ب ت: لقد سبق لي أن درست الفلسفة في جامعة ستانفورد في متم 1980. في تلك الفترة، ساد نقاش حيوي حول تعريف الإنسانيات وحول الجذع المشترك للثقافة العامة التي يتوجب على كافة الطلبة امتلاكه أو تجنبه. فمن جهة، هناك من اعتبر أنه من الضروري الانكباب على الأعمال الكبرى للثقافة الغريبة، بدءا من أفلاطون إلى نيتشه. وهناك، من جهة أخرى، من كان مناصرا لتربية ذات تعدد ثقافي ومنفتحة على حضارات أخرى. وفي هذا الصدد، سبق للفيلسوف ألان بلوم أن نشر مقالا جداليا تحت عنوان “الروح منزوع السلاح” يتأسف فيه على هجران للثقافة العامة في الحرم الجامعي الأمريكي لصالح التعدد الثقافي. كما صادفت كتب ليوستراوش، أستاذ ألان بلوم، التي نافح فيها عن فكرة أن الأعمال الكلاسيكية تتيح لنا وعيا بمعرفة القضايا الدائمة لحياتنا والتي يتوجب أن تتحين باستمرار. وقتذاك، كان فكري متأثرا بالتمييز الذي رسمه ليوستراوش بين الحقيقة والاتفاق. فضلا عما علمتنا إياه محاكمة سقراط: أنه قد يحدث أحيانا أن تكون المدينة Cité ذات صلة بجماعة مغلقة، بحيث تسود فيها اتفاقات مختلفة أشد الاختلاف عن حقيقة الفلاسفة. إن هذا التمييز مازال معمولا به إجرائيا إلى حدود الآن : لنأخذ الاقتصاد مثلا، فهو يشتغل على أساطير مازال كافة الناس يعتقدون بها، لكن من يستطيع أن يكون بمنأى عن الحقيقة. وهذا ما يفسر، في عالم المال، ظاهرة فقاعات سوق المضاربات المالية.
ب م : إنه بالفعل تمييز جوهري لدى ليوستراوش أستاذك، كما هو أستاذ لي كذلك. لقد كان بالفعل أحد مناصري القضايا الفكرية الكبرى، أي القضايا التي تستند على الكل – كل العالم والإنسان أو الروح – والتي أدرجت على الهامش بدعوى أنها عصية عن الحل. وإن كان أرسطو وتوما الأكويني،في المقابل، استحسنا أن نعرف شيئا قليلا عن المسائل الكبرى عوض أن تكون لدينا أجوبة شاملة عن مسائل صغيرة. بالنسبة لنا سنقوم عكس ذلك تماما.
الحقيقة والمسلك السليم سياسيا.
ب.ت: يوجد لدينا ميل إلى الاعتقاد أن الحقائق تكون إما بديهية وإما معرفتها مستحيلة. وإما أنها قد صيغت سلفا أو أن الوصول إليها يعد ضربا من المستحيل. وإما أن “2=1+1” شيء حتى الطفل نفسه يمكن فهمه، وإما أنه من الضروري المرور من تفسير أكثر تعقيدا إلى حد أن أينشتاين نفسه سيجد صعوبة في استيعابه. لهذا السبب نحن نعيش في عالم يهيمن عليه نوع من النزعة الأصولية، “فالمسلك السليم سياسيا” معناه: أن نحتفظ فيه بتوافق اصطناعي على كافة القضايا الكبرى.غير أني أود أن أطرح هذه القضية على مخاطبي: هل بإمكانكم الحديث عن شيء تعتبرونه حقيقيا على الإطلاق، لكن بماذا، مع قلة قليلة من الأشخاص، سيكون الاتفاق؟ فالناس عموما يشعرون بألم في الإجابة. أولا لأننا تربينا على يقين أكثر ديمقراطية هو كون الحقيقة هي بالضرورة جماعية. ثانيا، لأننا لابد أن نتوفر على الشجاعة لتخاطب مخاطبك عن شيء سيكون بموجبه مضطرا إلى عدم الاتفاق معك.
