديين وجبهة النصرة وداعش يتشددون في ذلك— داعش تقوّم السلوك باستخدام الحجارة والسوط والسكين. لهذا، في الحقيقة فإنّ الكلام حول الطهرانية يجب أن تكون له مدلولات عينيّة. علينا القول أيضاً أن ليس كل السلفيين طهرانيين، فمحمد عبده لم يكن طهرانياً بهذا المعنى، وهناك تاريخ طويل من المراوغة السياسيّة والاجتماعيّة في الإصلاح الإسلامي، وهو ما أحبّ أن أشير إليه بـتربيع الدوائر. من بين أمور أخرى، لم يقرّ لا عبده ولا آخرون بوضوح، أنّ العبودية أو الرّق (المشروعة تماماً في القرآن كما تشير داعش) قد تقادمت بمعنى أن الفقه قد تقادم مع تغير الأحوال في العمران، وأنّه بالتالي أصبح لاغيًا. ينطوي هذا الإقرار الّذي لم تجروء عليه الاصلاحيّة الاسلاميّة على فكرة أنّ القرآن هو منتج تاريخي، وهذه فكرة ما كان الاصلاح الإسلامي قادراً على الإقرار بها ولو أنّه أقر عملياً في كثير من الأحيان بنتائجها. الطهرانية هي حقيقةً التزمت، ظاهرة عصابية شديدة ضمن فضاء أوسع من الدين. وينطوي عليها عموماً شخصيات مُوَسوَسَة، كما نقول نحن في سورية، أشخاص يمارسون التدين عُصابيّاً وقهرياً. ويمكن أنْ يقال أيضاً أنّ الثورة الثقافية في الصين استدعت اضطرابات عصابية شبيهة.
تتطلب السلفيّة الجهاديّة قدراً باثولوجيًا من النرجسيّة، هذا إضافة إلى الوسواس القهري، الّذي يتعزز من خلال الاغتراب عن البيئات والتحويم فوقها، والعمل على تقويم هذه البيئات باستخدام العنف المحض من خلال سلوك مبرمج سلفاً وردود فعل — بل استجابات — بافلوفيّة (نسبة إلى عالم النفس الروسي إيفان بيتروفتش بافلوف Pavlov صاحب مدرسة الارتباط الشرطيّ في سلوك البشر و الكلاب) آلية تقريبًا. إنّه نموذج يمكن ربّما أنْ يفهم هذا من خلاله كونه إخراج لسايكودراما، حيث تكتب الأدوار بإحكام وتحدد النتائج مسبقاً وتتم فيها مسرَحَة السلوك بغرض الممارسة القهريّة العلنيّة. كل هذا يرمز إليه من خلال استعراض المؤشرات المادية على الاغتراب والغرابة، ومن خلال الإيغال في مسرحة وإخراج الغربة والتوحّش، وهو على النقيض من التأنّس: العبارة الغريبة المنمّطة والنبرة الزاجرة مع السبّابة المرفوعة دوماً واللّغة المتقادمة والهندام واللّثام والتسمّ والتمتمة والتكبير والصلب وهكذا دواليك. هذا هو معنى الغلوّ. ارتباط مثير: لقد استخدم لوثر المفردة الألمانية Schwaermerei (الغلوّ) ليشير إلى الغلاة من البروتستانت المتمردين على سلطة الأمراء المنتقلين إلى مذهبه الجديد (أمّا تعصبه هو فقد كان مسألة مختلفة): وهذه المفردة تعني الاحتشاد، والمجاز هنا هو السرب من الحشرات، ما وصفه ابن خلدون، بالإشارة إلى بني هلال (ليس على نحو دقيق تماماً) بالجراد المنتشر. ودعنا لا ننسى كيف تثبتت هذه الفكرة في الثقافة العربية الكلاسيكيّة: أن المعنى القاموسي الأصلي لكلمة الغوغاء تشير إلى سرب الجراد الّذي يهم بالطيران.
