الاعتقاد في التقدم و تقهقر معدلات الموت:
ب.م: يعتبر التقدم نقطة خلافية أخرى بين حضاراتنا، الأوروبيون لا يعتقدون بتاتا أن العلم والتكنولوجيا سيتيحان لهم تشييد عالم أفضل، بينما هذا الاعتقاد مازال سائدا في حياة الأمريكيين بشكل كبير.
ب.ت: ليس الأمر بهذه البداهة! أنظر إلى أفلام الخيال العلمي التي أنتجتها سينما هوليود طيلة عقدين ونصف،ستجد أنها جميعها تعرض التكنولوجيا كتهديد لحياة الإنسان، مثلا نجد في فيلم Terminator روبوات تروم الفتك بحياتنا، وفي فيلم Matrix يحيل إلى أن المنظور الافتراضي هو الذي سيبتلعنا، بينما سيسوق الغزو الفضائي بنا، كما عرض في فيلم Gravity،إلى التيه، وستؤول الأرض الملاذ الوحيد للإنسان. إن هذا السبب هو الذي يدفعنا إلى أن نتسلح فلسفيا مرة أخرى عوض أن نكتفي فقط بالمجال المالي والتكنولوجي.
ب.م: من زاوية فلسفية، تعترض التكنولوجيا حدودا معينة! وتصادف كذلك مسألة التمييز بين الوسائل والغايات وتعدد الأدوات، وتتيح ربح الوقت، لكنها تعجز عن الإشارة إلى أين ينبغي أن نسير.
ب.ت: في ما يبدو لي، على الأقل، أن المشروع الحديث يحمل رؤية جلية لغائية تقدم العقل. لنعد إلى فلاسفة أمثال توماس هوبس أو فرنسيس بيكون الذي طرح طوباوية علمية سعيدة، من قبيل“أنطلنتا الجديدة”. إنهم يعبرون عن تفاؤل لا يصدق وعن إيمان راسخ بالتقدم والذي بمقتضاه يتحرر الإنسان من طوق التبعات المادية ولاسيما الأمراض. ومن باب المقارنة، فإن حالتنا العقلية الحالية تحيل بالأحرى إلى ما يمكن تسميته بـ “مذهب السعادة الأبيقورية”:يسود اعتقاد أن كل شيء يسير نحو الهاوية ونود أن تقتصر حياتنا فقط على الرغبة في الأكل والشراب والابتهاج قبل دنوّ أفول العالم. منذ قرنين، كان من الحكمة أن يثار التساؤل عن الإفراط في الأحلام الطوباوية والذي يلعن العلم مطامعها. أما اليوم، فلم نعد تحت هيمنة طوباوية هوبس وبيكون العلمية، بل صرنا أمام قبضة أبيقور ولوكريس. وعليه، أعتقد أنه من الأفضل تصويب الصراع ضد النزعة الانحطاطية أكثر منه إلى النزعة العلموية. ذاك هو السبب الذي دفعني إلى الاهتمام بالمشاريع التكنولوجية والبيو-طبية الحالية، والتي تدور حول مسألة تمديد مدة الحياة، فكرة تم نسيانها،في قلب مشروع العلم الحديث في القرن السابع عشر. بل كانت تلك الفكرة الغاية الأولى التي حركت مجرى العلم، أي الغاية التي منحت معنى للبحث المعرفي. لقد كانت أكثر أهمية كذلك من علم الكيمياء. فأن تعيش حياة أبدية، أفضل بكثير من تحويل الرصاص إلى ذهب.
ب.م: بالتأكيد، فالبنسبة لديكارت،على غرار بيكون،كان يعتبر الصحة الميدان الأساس الذي ينبغي على الفلسفة الجديدة أن تظهر فيه تفوقها. وبالفعل إن تمديد مدة الحياة زهاء قرنين من الزمن يشهد لصالح هذه الفلسفة.
ب.ت: في سنة 1848، كان متوسط معدل مدة الحياة 46 سنة في العالم المتقدم. فهو يصل الآن إلى حوالي ثمانين سنة. بل إنه ما ينفك في تزايد مستمر في حدود سنتين ونصف من كل عشرية. كل يوم يمر من عمرك، فإن الأمل في الحياة ينمو كل ست ساعات.
ب.م: سأكون أقل حماسا مما لديك في مدى تأثيرات هذا التقدم.