ب.م: في أوروبا، المسلك السليم سياسيا ليس طريقة في التفكير، وإنما صار نمطا من أنماط الحكم! لقد فقدت الطبقة السياسية كل الثقة في قدرتها على تسيير دفة الحكم. كل هذا يحدث كما لو أن هدف السياسة، والذي هو تجميع الأطراف في بوتقة واحدة، أن تتجاوز، من الآن فصاعدا، مؤهلاتنا. زد أنه بسبب تنوع السكان والعوائد الأخلاقية، يبدو أن هذا الهدف يبقى خارج المتناول. فبما أننا عاجزون تماما عن إنتاج وحدة سياسية واقعية، فإننا ملزمون أن نتكلم كما لو أن الوحدة الإنسانية كانت قائمة هنا سلفا. إن المسلك السليم سياسيا هو اللسان الاصطناعي للناس الذين يرتعشون من فكرة عما يمكن أن يحدث لو كفوا عن الافتراء عن أنفسهم. غير أن هذا الأمر مرتبط أساسا، وأنت في ذلك على حق، بفقدان الثقة بفكرة الحقيقة. صحيح أننا قد أعددنا جداريات عظيمة عن تاريخ الإنسانية لكن تلافينا إثارة مسألة الحقيقة. فنحن نقابل، على سبيل المثال بين حقبتين كبريتين من تاريخ الإنسانية، حقبة « holiste » حيث اعتقد فيها الناس كافة بالإله، وحقبة النزوع الفرداني حيث أن جميع الناس صاروا عادة بلا اعتقاد. هكذا هو شأن الكائن الإنساني - من حيث هو دوما مستغرق برأي مهيمن على عصره - لن يجد نفسه في وضعية تتيح له حرية التساؤل عما هو حقيقي. وفي المقابل، أعتقد أنه طالما سنظل كائنات إنسانية، فإن الحقيقة ستستمر، بلا أدنى شك، في مداها وخطورتها. فلا وجود لفكرة أكثر بطلانا وإذلالا من فكرة أن التاريخ قد صمم من أجلنا.
ب.ت: هناك قضية أخرى قد تم تهميشها هي قضية المستقبل. والحال، أن فكرة المستقبل قد لعبت لفترة طويلة في الغرب دور الرافعة النقدية. لنتخيل مستقبلا سيكون أكثر اختلافا عن الحاضر، إن هذه الفكرة ستكون طريقة لفك الارتباط عن الاتفاقات التي تهيمن على الحاضر وتسد علينا منفذا نحو الحقيقة. إنها الوظيفة التي طالما حركت كبار القادة السياسيين، مثل مارتن لوثر كينغ: لقد كان مسكونا بحلم أمة خالية من أي تفرقة عرقية، صحيح أنه لم يكن حقيقة، لكنه جسد صورة مستقبل ممكن ومغاير للحاضر. لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: متى سبق لزعماء العالم الغربي، أن قدموا، لأخر مرة، صورة بديلة للمستقبل؟ إن آخر خطاب من هذا النوع الذي يمكن أن أتذكره هو خطاب رونالد ريغان عام 1987 الذي ألقاه أمام حائط برلين: باسم رؤية أخرى للمستقبل، تجاسر في تصريحه: “سيدي غورباتشوف، فلتهدموا هذا الحائط الذي يعد خطأ وظلما !”