ولكن دعني أعود إلى الإصلاح الإسلامي لتوضيح بعض النقاط الّتي أثرتها أنت. إن الاصلاح الإسلامي، كمشروع فكري، غير متماسك ومحكوم عليه بالفشل مفهومياً: فهو يسعى باستمرار إلى المراوغة الموضوعيّة، إلى تربيع الدوائر مدّعياً بأن القرآن يمكن قراءته كمصدر للقضايا الحاصلة في عالم الحداثة، وبأن الحداثة يمكن أن تستوعب استناداً إلى مطابقتها للقرآن. لقد علّقت سابقاً على هذا (وبإمكاني الإحالة على كتابي العلمانية لمناقشة مستفيضة(5))، لكن دعني أضيف إلى ذلك أنّ لدى هذا الاتّجاه نتيجتين ممكنتين في الاطار الأوسع لانتشار السلفيّة بمعناها الأصلي: إمّا الاهتمام الكبير بالنّص الّذي يفهم على نحو حرفي (ومن هنا نجد نزوع رشيد رضا إلى الماضوية المتزمتة بعد موت محمد عبده عام 1905)، أو الاهتمام الشديد بالضروريات الحداثية مثل الأعمال المصرفية والتأمين والداروينية وغير ذلك من المعارف الحديثة والشؤون السياسيّة كالاشتراكية واتفاقيات كامب ديفيد. يندرج هذا في سياق أساليب توفيقية خطابية مارسها عبده (ويوسف السباعي، وبعض مشايخ الأزهر). وفي 26 سبتمبر 2014 أعلن مفتي طاجكستان، البلد العلماني الواضح، أنّ انتقاد الحكومة هو إثم عظيم سيعاقب عليه الله. بل يمتد الأمر إلى أمور غريبة مثل العملية الجراحية لاستعادة العذرية (الّتي شرّع لها شيوخ الأزهر) والفيزياء وعلم التحكم الآلي والمحرك النفاث. إنّ المعيار الحاسم هنا ليس معرفياً، بل هو سياسي، إنّه يتعلق بالظرف وبما قد يعتبر محموداً و مناسباً من المقال في هذا الظرف أو ذاك. وهنا دعنا نتذكر أنّ الشابّ رشيد رضا أصدر فتوى يشرع فيها الماسونية، حيث كان كلاً من خديوي مصر ومحمد عبده أعضاء في المحافل الماسونية. أما في أوروبا فإن انعطاف الدين باتجاه العقلنة على نحو حاسم ما كان إلاّ لأن الظروف المعرفيّة والاجتماعيّة أرغمته على ذلك. ولكن بتفاوت. فقد أنتجت الكنائس اللوثرية (والاصلاحية اليهودية) تعديلات لاهوتية لم تقم بها الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، وهذا الطرفان الأخيران يفضلان التسويات السياسية دون العمل على مراجعة العقيدة. وقد كان للمجتمعات في غضون ذلك ما يكفي من الزمن لاستحكام الحداثة ونظمها المعرفية وهيمنتها الاجتماعية بما فيه الكفاية لترويض الدين. إن الإصلاحي الإسلامي بصورتها المألوفة مشروع يبدو وأنّه أصبح منتهي الصلاحيّة في وقت انتشرت فيه الأصوليّة شعبيًا و عسكريًا، ممّا يفرض عليها إعادة صياغة الذّات على نحو مطابق للّحظة — و هذه صياغة لن تتاح لها الاستقرار و المقدرة على الاستنساخ الذّاتي دون دعم بل ضغط مستمرّ وقاهر، سياسيًا واجتماعيًّا.
إذاً، ما الّذي حدث لنا؟ بشكل مختصر: إنّ ما تشير إليه الشروط الجديدة الّتي ذكرتها في بداية هذا الحوار تتعلق، من جهة، بضمور الشروط القديمة، الّتي ما كانت ممكنة إلا خلال فعل الدولة الّتي لعبت لعقود دوراً تمدينياً. ومن جهة أخرى، وعلى نحو متلازم، تتعلق الشروط والظروف الجديدة هذه بالقطيعة في المسار التاريخي الّذي كان ناظمًا لتاريخنا الحديث حتّى العقود الثلاثة الماضيّة. إنّها القطيعة هذه الّتي تخوّل المرء القول، كما أشرتُ سابقاً، أنّ غير المتوقع وما كان غير قابل للتّصور قد تحقق على نحو فجائي. إنّني أتفهم أنّك والكثيرين قد ولدوا في وقت أصبح ينظر فيه للمستقبل على أنّه نكوص نحو ماض معياري يسمّى تراثاً، نكوص كثيراً ما يفصّل على مقاس السلفيّة باعتباراتها المختلفة. إلّا أنّ جيلنا المخضرم كان على تماس مع عالم آخر: إنّه عالم لم يكن من السّهل، على سبيل المثال، أنْ تجد فيه امرأة محجبة في دمشق، إذا ما استثنينا أجزاء من دمشق القديمة. لقد كانت النساء من القرى النائية يظهرن بلباس محلي يتضمن غطاء الرأس، بألوان وأشكال كانت مميّزة بالنسبة للمزة و كفر سوسة و لداريا وغيرها من قرى الغوطة. لم يكن هذا حجاباً، بل كان لباساً محليًّا، كما هو حال العباءة في العديد من بلدان الخليج، لباس محليٌّ نظيرته لدى الرجال الدشداشة. إنّ الحجاب، بالتعريف، هو زيّ موحد شامل وليس ناجماً عن التراث والعادة بل متأتّياً عن التّمدد الاسلامي السياسي والقيَمي والضغوط السياسيّة والاجتماعيّة والمعنوية المصاحبة له؛ إنّ التدرّج في الألوان و الموديل و التفصيل عند القبيسيات، مثلاً، هو مثال واضح على هذا. وحينما أخبر جمال عبد الناصر الجمهور، في خطاب له، بأنّ مرشد الإخوان قد طالبه بإجبار المصريات على ارتداء الحجاب، على الرغم من عدم استطاعته على او رغبته بتحجيب إبنته طالبة الطبّ، و انه — اي عبد الناصر — لن يقوم بتحجيب المصريات (و نذكّر بأن زوجته ما كانت محجّبة)، ضحك الجمهور من ذلك(6). ويمكن للمرء أنْ يكتب عن تاريخ التحجيب عند العرب (وآخرين كذلك) على مدى السنوات الثلاثين الماضية، وجزء كبير من ذلك يفسره الاقتداء الأبله والنفاق الاجتماعي والوجل من لعنات الاسلاميين و تعالمهم.