ب.ت: ماذا تعني بهذا الكلام؟
ب.م: لننظر إلى نتائج تمديد مدة الحياة. هل يمكن اعتبار الحياة المديدة الموسومة بالنقص وحرمان وعي تقدما؟ نلمس هنا مسألة الحدود: هل هناك حدود طبيعية عما يمكن فعله؟ الإنسان طفل، يكبر، يتفتق، يشيخ ويموت. أنا أقبل الخلفية الطبيعية لهذه المعطيات. فحتى وإن سعينا إلى الدفع دائما بهذه الحدود إلى أقصى حد، سنصل إلى نقطة نكف فيها عن تحسين الحياة. لأن البعض من الناس سيعلن، في وقت من الأوقات، على مساعدتهم ب“أن يموتوا بكرامة”. إنهما كيفيتان متعارضتان لرفض حدودنا. بكلام تلقائي: لا لتمديد اصطناعي ولا للموت الرحيم. نعم للموت الطبيعي.
ب.ت: تقول إن الموت هو أمر طبيعي. بكل تأكيد، لكن سأضيف أن المقاومة ضد الموت هي أمر طبيعي تماما.
ب.م: إن عدم الرغبة في الموت هو بالفعل أمر طبيعي.
ب.ت: هكذا، تتخذ حجة الطبيعة اتجاهين. فمن الممكن أن توجد حدودا طبيعية ، لكن من المستحيل تحديدها على نحو قبلي، فأنا كذلك لست متفائلا مثل بعض(les transhumanistes) من ينتظرون حياة أبدية. بيد أنني أعتقد أن بعض مجايلي، سيعيشون إلى حدود 140 أو 150 سنة.
- أثينا والقدس:
ب.م: قرأت أنك تؤكد، مع les transhumamistes، أن“الوقت قد حان من أجل موت أن نموت”، وأننا نتجه إلى حل هذه المشكلة، وهذا الأمر، يبدو لي مخالفا لتعاليم الفلاسفة الكلاسيكيين أمثال أرسطو وأفلاطون والذين تستند إليهما من جهة أخرى!
ب.ت: اعتقد أن هناك تقليديْن متباينيْن في الغرب. فمن جهة، هناك تصور أفلاطون وأرسطو والذي يقوم على وجود طبيعة إنسانية، بحيث تكون الأساس التي على ضوئها يتوجب أن نتصور الحياة الجميلة، ومن جهة أخرى، هناك تقليد مسيحي الذي يعتبر أن الناس ليس لهم إعداد لكي يموتوا. فالموت تنتمي لعالم سفلي،لكن بمستطاعنا أن ننتظر إلى حين استرجاعها. إنها وجهة نظر لاهوتية، لكنها ستكون بالطبع على غير اتفاق مع المنظور الفلسفي.
ب.م: نعم، لكن بالنسبة للتراث المتحدر من القدس، فإن المنفذ للخلود - الحياة الأبدية - ليس في متناول قدرة الإنسان. إن فكرة السقوط حكمت على الإنسان بالموت. الله وحده من له القدرة على استعادتها له. بالمناسبة، يبدو لي أن الموت، كما في العهد القديم، يتم تصويره أيضا كشيء “نهائي”: الله وحده من يجازي ويعاقب في هذه الحياة. ففي الديانة المسيحية تتأتى “الحياة الأبدية” في المقام الأول.
ب.ت: إن المسألة في مجملها، تتعلق بمعرفة ما إذا كانت الجنة تتأتى بواسطة الفعل الواحد للإله أم أن الأمر يتعلق ما إذا كان الإله قد تصرف عبر الإنسان. هناك رؤية قيامية (نسبة إلى القيامة) تعتبر الجنة جزاء من إله واحد، وهناك أيضا،في المقابل، رؤية أكثر تقدمية قد تحققت تدريجيا بواسطتنا نحن، هنا في هذه الدنيا. هنا يوجد مجال لفكرة أننا نسهم في عملية إيسكاتولوجية.
ب.م: فيما عدا الديانة المسيحية، فالموت ليس حدثا عارضا يمكن أن نتجاوزه، بل هو لحظة في مصير الكائن الإنساني يتوقف فيها ويقضى فيها كل شيء في آن معا. فمن الأفضل ألا ينعدم أي أمل علمي، فهذا المنظور يضفي معنى حرا على حياتنا.