ب.م: سأصيغ الأمور بشكل آخر. فعلى مدى العقدين الأخيرين، أصبحت العقائد المؤسسة للحضارة المعاصرة فاقدة لمصداقيتها. إن المسلمة التي يهدف العلم إلى تحسين الشرط الإنساني على نحو دائم، قد أفسحت المجال لفكرة أن التقدم التقني- العلمي يدفع بانعكاسات شاذة ومريعة: الاعتقاد في التقدم الاقتصادي قد رسخ قناعة تتمثل في كون أطفالنا سيعيشون أقل مما عشناه؛ وأن فكرة اعتبار الدين من بقايا الماضي وأن عودته مستحيلة وأن إزالة السحر عن العالم هي عملية لا رجعة فيه، هي فكرة أصبحت تصطدم أمام معاينة أن الدين قد صار مرة أخرى رهانا جوهريا. بمعنى أن مسلماتنا كانت إذن خاطئة، ومن اللازم أن نعيد هذه الأمور كلها من البداية. إلا أننا نعاني، في ظل هذا الوضع، فراغا رهيبا في الخيال. بل استعصى علينا النظر إلى إمكانيات مختلفة للحياة. كما لو أن شللا ما أصاب روحيا حياتنا. نأخذ مثلا قضية اعتناق الدين في فرنسا فهي لم تكن تطرح نفسها بحدة كقضية مركزية في السنوات الماضية. لنتفحص دبيب روح الكاتب أندري جيد! إن اعتناق الدين هو في حد ذاته ظاهرة ذات أهمية كبرى: فالشخص يشعر بتحول استعجالي لفكره ولحياته بغرض الأخذ في الحسبان الحقيقية المكتشفة. فهذه الفكرة أضحت غير مفهومة بالنسبة لنا، لأننا لا نعتقد أن الحقيقة لديها حقوق علينا، وبالتالي، ينبغي على كل تربية حقيقية، حتى الأكثر “علمانية” أن تنطوي، بالرغم من ذلك، على تحول ما. فنحن نولي أهمية كبرى للتربية ونجعل أطفالنا يمكثون لمدة أطول في المدرسة مع جهلنا تماما شكل التربية التي ينبغي أن نمنحه لنفوسهم. هكذا نترك أعز مورد لدينا يصاب بالضعف، ضعف قدرة النفس على التغيير والاكتمال بواسطة فكرة ما.
الرأسمالية والاختراع:
ب.ت: ما تقوله مثير للاهتمام! يبدو لي أني سأفاجئك من موقعي كمقاول، فأنا أميل إلى الاعتقاد أن هذه المعضلة بوصلها بفكرة قوية هي حصيلة تأثير ثقافي للعولمة. سأشرح ذلك. فبوضع كل شي في نفس المستوى، نجد أن العولمة تزرع فينا إحساسا مثبطا للعزيمة، وهو أن كل ما يجول في ذهننا، قد سبق إليه من قبلك أناس آخرون. هب أنك كنت حاد الذكاء، فلابد أنك واجد في بقعة من بقع العالم من هو أذكى منك، وقد ابتكر حلا لما كان مثار اهتماماتك. بل حتى وإن كان الأمر متعلقا بمشكلة تقنية بسيطة. أما إن كان مسعاك أن تصنع فكرة جديدة، ستشعر في قرارة نفسك أنك لست وحدك بل في تنافس شرس مع العالم قاطبة.
ب.م: أليست المنافسة بالذات خميرة الرأسمالية؟
ب.ت: إن الرد على سؤالك هذا يمكن أن يجلب مشكلات لدي! إلا أني مع ذلك سأكون حريصا في أجوبتي. إذا كان غالبية الناس يعتبرون أن الرأسمالية والمنافسة تسيران في منحى واحد، فإني أراهما، في الحقيقة، تقريبا متنافرين. من هو الرأسمالي؟ إنه الشخص الذي ينجح في مراكمة الرأسمال. لكن ما يقع هو العكس، في عالم تنافسي شرس، تكون أرباح كل متنافس هزيلة وتراكم الرأسمال بطيئا بل مستحيلا. لنضرب مثالا على ذلك، في باريس يمكن أن نقول إن قطاع التموين هو بالضرورة قطاع تنافسي، إلا أنه مجال غير رأسمالي: إن الممونين، خصوصا قطاع التموين Standing ، يستدينون و يشتغلون بكثرة لكن مدخراتهم من المال هزيلة.
ب.م: إن بنيتي الشابة التي تشتغل في مجال التموين،ستكون على اتفاق معك تماما.