دعني أكرر هنا: أن للموجة الراهنة من النكوص في العالم العربي أسباب وشروط لا يمكن أنْ تستمد من «الإسلام الأول» — و اعترف أنّني ما زلت غير قادر على فهم ما عنيته أنت بتلك العبارة — أو من جوهر طهراني مّا. إنّنا بحاجة إلى صورة للوضع تلم بتعقيده، لا أنْ نلجأ إلى حتميّة ميتافيزيقيّة خالية من التدبر التاريخي أو التحليلي، وغير حكيمة سياسياً. إنّ الموجة الحالية هي نتاج قوى قامت أثناء الحرب الباردة، و تمردت بعدها. يكمن سرّ دين الدنيا في دنيا الدين.
5- كلامك (الّذي ورد في سياق الحوار) أنّه «ليست العقائد هي الّتي تحرك التاريخ بل التاريخ هو الّذي يجعل العقائد تتلاءم لأزمنة وأمكنة محددة» يلخص كثيراً من الإشكالات الّتي تتعلق بالألوان الكثيرة الّتي تلبسها الأصولية بحسب السياق الّذي تعمل فيه. لكن ألا توافق معي أنّه من طبيعة الثقافة الأصولية أنّها مائعة أصلاً، نظراً لطبيعة التفكير الديني المرن؟ ثمّ ومن جهة أخرى، هل الألوان الّتي تتلون بها الأصولية لها علاقة بالفضاء الثقافي العام الّذي تخرج منه الأصولية؟ في الحديث عن العلمانية دائماً ما تُدرس كثافة الأصولية بمدى انتشار وتموضع الثقافة العلمانية في المجتمع. أليس هذا ما يفسر أنّه بسبب غياب العلمانية كثقافة على الفضاء العربي كثافةَ الحركات والفكر الأصولي فيه؟ ربّما بإمكاننا سحب هذا حتّى إلى بدايات ظهور الحركات الإحيائية، قومية كانت أم أصولية. بالضبط، أليس هناك من ربط بين الفضاء الثقافي وبين الأصولية؟ ولا أعلم إذا كان لديك من كلمة حول تحديد مفهوم الثقافة في سياقنا...
