لعقود خلت، سيطرت منظومة أيديولوجية أمنية على السلطات العربية ومعها بعض التنظيمات السياسية قوامها اتهام كل معارض بالتآمر ثم بالعمالة للعدو الصهيوني أو للأمبريالية. تعلقت هذه المنظومة على مشجب القضايا الوطنية والقومية التي ادعت الأنظمة أنها توليها الأولوية والأهمية القصوى على حساب قضايا “مبتذلة” في رأيها مثل الديمقراطية والحريات السياسية والفكرية والإعلامية.. احتل شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” المركز الأول الذي تتحدد بموجبه السياسات الرسمية على مختلف المستويات، أعطت النخب القومية وحلفاؤها كل المشروعية لهذه السياسات المظللة بالتصدي للعدو القومي والصهيوني. لم تجر محاسبة أحد عن الهزائم التي تكبدتها هذه الأنظمة في صراعاتها القومية ضد اسرائيل والأمبريالية، بل ما يدعو إلى السخرية أن هذه الهزائم تحولت إلى انتصارات على يد الأنظمة ونخبها.
ما أشبه المرحلة الراهنة من انفجار المجتمعات العربية بسابقتها لجهة انبعاث منظومة أيديولوجية – أمنية جديدة عنوانها وصم كل معارض للنظام بالتكفير وبالتالي بالإرهاب. سيقف المواطن العربي مذهولاً بالتأكيد أمام التوصيفات المتبادلة لتنظيمات تكفيرية حقاً ولأنظمة أشد تكفيرًا وإرهاباً من شقيقاتها. سيكون مستحيلاً على أي كان اليوم تعيين من هو التكفيري الإرهابي من هنا وهناك. فالبازار التكفيري يضم بين جدرانه ما لا حد له من القوى الإتهامية لبعضها البعض، على مستوى الأنظمة والتنظيمات الأصولية، سواء انتمت إلى المذهب السني أم إلى المذهب الشيعي.
في الأزمات المندلعة في العالم العربي اليوم، وكما كان من قبل إلى حد ما، ليس هناك من حدود فاصلة كبيرة بين الداخل وبين الخارج. لقد بات الخارج داخلاً بكل معنى الكلمة، يتدخل في الصراعات، سلماً وحرباً، ويفرض التسويات ويغير الأنظمة ويستبيح الأراضي ويسرق الثروات ويوظف أبناء الداخل في تأمين مصالحه.. الخارج – الداخل الأول هو الولايات المتحدة الأميركية التي تقود تحالفا دوليا تحت شعار محاربة الإرهاب وتنظيماته التكفيرية. لقد كانت هذه الدولة منذ أكثر من عقد راعية للإرهاب بمنظوماته المختلفة، من حربها في العراق واحتلاله وممارسة أنواع مختلفة من التحريض الطائفي والمذهبي بين مكونات الشعب العراقي، بحيث عمقت العداء بين هذه المجموعات وأوجدت أرضية مناسبة لازدهار التطرف الأصولي. ومنذ اندلاع الأزمة السورية، مارست الولايات المتحدة سياسة قائمة على جلب الإرهابيين الى سوريا، وتآمرت مع تركيا وإيران وبعض دول الخليج العربي لتشجيع الإرهابيين المجيء إلى سوريا والقتال فيها. كمن وراء هذا المسلك موقف سياسي يفترض أن إدخال الإرهابيين إلى سوريا سيبعدهم عن الغرب، وسيؤدي إلى تصفية بعضهم بعضا. تزامن هذا المسلك “الإرهابي” الأميركي مع دعم لنظام بشار الأسد ومنع سقوطه بيد المعارضة.