ب.ت: ومن زاوية مخالفة، أقول بالنسبة لشركة ما أشبه بشركة غوغل تعتبر رمز النموذج الرأسمالي: فهي تولد رأسمالا ضخما لخلوها من منافس واقعي لها منذ أن تجاوزت منافسيها الأساسيين على موقع “محرك البحث”. إنها إحدى الحقائق غير السليمة سياسيا للرأسمالية: الشركات الأكثر ازدهارا تمتلك دوما بعدا احتكاريا، ولا أحد يريد ولا حتى بإمكانه إلاعتراف بذلك. مدراء غوغل عاجزين عن التصريح بذلك رسميا: “نحن مازال لدينا احتكار أكبر مما لدى ميكروسوفت في سنوات 1990”، وبالتالي، فهم يفضلون تقديم الأشياء على هذا النحو: “نحن شركة للتكنولوجيا تتنافس بشراسة مع الآبل Apple حول Android ومع فايسبوك face book حول الشبكات الاجتماعية، ومع الأمازون Amazon حول التجارة”. فالناس الذين لديهم قطب احتكاري يتظاهرون دوما بأنهم ليسوا كذلك. والحال أن العكس هو الصحيح، حينما يتم الإعلان عن مشروع في وسط تنافسي شرس، فإنه ينبغي منك أن تعرض نفسك على المستثمرين كما لو أنك بلا منافس حتى يقبلوا على المراهنة عليك. لكن مع ذلك فإن إمكانية الحصول على الاحتكارات تعتبر أحد الحوافز لاختراع احتكارات أقوى من ذي قبل. هكذا، يتيح الابتكار إعادة النظر في الاحتكارات العتيقة من خلال بناء احتكارات أخرى جديدة.
ب.م: إن الاختراع، أكثر بكثير من العولمة، هو الذي سيكون إذن، بحسب رأيك، المحرك الحقيقي لاقتصاد اليوم؟
ب.ت: في الغالب، نعتبر أن منطق العولمة وروح التكنولوجيا يتشابهان. أعتقد أنهما شيئان مختلفان أيما اختلاف. منطق العولمة يشمل على نسخ الأشياء الموجودة سلفا على مستوى عالمي، بينما روح التكنولوجيا يكمن أساسا في اختراع أشياء جديدة. وهذا يستدعي ديناميتان متعارضتان. العولمة تمتثل لمعدل النمو العمودي الذي يسير من 1 إلى n : فأنت تتوفر على حاسوب وتنتج مائة عينة ثم مائة مليون...الخ. وتعد الصين النموذج المجسد لهذه الظاهرة. مستقبلها إذن هو متوقع ومقلق في آن معا: فهي تحاول grosso modo الالتحاق بركب الغرب. لكن على هامش هذه الظاهرة، توجد لديك تكنولوجيا تدعن لدينامكية الاختراع. فهي تفترض مسبقا أن نكون قادرين على إعادة النظر في أشكال الهابيتوس Habitus والتوافق. ذلك أن تزايد النمو يتخذ له طابعا عموديا لا أفقيا. فهو ينطلق من 0 إلى 1، من آلة كاتبة إلى معالجة النص.
ب.م: إن فكرة كون العولمة تقود إلى تكرار ذاتها، لا تخص فقط المنتجات الصناعية، بل تعم أيضا العادات الأخلاقية: نحن نرى ظهور طبقة وسطى في كل بقاع العالم في الصين ومصر وروسيا، ترغب في التشبه بالطبقة الوسطى الأمريكية، لكن مع ذلك هناك حدود لهذا النوع من التجانس.لأن الشعوب عاجزة على تلبية إشباعاتها بتكرار لا متناه لذاتها. فمن خلال تشابه وسائل الحضارة، يتأكد أن مطالب الأمم والأديان في تزايد. إنه السبب الذي جعلني أعتقد أن العولمة لا تعير له اهتماما. فمن المستحيل أن نعيش بلا شيء جديد، لكن خلافا لرأيك، أعتقد أن ما هو جديد في التاريخ لا يتأتى أساسا من التكنولوجيا، بل من الجمعيات التي بإمكان الناس إنشاءها، سواء أكانت جمعيات دينية أو هيئات سياسية جديدة، لأن الأمر يتعلق أساسا بأشكال جديدة للحياة، فكما ازدادت أشكال تقدم العولمة، أصاب بالذهول جراء هذا التشظي: أمم قديمة منبعثة أم أمم جديدة؛ أديان عتيقة منبعثة، أديان جديدة أم نحل دينية جديدة.