- يأخذنا هذا إلى مسألة العلاقة بين المعرفة والسياسة والمجتمع، وبشكل أكثر تحديداً إلى سوسيولوجيا المعرفة. وكما أشرت سابقاً، فإنّ الفكر الأصولي الاصلاحي ذرائعي للغاية، إنّه من الناحية المفاهيمية مراوغ ويربّع الدوائر. لقد أشرت مرات عديدة فيما سبق أنّني أعتقد أنّه منذ الحرب الباردة، أو على نحو أكثر تحديداً منذ انتهاء الحرب الباردة، فإنّ البيئات الاجتماعية والثقافية لدينا قد تغيرت على نحو كبير باتّجاه نكوصي. وقد ذكرت تواطؤ المثقفين العلمانيين مزدوجي الوجدان. يحتاج المرء أنْ يشير هنا، وعلى نحو حاسم، إلى النّزوع الديماغوجي نحو تدين استعراضي محافظ بل رجعي للدول العربية العلمانية: أسلمة الدولة للأفكار والخطابات وبعض مظاهر السلوك الفردي في العراق بعد عام 1991 (عندما اكتسب العلم العراقي تكبيره)، والتّقوى النابية للسادات، والتورّع المظهري أو المخلص للطبقة السياسيّة المصرية منذ عهد السادات مع وسم الجباه على نطاق واسع، ورعاية الدولة السورية للمؤسسات الإسلامية التعليميّة والاجتماعيّة والاعلاميّة الّتي بثت خطاباً بالغ الرجعية في الأخلاق والاجتماع، وصورة زين العابدين بن علي في كامل أرجاء تونس و هو في فوطة الإحرام تحت عنوان «حامي الحمى والحرم». لقد خلق هذا وضعاً يكاد يكون شيزوفرينياً من الفصام بين الواقع والكلام حول الواقع. نحتاج أنْ نؤكد على الدور الحاسم للبنية التحتية ذات المحتوى الديني، التعليميّة والتواصليّة والتنظيميّة الواسعة، الممتدة عالمياً والّتي بنيت بسخاء ورعيت من قبل الهيئات والدول — الخليجية في الأساس — الّتي رعتها ومولتها، والإلهام الشعبوي و المادي و السياسي الّذي قدمته الثورة الإيرانية لكثير من اليساريين العرب المثقفين - وهذه مسألة شبيهة بقضية فوكو الّتي ذكرتها أنت، هذا على الرغم من أنّه يجب أنْ نعترف بتعقيد العلاقة بين حماسه الأولي وموقفه اللاّحق. لقد أتت كل هذه الأمور مجتمعةً في حالة من التهتّك القيَمي والتشظي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الّذي نتج من اقتران خصخصة الدولة وما دعي بالترشيد النيو-ليبرالي، بما في ذلك تفكك نصاب الثقافة الجامعة التالية لضعف الفاعليات الثقافيّة والتربويّة والتعليميّة للدولة: هذا ما خلق شرطاً مفتوحاً لأنْ يُملأ من خلال ما أشير إليه سابقاً في بداية هذا النقاش، من خلال وضع جديد جدًّا يتبلور الآن أمام أعيننا. وضع أتاح انتشار جملة من الأفكار والأمزجة والأهواء الإسلامية وانتقالها إلى المركز في حيوات الكثيرين.
لهذا، نعم، ازدهر الفكر الأصولي في ظلّ هذه الظروف، فضلاً عن ازدهار نوع من القوميّة الثقافيّة الإسلاميّة المصابة برهاب الآخر الأجنبي، المؤكدة على الهويّة والحصريّة الوحشية للهويّة (حماس، حزب الله، وغيرهما ممن يمانع باسم الله). وكما تشير أنت، فإنّ الفكر الأصولي فكرٌ مراوغ، لأنّه غير متماسك، ولا يكتسب التماسك الكامل إلّا عندما يُدفع إلى منتهى التطرف، لأنّه قائم على الموازاة والموائمة بين نقائض. وحالما يتم هذا التماسك (ودعنا لا ننسى أنّ هذا التطرف يمثل حالة ثابتة في الأيديولوجية الدينيّة الرسميّة في السعودية وفي النظام التعليمي في هذه الدولة وغيرها من الدول، النظام الّذي تخرج منه جهيمان العتيبي وأسامة بن لادن والعديد من الآخرين ومنهم قضاة داعش وغيرها في سورية والعراق)، فإنّه يدفع بالمواقف الأصولية الأخرى الأقلّ ثباتاً نحو التطرف، حيث يتم التوصل إلى اتّساق وتماسك مريح، لا يزعجه التّفكر، وينفي البهجة عن الحياة والخوف عن الموت، ويسلم نفسه لإله مكفهّر.