الخارج الداخل – الثاني هو إسرائيل التي دخلت بازار محاربة التكفير والإرهاب واتهام العرب والمسلمين بالجملة بهذه الصفة. كانت إسرائيل ولا تزال الدولة الإرهابية الأولى والمطلقة في الشرق الأوسط، قامت على الإرهاب ووطدت سلطتها استنادًا اليه، ومارست أبشع أنواعه على الشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية. في أساس أيديولجيتها تسعير الصراع الطائفي والمذهبي في المنطقة، بما يضع أقطارها في حروب أهلية متواصلة، وهو أمر يتحقق اليوم في أكثر من مكان. ليس أسخف من الادعاء الأميركي في محاربة الإرهاب سوى الادعاءات الإسرائيلية في هذا المجال. تاريخ هذه الدولة هو تاريخ مجازر واضطهاد واغتصاب، بكل ما يعنيه ذلك من تكوّن ردات فعل اتخذت بعض الأحيان منحى عنفياً وحتى إرهابياً في مواجهة اسرائيل.
الخارج – الداخل الثالث هو إيران، التي تكاد تصبح جزءًا من النسيج العربي ومقوماً مهماً من مقومات بناه الاجتماعية والسياسية. تدعي إيران اليوم أنها باتت تتحكم بعواصم عربية أربع هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، إضافة إلى موقع أساسي في البحرين. منذ أن قامت الثورة الإيرانية عام 1979، كان مسلكها إرهابيا بكل معنى الكلمة في علاقة الملالي بالشعوب الإيرانية، وفي الأطماع الإقليمية لإيران في العالم العربي. لعل إيران أكثر الدول تكفيرية في مسلكها وعلاقاتها مع الشعوب العربية التي باتت تتدخل في شؤونها. يحتل التكفير ومعه الإرهاب قلب المنظومة الإيرانية على الصعد الدينية والسياسية. قدمت إيران نفسها على أنها الدولة التي ستعيد للشيعة حقهم التاريخي في استعادة السلطة التي اغتصبها “النواصب” أي السنة قبل أربعة عشر قرناً، ونصبّت ولي الفقيه الإيراني ولياً على أمور المسلمين جميعا وأينما وجدوا في العالم.
من أجل تحقيق هذا الهدف كان لا بد من تسعير النزاع المذهبي التاريخي وإحياء النار الكامنة تحت هذا الصراع. وظفت الدين والمذهب في مد نفوذها الخارجي، واستفادت من المقومات الاجتماعية والدينية في كل بلد ومن الانقسامات المذهبية داخله. حقق لها الأميركيون موقعا لم تكن لتحلم به في العراق عبر احتلاهم له وإسقاط نظام البعث، فأججت الصراعات الطائفية والمذهبية فيه تحت عنوان الإنتقام للشيعة من السنة، وساهمت مساهمة مباشرة في تقسيم العراق. كما ساهمت أيضا في تأجيج الإرهاب في سوريا عبر دعمها دخول المجموعات الأصولية اليها. كان خطاب إيران على امتداد السنوات الماضية صريحاً في نزع صفة الدين والإيمان عن المجموعات التي لا تنتمي اليها، وكانت بذلك الراعية الأساسية للإرهاب والتكفير، كما لم تكن ممارسة مجموعاتها أقل “داعشية” من ممارسة سائر التنظيمات الإرهابية الأصولية.
يبدو المشهد في الجانب العربي أكثر فداحة وفجاجة. يدعي النظام السوري انه يخوض حربه ضد التنظيمات التكفيرية الإرهابية. في الأصل، هذا النظام بكل مفاصله إرهابي بامتياز منذ ان استلم السلطة. استجلب الى الأرض السورية تنظيمات “داعش” و“النصرة” وغيرها، ووظفها في ضرب المعارضة السورية، وحوّل الحراك السلمي إلى حرب أهلية حقيقية أودت بسوريا بشرًا وحجرًا. وكما كان يتهم خصومه بأنهم عملاء لإسرائيل ومتعاونون معها، ها هو يعيد النغمة ذاتها متهماً المعارضة بالتحالف مع اسرائيل، فيما أمضى هذا النظام عمره كله وهو يجند جيشه حرس حدود لإسرائيل.