النزعة التحررية والخروج من السياسة:
ب.ت: أنا جد مرتاب من فكرة أن تكوين هيئات سياسية جديدة هو المخرج لمشكلات العولمة. أولا، لاعتقادي باستحالة الانفلات من العولمة. ثانيا، لأن السياسة لا تبدو لي كمخرج لها. لقد كنت متأثرا جدا برواية “أرخبيل غولاغ” لألكسندر سولجنتساين – كتاب أدبي رائع عن التوتاليتارية– بل أيضا ب“ملك الخواتم” لتولكن، أعمال أدبية من طبيعة مختلفة، لكنها تكشف، كل رواية بأسلوبها الخاص، كم أن السلطة السياسية غارقة في الفساد. فأنا أنتمي إلى تراث تحرري الذي يعتبر أن الدولة تنزع إلى أن تكون قوية. مثلا في الولايات المتحدة الأمريكية أضحت الدولة تتناقص فعاليتها مع أن وجودها صار أكثر أهمية. لنأخذ مشروع مانهاتن الذي سمح ببناء القنبلة النووية في غضون ثلاث سنوات ونصف: اليوم أصبحت الدولة الأمريكية أكثر ثقلا إلى درجة أنها ستكون عاجزة على تحقيقها. نفس الشيء بالنسبة للغزو الفضائي. نحن نرى تناقصا في قدرة الدول على تحقيق أشياء عظيمة. لكن لا يخطر ببالنا من يستطيع أن يعوضها. إن ما يثير اهتمامي في النزعة التحررية، هي هذه الفكرة التي تمكننا من الانفلات من قبضة السياسة.
ب.م: في هذه الفكرة، أنا على خلاف تام معك. فأي منظور لعالم بلا سياسة هو مجرد حلم. نحن في أمس الحاجة إلى الانتظام في هيئات سياسية.فما يشغلني ليس الانفلات من السياسية بل أن نسعى إلى العودة إليها، هذا في الوقت الذي تميل فيه أوروبا إلى الانسحاب منها. فمما لاريب فيه، أن دول الرعاية الأوروبية قد وصلت إلى حدود معينة، لكن دون اختزال السياسة في دولة الرعاية. ذلك أن الدولة تعني، في الوقت نفسه، الإدارة العمومية والسلطة السياسية. فما يؤثر على أوروبا ليس ثقل الإدارات العمومية بقدر ما متعلق بالعجز عن اتخاذ قرارات سياسية.
ب.ت: وفي إطار مواجهة الأزمة السياسة، هناك سبيلان محتملان. فبإمكانك أن تؤكد أنه من اللازم على الناس إدلاء بأصواتهم بكثرة، وأن تصيخ الحكومة المنتخبة السمع أكثر للمنتخبين الوطنيين أكثر منه للمنتخبين في أوربا، فالأغلبية الوطنية تبدل مزيدا من الجهد في الاستماع إلى البيروقراطيين في بروكسيل؛ أو يمكنك إذن الدفاع عن فكرة وجوب السماح للناس ب“الخروج”. إذا كان تقدير الناس أن الرسوم الضريبية قد أثقلت حياتهم في فرنسا، فبإمكانهم الذهاب إلى انكلترا،لأن ألمانيا لا توفر لهم هذه الإمكانية، أما اليوم، فلا أبخس من قيمة الخروج.
ب.م: لقد أغفلت الإمكانية الثالثة التي أثارها الباحث السوسيو- اقتصادي ألبير هيرشمان في مؤلفه “الخروج، الصوت، الإخلاص”Voice and loyauté،Exit، الذي اتخذته ضمنيا مرجعا لأفكارك: الإخلاص. والحال أن الولايات المتحدة هو البلد الذي يرمز إلى إخلاص مواطنيه تجاه العلم الوطني والبرلمان. ألا تعتقد أن هذا التأثير السياسي هو مكون جوهري لعظمة أمريكا؟
ب.ت: إنه من الصعب علي أن أجيب عن سؤالك، فأن أسجل خلافي معك معناه أنك تلمح بأني ضد النزعة الوطنية. ومع ذلك، أخبرك أن المرء يعيش في لحظة من لحظات حياته جرعة ارتياب ما والتي تعد حالة صحية بالنسبة للإنسان.