من الواضح اليوم أنّ الإسلام يُبرز إلى السطح أسوء وأبشع ما يمكن أنْ تشي به الأديان التوحيدية، وإن الحجّة المتداولة أنّ داعش لا تمثّل الإسلام الحقيقي أو أنّ صورة المسلمين تتعرض للتشويه من الأمور الّتي عليها شكوك كثيرة. من الصحيح أنّ الإسلام والمسلمين يمثلون سلة واسعة من الممارسات والأوضاع والأفكار والأهواء وأنّهم مختلفون في نواحٍ كثيرة حيث أنّ الإسلام هو حقيقةً ما يفعله المسلمون وما يقولونه. لقد مارست المسيحية ومارس المسيحيون العنف والهمجية في لحظات شتّى: محاكم التفتيش وبعض الأشكال الراديكالية من البروتستانتية وحروب المائة عام وجيش الربّ في أوغندا ودور الكنيسة الأرثوذكسية في الحرب الأهلية في يوغوسلافيا و الكاثوليكية في الحرب الأهلية في اسبانيا. ومارستها بين بعض الجماعات الأصوليّة اليهوديّة في إسرائيل وغيرها كما بدا في عصر الملوك الحشمونيين وكما نراه في العهد القديم و كما ترغب في ممارسته بعض الجماعات الأصولية في اسرائيل. ليست داعش شذوذاً ولا انحرافاً عن الإسلام، بل بالأحرى شكلاً ممكناً له، يرُكز بشكل خاصّ على طابعه العدواني والجوانب الدمويّة في تاريخه، انطلاقاً من قراءة سلفية متّسقة لأجزاء من القرآن (إن العهد القديم أكثر وحشية، إلا أنّه ليس سوى قلّة من اليهود تأخذ به حرفياً، وعلى نحو متحفظ، وعلى نهج موجه إلى جمهور خاصّ لا إلى العالم بأسره، كما أنّنا لا نجد بين السلفيين اليهود من يقتل عشوائياً أو يفجّر نفسه في الجموع والأسواق). ليست هناك صورة مشوّهة عن الإسلام عالمياً، بل أن هذا يؤخذ بجريرة ذاك استناداً إلى سلوكيات إسلاميّة غريبة ووحشيّة بكل المعايير. لا يمكن أن نلقي باللّوم على الإسلاموفوبيا ورهاب الإسلام: هو موجود فعلاً، ولكن ليس بالضرورة بجرعة أكبر من عداء الأصوليين للمسيحية والممانعين للغرب دونما توصيف أو حصر، وإنّ رهاب الإسلام ما كان له أن يتّخذ الأشكال الّتي يأخذها اليوم عند بعض الغربيين لولا سلوك المسلمين أنفسهم.
إن للداعشية ومثيلاتها صلات أكبر مع الوهابية. أمّا الاختلاف فهو يكمن في الموقف من السلطة السياسيّة القائمة — السلطة العينيّة، لا فهم طبيعة السلطة السياسيّة. فبينما تتحدث الأخيرة، أي الوهابية، عن طاعة وليّ الأمر، فإنّ الأولى، الداعشيّة، تريد تأسيس دولة من نقطة الصفر وتطالب بالبيعة وبالتّالي بالطاعة للخليفة زعيمه. نقيض ذلك لديها الردّة. ولا ينطوي الاختلاف بين هاتين الفرقتين على شؤون التنظيم الاجتماعي أو التوجه الفكري والثقافي أو السلوك الشخصي أو كراهية وتكفير المخالف؛ يكمن الأمر في العداوة السياسيّة بينهما إذ أنّنا نرى أنّ داعش على خطى جهيمان بن محمد العتيبي الّذي كان لفترة طويلة تحت رعاية الكهنوت الوهابي بعد أن تتلمذ في مؤسساتهم. إنّ نقد العاهل السعودي الراحل عبد الله للمؤسسة الوهابية لفشلها في الوقوف في وجه الإرهاب ليس دون دلالة. وقد انتقد المفتي السعودي داعش بعد وقت قصير من ذلك، بيد أنّ المؤسسة الوهابية تتشارك مع داعش بالتوجه الاجتماعي والثقافي والأيديولوجي الشّامل. وحتّى يوم تشرين الأول 2014، ما زال موقع “الإسلام” لوزارة الشؤون الإسلاميّة والدعوة والإرشاد السعودية، يفرض الجهاد ضد الآخرين («الكفار») ويوجب دعم هذا الجهاد بالمال والسلاح، ويحذر السعوديين من السفر للدارسة في الخارج ويساجل ضدّ الّذين يدرسون العلوم الحديثة. وقد روي أنّه بعد مذبحة الشيعة في الإحساء في الهجوم على الحسينية الّذين كانوا يغادرونها في يوم عاشوراء المنصرم 2014 أنّ العديد من الأئمة قد رفض الانصياع إلى توجهات وزارتهم، ولم يدينوا هذا العمل خلال خطبة الجمعة: وكان منهم ممن استمر في الحديث عن مكافحة البدع والشرك في إشارة مبطنة إلى الشيعة. ويبدو أن استطلاعات الرأي الانطباعية في المملكة العربية السعودية تشير إلى أن أعدادًا كبيرة لا تعتقد أن تنظيم داعش مخطئ فيما يقوله، حيث أنّ ما تدعيه وتقول به يتوافق مع ما يُدرّس في النظام التعليمي السعودي باعتباره من المسائل الحاسمة بالنسبة للإسلام. يأتي الكثير من التمويل إلى داعش وجبهة النصرة وأحرار الشّام وغيرها من المانحين من القطاع الخاصّ في السعودية ودول الخليج وغيرها، فضلاً عن أنّها تأتي كذلك من الأجهزة الأمنية. وكما هو حال الأميركيين والوحوش الّذين خلقوهم في أفغانستان وباكستان، والسادات الّذي شجع الجماعات الإسلامية ضدّ اليسار، أو، في الواقع، الأسد، الأب والابن، اللّذان شجعا الأسلمة الاجتماعية والثقافيّة المعياريّة، فإنّ السعوديين لم يتعلموا الدرس بعد، وإن لسعة العقرب دوماً في ذيله.
