منذ مطلع القرن العشرين اصبح مصطلح الحداثة من المصطلحات الشائعة ذات الحضور الواسع والمؤثر والذى تم تداوله فى العديد من الأدبيات المتعلقة بالفكر والإبداع بالإضافة الى بعده الاقتصادى والاجتماعى وقد أخذ هذا المصطلح طابعا طاغيا ومتضخماً وسيطر على معظم المؤسسات الثقافية والاكاديمية الى درجة أن رأى البعض أن الحداثة قد أصبحت سلطة حاكمة للتقييم والهيمنة على توجهات الابداع خاصة وقد اصبح للمفهوم منظريه من المفكرين والفلاسفة ومن ثم أيضاً نقاده ومعارضيه الذين مهدوا الساحة الثقافية العالمية لظهور مصطلح مابعد الحداثة والتى ستضع قدماً فى الحداثة وقدماً فى نقدها.
وكما ظهر معارضو الحداثة ، ظهر معارضو مابعد الحداثة ، وامتلأت ساحة الثقافة العالمية بجدل واسع ومتشابك ، ومعقد ومتسع الى درجة حملت سمات الفوضى ، وفى كل من الحالتين وصل الجدل مابين المؤيدين والمعارضين الى طريق شبه مسدود سمى بأزمة الحداثة ، ومرة أخرى بأزمة مابعد الحداثة.
لقد امتدت رقعة هذا الجدل من أوربا وإمريكا لتشمل أجزاء كبيرة من العالم لتطال حتى تلك الدول التى لم تمر بمرحلة الثورة الصناعية ، والتى لايزال يحكمها التخلف واقتصاد ما قبل الإقطاعية وهياكل بعيدة عن زمن الحداثة وإيقاعاتها لتنخرط النخب الثقافية فى تلك الدول فى التفاعل مع الحداثة وما بعد الحداثة ولتعيد إنتاجها فى مجال الابداع بشكل رث وبائس فى كثير من الأحيان ، مما أسماه " ليبرمان " بحداثة التخلف حيث نتزع الحداثة من سياقاتها ، وتعطيها دلالات مجزأة ومقلوبة عن مضامينها الأصلية ، وحيث أصبحت الحداثة ، وما بعد الحداثة رمزاً لاحتكار المعرفة من قبل تلك النخب فى المجتمعات النامية فى الوقت الذى أعطت فيه ظهرها للواقع المأسوي للتخلف وسيادة اللاعقلانية والهيمنة الأبوية والبطريركية.
ورغم ان مصطلح الحداثة مصطلح فضفاض ، وإتسع لمعالجات المفكرين والفلاسفة كل حسب مداخل ورغم أنه ضم طيفاً واسعا من التيارات والاساليب الجمالية المختلفة وجمع بين الكثير من الحركات الإبداعية المتباينة الا أن هناك قواسم مشتركة جمعت بينها ،فقد كان للحداثة ثلاثة توجهات أساسية :-
• توجه يقوم على إعلاء شأن العقل والمعرفة العقلانية.
• توجه يقوم على الذاتية وإعلاء شأن الذات الانسانية.
• توجه يقوم على الوضعية التكنولوجية والآداتية.
فقد نتجت عن الحداثة تحرير العقل تحريراً مطلقاً ذلك العقل الناقد الذى لايستطيع أن يستسلم لمعطيات العالم كما هو لهذا قامت الحداثة على رفض المسلمات والرغبة بل الحق فى اكتشاف كل شئ واختباره والجرأه على معالجات الموضوعات المحظورة فلاشئ مقدس أمام العقل.
ومن ناحية اخرى رفعت الحداثة الذات الفردية الانسانية الى حد إعتبارها مركز الكون وان الحقيقة تستمد قيمتها من كونها نتاج العقل الانسانى فى ذاته وليست مفروضه عليه من قوة خارجية لذلك رفضت الحداثة التنظيم الكليانى القديم لصالح الفرد فى ذاته ولذاته.