ب.م: نعم، بكل تأكيد. لكن يشعر المرء أن“الخروج” من الوطن ليس حلا حقيقيا. أولا، تحط من قيمة أهمية تربية المواطنين: فالبلد هو، قبل كل شيء، جماعة تربوية. فنحن لا نبدلهم كما لو أننا نبدل إطارات نظاراتنا، ثانيا أن نهجر الجسم السياسي ليست عملية سهلة: ولكي يكون هذا المنفى قابلا للحياة، لابد أن توفر لك الدول المستقبلة حماية كافية،حماية تستطيع الإدارة،الشرطة والجيش.. لوحدها أن تؤمنها لك..
ب.ت: لكن، لسنا في حاجة إلى الذهاب نحو الطبيعة المتوحشة فأنت تعلم...
ب.م: في “Far west”،بإمكانك أن تستدعي الخيالة العسكرية لصد هجوم الهنود الحمر! فمن حيث أنك إنسان تحرري، قد تبخس من أهمية الدولة الأمريكية التي تضمن لك شروط الحرية.
ب.ت: أنت تسيء هنا التقدير للشر الذي تسببه الدولة. إنه “لمن العذوبة والافتخار أن تموت من أجل الوطن” كما جاء في قول هوراس. فهل الموت علامة عن إخلاص عظيم أم أكذوبة كبيرة؟
ب.م: لكن هناك أيضا فظاعات تصدر من أناس بلا حاكم. فعندما ينعدم شخص ما يحثهم على سلوك مسلك الاحترام، فإنهم سيقترفون لا محالاة أفعالا فظيعة. فلي اليقين أن الدولة هي منبع الشرور الكبرى حينما لا يكون حكمها حكما سليما وبلا مراقبة محكمة. لكن يمكن للبشر أن يصيروا مخلوقات رهيبة في غياب الحماية وتربية الجسم السياسي. سأعمل على مقاومة كل محاولة لمركزة الشر في الدولة. وهذا يمثل جزءا من الاختلافات الكبرى بين الأوروبيين والأمريكيين: أمريكا أشركت في محور الشر، بينما أشركت أوروبا في محور الحماية.
ب.ت: إذا اختفت الدولة، فبالإمكان أن تصير النزعة الكانيبالية مرة أخرى متماشية مع موضة العصر. صحيح أني غير متأكد من ذلك، إلا أن الاحتمال وارد. ومع ذلك، فمن أجل منع النزوع الكانيبالي يكفي فقط دولة صغيرة. أنا أقر أن أجهزة الدولة جميعها غير شريرة، غير أن الخطر يستفحل، عندما نتوفر على دولة عملاقة. في فرنسا مثلا، إذا ما خفضت الدولة من 55 في المائة من PIB إلى 15 في المائة، كما هو الشأن في سنغافورة، سيكون سلفا تقدما عظيما، فأن تمر من 15 في المائة إلى 0 في المائة، كما هو الشأن في الصومال، يعد خطأ. إنها قضية تتعلق أساسا بالدرجة !
ب.م: اعتقادك هذا،لا ينبغي أن يذهب بك إلى أني أسعى إلى إحداث تعارض بين أوروبيين أذكياء، مهمومين، متضامنين بشكل جماعي وأمريكيين أشرار، فردانيين، قلوبهم غلاظ. بل أحاول فقط تحديد مفهومين متمايزين. أما فيما يتعلق بالحماية الاجتماعية فهي أكثر جلاء في أوروبا، فالأمر يبدو عاديا أن تتكفل الدولة برعاية أي مواطن في حالة مرض، في حين نجد نسبة عريضة من الأمريكيين، لا تعتبر الصحة كخير مشترك والذي من المفروض أن يكون موزعا بالتساوي.
ب.ت: في أوروبا، دأب اعتقاد الناس أن كل شيء في أمريكا قائم على التنافس، كما كان في سابق عهد رعاة البقر والهنود الحمر. لكن رعاة البقر لم يعد لهم أثر بالمرة منذ 1880. وأن نظام التأمين الاجتماعي يكاد يكون أيضا مهلهلا منه في أوروبا. يبقى فقط نقصان الكفاءة بدرجة كبيرة.
العنوان الأصلي للحوار: Et si la vérité était scandaleuse ?
المصدر: La philosophie.Magazine ;Octobre 2014.Mensuel,N 83.Paris