أمَا وقد تكلمت في هذا الأمر، فدعني أكرر مرة أخرى: أولاً، إن داعش يمكن تفسيرها تاريخياً واجتماعياً، وليس من خلال الباب الخلفي، بالرجوع إلى لوثة الفكر الأصولي الّذي يرنو جواهر ثابتة لا يطالها التغيير من أمامها ولا من خلفها، وثانياً، وهذا ما يعيدنا إلى سوسيولوجيا المعرفة، أنّ المعيار النهائي للحقيقة في هذا النمط من الخطاب البراغماتي والمراوغ هو السياسة، حيث أنّ الّذي يحسم مجموعة رؤى وأهواء كحقيقة تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة، لهو القدرة بالنسبة لداعمي هذا الشكل من الرؤى والأهواء لفرض نظام الحقيقة هذا، وجعله هدفاً للقبول العام في فضاء معين ومحيط معين. وهذا ما يرقى إلى هيمنة ثقافيّة، بل هيمنة أخلاقية ثقافيّة. بيد أنّ هذا لا يعتمد على الحكم المعرفي بل على الاستجابة للسلّطة؛ والاستجابة للسلّطة أمر تلقائي، ويركز على التثاقف والتعليم والالتزام الديني، وكلّها تفترض قضايا بديهية من خلال أثر السلّطة. لا بل في الواقع إنّ مثل هذه — أي ما يبدو بدهيًّا في عمليات التلقين والتنشئة وإعادة التنشئة — تمثل أمراً اعتباطياً في نهاية الأمر من وجهة النظر الابستيمولوجيّة (كما هو تسلسل الأصوات في اللّغة). وهكذا أيضاً الأساطير والخرافات الواردة في الدين. إنّ عبثية داعش الجلية ليست حجّة ضدّهم (اجتماعياً وداخل منظومة السلّطة الدينيّة). إنّها وبهذا الشكل –وهذا ما يدعى الإيمان والاعتقاد- مقبولةٌ من قبل العديد من النّاس سليمي العقل، الّذين يجدون في التراث الديني ونصوصه مرجعاً شاملاً. في الإسلام أزمة، وأضحى الإسلام مشكلة عالميّة — أمنيّة وسياسيّة واجتماعيّة وإدراكيّة-معرفيّة — لا يمكن أن يتوقف حلها على المسلمين فقط أو على المشتغلين في العقيدة حصراً.
6- اسمح لي أنهي هذا المحور بهذه الملاحظة التساؤلية. أليس هناك من اقتراب فيما قلته وبين ما كان يقول به إرنست غيلنر؟ أقصد بنحو محدّد أنّ الأصولية تصعد من المدينة، بقوّتها والكاريزما الّتي تمتلكها في الإحياء والبعث، من خلال العلماء والطهرانيين الّذين يلعبون دور مجددي الدّين (High Islam)، وهؤلاء يتحالفون مع أو هم بالأصل منخرطين مع برجوازيات المدينة، إلا أنّ الأصولية هنا لا تكتسب موطئ قدم إلّا من خلال عناصر لها من أهل الرّيف أو الهوامش أو الإسلام القبائلي...الخ، والّذين يمثلون تعبيرات الإسلام الشعبي (Low Islam). هذا الحال يذكر بما تقوم به التحولات بالهوامش: من صيادين إلى كلاب صيد يعملون كعناصر عند إحيائي وأصولي المدينة (وأنت ذكرت بالأصل كيف تعمل الميلشيات كـ«مستخدمين»). يبدو أنّ الصورة هذه اليوم تشابه كثيراً ما حدث في بعض المناطق السورية وبخاصة في دمشق وحلب، وإلى حدّ مّا إدلب. لكن، أيضاً هناك نقطة لطالما تستوقفني. ثمّة تحولات فعلاً رهيبة قد حدثت: كيف، مثلاً، تحولت قواعد حزب البعث الأصلية في «الأرياف» الداعمة له إلى أشدّ الإسلاميين المعارضين له؟ في حين أنّ مدناً كان المتوقع لها على نحو شديد أن تقوم ضدّه، إلّا أنّها لم تفعل كما هو حال حماة رغم الإسلامية المحافظة الّتي تسيطر على المدينة، وكذلك حلب لولا هجوم الأرياف عليها بعد أنْ أصابهم اليأس في دعواتهم لها لأنْ تنخرط في الحراك. خذ، مثلاً، في الجهة المقابلة، مناطقَ كان النظام يجندها دائماً لصالحه، ولم يكونوا يعانون من ضغوطات اقتصادية (مثلاً، منطقة كفرنبل معظم سكانها موظفون في جهاز الشرطة، مناطق في درعا كانت تجند في أجهزة الأمن والحزب...). هل لديك من تعليق على هذا؟
- لا، ليست المسألة تماماً كما هي عند غيلنر- فرؤيته غير تاريخيّة، كما أنّ العُنصرَين في نظرية البندول المشهورة الّتي قدمها هما من الأنواع المثاليّة خارج الزّمن، وقد بناهما على تأويل مبالغ به لابن خلدون و لإثنوغرافيا المغرب المعاصر في آن، ثم قَدّم كليهما معاً في نموذج رؤية تفسيرية لا يمكن أنْ تتوافق مع الحقائق التاريخيّة. وعموماً، فإنّني لا أحبّذ مثل تلك الرؤى التبسيطيّة حول إسلام النّخبة وإسلام العامّة، وأبني مقالاتي على استقراء الممارسات المحليّة المرتبطة بالزّمان والمكان.