على المنوال نفسه، يدعي النظام العراقي بأنه يحارب التكفيريين، وهم في نظره المجموعات السنية في العراق من دون أن يتوقف لحظة أمام مسؤوليته في انفجار هذا المناخ التكفيري. من المدهش أن نوري المالكي رئيس الوزراء السابق قد وجه نداء إلى العراقيين وإلى الأمة الإسلامية يدعوها إلى الوحدة ضد الفكر التكفيري، في وقت كانت سياسته تقوم على تكفير المجموعات العراقية، وكان يؤكد دائماً على أن الحرب مع الطائفة السنية متواصلة منذ أربعة عشر قرناً ويجب ان تستمر لتصفية ذيول تلك الفترة. أليس هذا المسلك تكفيرياً وإرهابياً بامتياز؟ وما يزيد من المعضلة تلك السياسة العراقية المتواصلة في التطهير العرقي داخل العراق عبر وسائل القتل والتدمير وصولاً إلى تهجير السكان الأصليين.
في اليمن، نجحت إيران في خلق قاعدة من قبائل الحوثيين، عبر المال والسلاح، بحيث باتت قوة أساسية داخل اليمن يجري توظيفها اليوم في تسعير الصراع الطائفي والمذهبي داخل بلد منقسم عل نفسه. يستخدم الحوثيون الخطاب المذهبي الإيراني، ويقدمون يرنامجهم على أنه لمحاربة التكفيريين في اليمن. تقف اليمن على شفير حرب أهلية ذات طابع مذهبي لا أحد يمكنه التنبؤ بالمصير الذي سترسو عليه. أما في لبنان، فقد انتقل حزب الله من موقع المقاوم لإسرائيل إلى موقع المدافع عن النظام السوري، مشاركاً في الإرهاب المسلط على أبناء الوطن. ذهب الحزب الى سوريا تحت عناوين طائفية مذهبية لحماية الرموز الشيعية، مما يعني أنه حدد موقعه ضد فئات مذهبية يخاصمها في العقيدة. وأشاع خطاباً أنه يقاتل المجموعات التكفيرية في وقت يشارك بمجازر تطال المواطنين السوريين. وها هو يعطي لمعركته أبعادًا تصل به إلى أنه يقاتل إسرائيل من خلال تصديه للتكفيريين المتحالفين مع العدو، أي عدنا الى خطاب المؤامرة والعمالة الذي شبعت منه الشعوب العربية على يد أنظمتها ومؤدلجيها.
لا تخفي تنظيمات الإسلام السياسي ذات الطابع المذهبي السني، من الإخوان المسلمين الى “داعش” و“النصرة” وسائر التنظيمات، أنها في فكرها وعقيدتها وممارستها هي تنظيمات تقول بتكفير من لا ينتسب إلى مذهبها، وتمارس عليه الإرهاب والعنف. خطابها صريح ولا يحتاج إلى تنظيرات لتبيان فحواه وأهدافه. لكن أنظمة العراق وسوريا وإيران وسائر التنظيمات التي تدور في فلكها تعتنق كلها فكرًا تكفيرياً وتمارس ممارسات إرهابية على غرار ما تقوم به “داعش” وأخواتها. مما يعني ان المجتمعات العربية تقف اليوم أمام محنة تبدو مستعصية، ليس على الفهم، بل على الحلول. ففي ظل الفوضى الكيانية المتصاعدة، وفي ظل الحروب الأهلية المندلعة بخطابات قواها وممارساتها، سيكون من الصعب تصنيف من هو إرهابي وتكفيري، فالجميع يقيمون في الموقع ذاته، وإذا كانت أساليب الممارسة تتباين أحياناً، إلا أن الكل يقيمون في خندق التكفير والإرهاب.