لقد واكبت الحداثة الثورة الصناعية والعلمية الكبرى فى اوربا ولكن بعد الحرب العالمية الاولى ثم الثانية ، ومع تعاظم أزمات التضخم والبطاله وروح الجشع الاستهلاكى والتمزق الاجتماعى دخلت الحداثة منحنى القطيعة المطلقة والرفض المطلق والاستعلاء فوق حدود الزمان والمكان والانخلاع العدمى من كل ما هو عقلانى وأصبحت الحداثة إستراتيجية مقاومة أن يصبح العمل الفنى سلعة وقاومت كل القوى التى تريد أن تحوله الى شئ يمكن تبادله ولكى تحقق ذلك أعلنت إستقلال الفن عن الواقع أوتصويره ، وجعلت من نسيج الفن نسيجاً معقداً وأشكالاً مركبه ، بحيث أصبح التعقيد والتركيب أكبر من الوظيفة التى يمارسها فى التوصيل ، ويصبح الفن قيمة مكتفية بذاتها وبحيث أصبح موضوعاً مغلقاً لا تربطه علاقة مباشرة فى العالم فالفن أصبح موضوعاً لنفسه ،وليس تعبيراً عن شئ آخر ، وسادت الاتجاهات التكنولوجية والاداتيه لتترجم هذا الهدف.
وعلى ايه حال وأيا كانت المفاهيم التى تبنتها الحداثة فهى ليست صيغة محدودة ، بل صيغة مفتوحة لهذا لايصح النظر الى الحداثة باعتبارها معطى متجانس ذلك أنها فى الحقيقة معطى متشابك وهى ضرورة متنامية تسمح بدخول كل عنصر جديد فيها بإعادة بناء الكل فى ضوء أحدث العناصر فهى لاتعرف الجمود ولا الثبات فقسمة الحداثة فى التغير المتجدد لأنها تنفى نفسها دوما وتناضل ضد انتصارها أو استقرارها أى هى فى حاله صراع ورفض دائم لمكتشفاتها وتقنياتها وأساليبها الى حد ان رأى البعض أن مابعد الحداثة ما هى الا حالة جديدة من حالات الحداثة وإمتداد لها اى أن مابعد الحداثة هو الشكل الذى تتخذه الحداثة الان.
وإذا كانت الحداثة قد نشأت مواكبة للثورة الصناعية والعلمية الكبرى فى أوربا فإن مابعد الحداثة تعكس مجتمع ما بعد الصناعة " وهو مصطلح لعالم الاجتماع الامريكى دانيل بل " أما مصطلح مابعد الحداثة فقد صاغه المفكر الامريكى المصرى الاصل ( إيهاب حسن ).
فى ما بعد الحداثة تنعدم الرابطة العضوية ، والرؤية الكليه ، وإختفاء الذات الانسانية وبروز السمات السببية والخالية من اى دلالات ، فأهم ما يميز ما بعد الحداثة هو اللاتعين والمحايثة واللاعقلانية ، واللاتأويل فرفض المعنى والتأويل هو العلامة المميزة لعالم الحداثة.
فنون مابعد الحداثة تتمرد على كل الاشكال ، بل إنها ترفض الشكل أساساً أى ترفض التركيب والبناء الذى أسسته الحداثة لصالح التفكيك.
ويرى البعض أن مايميز ابداعات ما بعد الحداثة هو الاتجاه الى ثقافة شعبية تنتفى فيها إدعاءات الحداثة الفردية ويبدو ذلك واضحاً فى فن العمارة حيث تندمج عمارة مابعد الحداثة مع ما حولها من محلات وموتيلات وإعلانات السلع التجارية ودور العرض السينمائية وحققت ما بعد الحداثة أول تقارب مابين الفن الرفيع والفن الأكثر رواجاً Best Seller.
لقد ساهم مفكرو وفلاسفة مابعد الحداثة من أمثال أيهاب حسن وليوتار ودريدا وغيرهم فى إستنفار المخيله الابداعية والانتقال الى مناطق جمالية مفتوحة على حساسيات جديدة وغير مأهوله ، ومفتوحة على فضاءات لانهائية لتواكب التغيرات المتسارعة والمتلاحقة فى كافة المجالات فى عصرنا هذا وبخاصة فى مجال السينما والفيديو.
