عندما لا أفهم ما يقال لي، أكتفي بهزّ رأسي والابتسامة كدلالة على الفهم.
عندما أفهم ما يقال لي، أقف متأملا بصمت وذهول ما يوجد وراء الفهم.
الهواء البارد يمضي كشفرات حادّة فوق الوجوه، يترك الشفاه متيبسة والأنوف مزكومة. أمضي في الشارع المظلم إلّا من بعض الأنوار الضعيفة. أرتعش بردا كما ترتعش المدينة بكاملها. ما الّذي يمنح الدفء للحياة هل هي الشّمس أم الملابس أم الأغطية الّتي نضعها فوق أجسادنا الواهنة باللّيل . الدفء هو وجود عمق للأشياء، للحياة، للعلاقات البشريّة، وجود أسرار لا مدركة ، لكن مع ذلك مفكر فيها وإن كان بشكل حلمي. الإحساس الّذي يراودني هذا المساء هو الخوف من أنّه ما من عمق بقي للأشياء، ما من أسرار تنتظرني هنالك من أجل الإعلان عن اكتشافها. العالم برمته تسطح في السكون الفارغ للريح الباردة. فبعد شامبليون ربّما تكون انتهت جميع هيروغليفيات الكون. هذا هو العسر الحديث.
درجة الحرارة لا ترتفع في رأسي بل في قدمي ، جسمي كالصقيع بينما قدماي ملتهبتان. لذلك أنا من قبيلة المشائيين، رغم أنّني لا أومن لا بماهية ولا بصورة ولا حتّى بسببيّة ظاهرة. أنا مشائي بقدمي وليس برأسي. دائما أعاني من هذا الاضطراب المناخي في جسدي، هذا المنخفض الحراري من الأعلى إلى الأسفل. عندما أنام علي أن أكشف الغطاء عن رجلاي، أن أضربهما تباعا مع السرير حتّى يزداد تعبهما ويناما كي يتركا الرأس يأخذ حصته من النّوم هو أيضا.
يثقل علي اللّيل برعوده وبروقه، يحدق فيّ كما لو أنني قريب له. هذا السكون لا يقطعه سوى صوت الضفادع وهي تقيم حفلتها في العراء. قطيع الكلاب الّتي يعتصرها البرد، تنبح هي كذلك وكأنّها تنتحب، وأخيرا خلف هذا كلّه اللّيل ، اللّيل نفسه يجأر في الشوارع الفارغة، بينما ملايير الحشود من الحيوانات المنوية تجاهد كي تعلق في شرك الحياة.
كما لو أنّ الزمان توقف في هذه المدينة، هنا نعيش ونموت معا، نفس الحياة ونفس الموت. هنا الحياة تموت والموت يحيى من جديد. رغم أنّ كلّ شيء يتحرك، كلّ شيء ضوضاء إلّا أنّه في العمق لا شيء يتحرك. الزّمان هو التوقيع الّذي يتركه الله عندما يمرّ في مكان معين. مع ذلك هنا حيث يتوقف الزمان والتاريخ يمكنني القيام بتأملات حقيقيّة حول الوضع البشري، حول هذا الإنسان العتيق فوق هذا الكوكب العتيق كقطعة الأثاث القديمة الّتي علاها الغبار.
أقول مثلا، أيّة كينونة ينطوي عليها هذا الحارس اللّيلي المتيبس دائما خلف بذلته النمطيّة. طوال سنوات بكاملها لا تربطني به سوى بضع كلمات نتبادلها بنفس نبرة الصوت:
ـ صباح الخير ـ أعانك الله ـ اعتني بنفسك ... كيف يمكن أن تكون مثل هذه الكلمات القليلة الّتي لا روح لها، هي مجمل ما يمكن أن تربطك بإنسان. نفس الكلمات أتبادلها مع بقال الحي، ومع نادل المقهى ، ومع الرجل القروي الّذي يجلب الحليب إلى بيتي.
ولكن عن ماذا يمكن أن أحدث هؤلاء الناس لو تمكنت فعلا من تجاوز هذا الحاجز، هل أحدثهم عن ميلتون والفردوس المفقود، أو عن ماركيز ومائة عام من العزلة، أو عن ما بعد الأينشتاينيّة. شيء غريب كيف يمكن أن تموت الروح داخل جسد مقفر، تموت الروح بينما يستمرّ الجسد في الحياة. تُرى ماذا يمكن لهؤلاء أن يقولوه لو قدر لهم الخروج من بلاهة الوجود حيث هم، عن الفردوس المفقود، وعن السرد العجائبي، والعوالم الغريبة للفيزياء الكوانطيّة.
ولكنّهم مع ذلك سعداء بدون فردوس، علماء بدون فيزياء أو معادلات، روائيون حقيقيون وروايتهم هي حياتهم. هؤلاء العامّة المساكين هم أبطال لروايات تنتظر من يكتبها، شهداء لديانات لا إله لها. يقفون كطوابير تنتظر الإعدام، وما يعدمهم هو محنة الحياة ومكائد العيش.
أسير فوق هذا الصخر، تحت هذه الجدران الباردة، فوق هذه الأرض الّتي مرّ عليها ملايير من النّاس قبلي وسيمرّ عليها ملايير آخرون بعدي. أتخيّل كلّ هؤلاء الّذين ماتوا وانقضوا، طواهم التراب منذ أزمان سحيقة. قوم حام وسام، العمالقة والأقزام، قوم نوح ممن أخدهم الطوفان، وممن نجوا كي يموتوا بعد ذلك. لو بعث كلّ هؤلاء من جديد هل تكفيهم هذه الأرض المسكينة. هذه الملايير من البشريّة الضائعة ممّا وراء التاريخ نزولا حتّى ظهور الأومو سابيانس وابن عمّه النياندرتال ، إضافة إلى السبعة ملايير الّتي نحن عليها اليوم. ربّما تلزمنا أرض أخرى مضاعفة مئات المرّات، ربّما سنبعث في زحل أو في كوكب آخر من كواكب ألفا سانتوري .
وماذا لو تضاعف الجنس البشري في الألفيّة الثالثة، تكاثرنا حتّى صرنا أكثر عددا من القراد ومن الجعل. أو أكثر عددا من الذويبات الموجودة في حويصلات كلّ الرّجال. قد لا يجد الواحد منّا مكانا يقف عليه، وربّما تظهر سياسة جديدة، وعلم أخلاق جديد، واقتصاد من نوع مغاير، وربّما سيكون الهمّ الكبير للسياسة هو كيف تطعم كلّ هذه الأفواه، وكيف تضمن ألّا نصبح مثل الحيوانات الّتي لا تستمر في العيش إلّا بالاقتيات على بعضها البعض. قد يتطلب الأمر جوائح أخرى تطهر الأرض، انقراض كوني يعيد ترتيب سلّم الموجودات وينظّف الطبيعة من هيمنة هذه الفيروسات الّتي هي نحن سلالة البشر.
أعرف أنّني يوما ما سأموت بجرعة زائدة من الحياة. وقتي قصير فوق هذا الكوكب ولن أضيعه في البحث عمّا ضاع، ولا في العثور على ما لم يضع. بالأسى البارد للحنين أبحث عما هو متعذّر قوله لما هو متعذّر فهمه، سأكتفي بالوقوف في المرافئ المهجورة لأرخبيلات المعنى المهجور، حيث نقطة الارتكاز الوحيدة هي الضوء الواهن للروح وللإحساس بالحياة.