تقتصر ملاحظاتي على التطورات الّتي جرت في القرن المنصرم، و هي ترتبط بشكل ملموس باتجاهات الحداثة - وخاصة صعود طبقة جديدة من الإنتلجنسيا (المدفوعة دوليًّا) الحضريّة، الّتي استمدت بعض مادتها البشريّة من الأرياف أيضاً على صورة غير مسبوقة تاريخيًّا، وهذا التطور الأخير تمّ في ستينيات القرن العشرين. أمّا ملاحظتي حول الهوامش، فهي مرتبطة بالعقدين أو الثلاثة الماضية، حيث عملت فيها الهوامش وكأنّها مجردة عن المكان: إنّها موجودة فيزيائيًّا على أطراف المدن، بيد أنّها غير منخرطة في المدن الّتي تغيرت معالمها على نحو سريع جدًّا؛ تتظاهر الضواحي الهامشيّة و العشوائيّة بإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية لمناطق المنشأ، ولكن في ظلّ ظروف مختلفة، وبالتّالي بأساليب وطرق جديدة. هكذا، فإنّ قطاع منطقة الطبالة خارج دمشق ليس مجرد استنساخ للقرى المسيحيّة في حوران. كما أنّ تلة عليا في المزة [مزة-جبل م.] ليست مجرّد قرية تمّ نقلها من جبل العلويين.
إنّك تطرح عدداً من أشدّ الأسئلة الملموسة ذات الصلة. لماذا انقلبت أجزاء كبيرة من الرّيف على الدولة، بعد أن كان قد فضّلها البعث واستقى من بعضها مادّة للحزب والمخابرات (حوران) وبعض تشكيلات القوى المسلّحة (بادية حماه)؟ إنّني أعتقد أنّ الأزمة الزراعيّة في السنوات الأخيرة تكتسي أهميّة كبرى كعنصر تفسيري وتوضيحي للأسباب المباشرة. كما أنّ مصادرة الأراضي في ظلّ إطار مجموعة من الذرائع لها نفس القدر من الأهميّة. وهنا ينبغي أنْ نتذكر عمليات النهب والإذلال: فإذا ما انقلبت النّفوس والأمزجة في أجزاء من حوران، الّتي كانت مصدراً لرجال المخابرات وقوى أخرى على الدولة، فإنّه ينبغي للمرء أنْ يفكر أيضاً في عبارات بسيطة أنّه منذ بداية الحراك كل هذه العوامل قد اتّخذت زخماً خاصاً عندما تفجرّت سمة خاصة تعزى للحورانيين: «طلعت حورانيّتهم» (كما يصطلح السوريون غير الحوارنة على ذلك). إنّ المناطق الّتي كانت خاضعة لنهب النظام منذ 2011، لم تترك للسكان (ومن تبقى من السكان) سوى الاستياء والإذلال والإهانة والفاقة؛ وهذا، بشكل مّا يختصر الأربعين سنة الماضية في التاريخ السوري الّذي تدهور فيه الشعور القومي والكرامة الشخصية والشعور الطبيعي بالتضامن بين النّاس إلى مستويات بدائية أسفرت عن الرّغبة في الانتقام الخالص والأعمى، مع تهتّك بيّن للقيم ومنها قيم المواطنة والمصلحة العامة والوطنيّة والتكافل الاجتماعي المدعوّة أحياناً بالنخوة (عادت الأخيرة للبروز والفعل المتقطّعين أيّام الحراك).
وليس من المستغرب أنّ أجزاء كبيرة من حلب وأماكن أخرى كثيرة لم تنضم للحراك وأن ما حسب منها تالياً في خانة الثورة إحتلّ من ميليشيات قدمت من ريف المدينة: النظام السوري لديه جذور وروابط اجتماعيّة، سواء أحببنا هذه الحقيقة أم لا، وكانت لديه مثل هذه الروابط في 1979-1981، ولا يزال يمتلكها بعد أن توسع بعضها وضمر البعض الآخر. وثمّة أجزاء من الرّيف على حدود الصحراء، وخاصة في الشرق، كانت مناطق ذات أهمية للتجنيد العسكري بين الشوايا. إن وزير الدفاع السوري الحالي فهد الفريج مثال على هذه الوضعيّة وهو من أرياف بادية حماة. إنّ الكثير من هؤلاء قد حول وجهة تحالفه إلى جهة داعش- الأمر الّذي يمكن مقارنته بمرونة تشكيل التحالفات بين القبائل في غرب العراق، في أعقاب النّزوع إلى تشكيل الجيوش الخاصّة الّتي دعيت بالصحوة. في هذه انكسار الرابط الوطني لصالح الرابط الأهلي. وإنّ استخدام الحشد الشعبي في العراق على ما هو معروف عنه من الدمويّة الطائفيّة لا بدّ وأنها ستدفع بالكثيرين من ضحاياه السنة إلى التعاطف مع داعش والانضمام إليها.
وقد حصل في المستويات العليا من المجتمع السوري، وبين الإنتجلنسيا كذلك، الكثير من التزاوج بين العناصر السنّيّة المدينيّة وبين العلويين. يحقّ لنا هنا أن نتحدث عن تحالف مالي وتجاري بين الثروات الجديدة والثروات الأقدم، وعن المصاهرة. وبالطبع، إنّ النظام السوري ليس نظاماً علوياً، على الرّغم من أنّ العلويين يشكلون مادته البشريّة المركزية في العديد من أجهزة أمن الدولة والقوات المسلحة. وعندما نتحدث عن العلويين فإنّ المقصود ليس العلويين على نحو مجرّد، بل أفراد منتمين إلى أفخاذ وقرى معيّنة - وبالمقابل فإنّ علي مملوك رئيس أمن الدولة سنيّ دمشقي، وكذلك رستم غزالي كان سنّيًا من حوران. ولكن الثلاث سنوات الأخيرة قد شهدت صعوداً مذهلاً في التعبئة الطائفيّة من جانب النظام (و تعبئة طائفية سنّية مقابلة ومماثلة في استشراسها)، عند العلويين، وعلى نحو أوسع عند الشيعة على العموم مع وفود الميليشيات الطائفية العراقيّة واللبنانيّة والأوزبكيّة إلى سورية: حزب الله وكتائب أبي الفضل العبّاس وعصائب أهل الحقّ وحزب الله السوري، إضافة إلى زعران الساحل السوري والحرس الثوري الايراني الّذي أخذ مؤخّراً على رشقنا بفارسيته. إنّه ليس نظاماً علوياً، بل استبداد تقوده عائلة أمن وبزنس علوية تستخدم وسائل مباشرة قائمة على عصبيات القرابة والقرية والطائفة الفرعيّة داخل الجماعات العلويّة للدعم والتعبئة. ولكنّها بالتأكيد لا تمثل العلويين بالمعنى السوسيولوجي ولا تفيد العلويين كجماعة إلّا في الخطاب السجالي. إنّ الجماعة الّتي تستفيد من المصالح أو المنفعة الموضوعيّة هي دائرة ضيقة جدًّا، وليست كلّها علوية، فاعلة داخل كتلة إجتماعية أوسع بكثير. تنطبق نفس الاعتبارات على ما يقال من أنّ نظام صدام حسين كان نظاماً سنيًّا.
ولكن ذلك يجب ألاّ يؤدي بنا إلى إهمال وقائع أنتجتها الحرب وخصوصاً دور الحرس الثوري الإيراني وأجهزته فيما يدّعي بفخر أنّه نشر للثورة الاسلاميّة على حدود إسرائيل: ثمّة ما يشي بتغيير متعمد للخارطة الديموغرافية في سورية: ما بقي في حمص إلاّ عدد قليل من سكانه، ونرى أن حزب الله يعمل على ألاّ يعود أهل القلمون إلى قراهم بعد تدمير الأراضي الزراعيّة وقطع 10.000 شجرة مثمرة فيه. لعل الإيرانيين راغبون في استكمال ما بدأه حافظ الأسد عندما التمس موسى الصدر لاعتبار العلويين شيعة اثنا عشرية، وتعميم ذلك على قطاعات أوسع من الشعب السوري باسم تصدير الثورة الإسلامية، وربّما رغبوا أن يشهدوا يوماً مّا زوجة الرئيس الأسد مرتدية التشادور.