لقد وضعت مفاهيم الحداثة بصماتها – وطوال قرن كامل – على حركة الابداع وانتشرت تجلياتها فى الوسائط الابداعية المختلفة فى الآدب والفنون التشكيليه والموسيقى والمسرح والسينما.
وإذا كانت معظم تلك الوسائط تمتلك ميراثاً طويلاً من التطورات يمتد الى قرون بعيدة ، فأن السينما – وعلى نحو خاص يمكن إعتبارها فناً حداثياً خالصاً.
فمن ناحية ، واكبت نشأة السينما ظهور مفاهيم الحداثة والتى صاحبت الثورة الصناعية والعلمية والتكنولوجية ومن ناحية ثانية فقد جاءت السينما نفسها كثمرة لتطور تلك العلوم والتكنولوجيا فهى فن ادواتى تكنولوجى.
ومن ناحية ثالثة فهى أكثر تقبلاً لمفاهيم الحداثة خاصة فيما يتعلق بظاهرة الإنزياح وذلك بسبب خصائصها الذاتية مثل إمكانية التلاعب بالزمان والمكان ، وزوايا الكاميرا خاصة الشاذة وإمكانيات التلاعب بالضوء والتأثيرات المختلفة للعدسات وخاصيات الطبع والتحميض بالاضافة الى وجود الخدعة السينمائية كخاصية اساسية فى الظاهرة السينمائية جعلها من أكثر الفنون قدرة وتفعيلاً لمتطلبات الحداثةمنذ ايزنشيتن ودزيجا فيرتوف ،وصولا الى برجمان وفللينى وكيروساوا ، وبازولينى وبرتولوتشى وغيرهم كرموز هامة فى حداثة السينما فى القرن العشرين.
لقد شمل تاريخ السينما قائمة طويلة من الأفلام التى عكست روح الحداثة وكذلك قائمة متميزة من المبدعين السينمائين الذين تشبعوا بمفاهيمها وعكسوها فى افلامهم ، ولكن بسبب الطابع التجارى والاقتصادى فقد تقلصت مساحة تلك الافلام وإنحصر تأثيرها فى النخب المثقفة لذلك بدأ المخرجون يلجأون الى الفيلم القصير كمتنفس لابداعائهم وبسبب تحرره النسبى من شروط السوق والربح والخسارة وعدم إنتمائه لدائرة الانتاج التقليدية.
والوقع أن يمكن القول أن قصيدة النثر والقصة القصيرة ، والفيلم القصير أحد النتائج المباشرة للحداثة.
والآن لقد أصبح الفيلم القصير خاصة بعد التطورات المذهلة فى مجال تكنولوجيا التصوير والعرض السينمائى خاصة تكنولوجيا الديجيتال والمؤثرات الحاسوبية والجرافيكية ، وأجهزة تكنولوجيا فبركة الواقع ( الواقع المفترض ) ويكاد يكون الفن الأكثر تعبيراً عن عصر مابعد الحداثة.
فإذا كان الفيلم الطويل لايزال يخضع لنمط ما من القواعد ، فان السرد فى الفيلم القصير يبدو متشظياً ومجرد تخطيط والتقاط لحالة مزاجيه والتركيز على لحظات محدودة من الزمن وعلى مساحات محدودة من الفعل وهناك أسماء لامعة فى هذا المجال السينمائى مثل هانز ريختر ، فيرترنيكر، وجوريس ايفنز ، وتأتيل دورسكى ، و جيرمان دولاك ،و ميشيل دبراش ،وجان باسكال ، و جين دالمان ،و دافيد لنش ، وبدرو الموفار ، وبيتر جريناوى ، وفليب جابرييل وغيرهم.
ورغم الكثير من الانجازات الرائعة التى حققتها الافلام القصيرة الحداثية وما بعد الحداثية ، الا إنها مازالت تعانى من الحصار بسب ضألة مساحة إنتشارها ،وصعوبة التلقى ففى المجتمعات المتقدمة التى ينخرط فيها الناس فى الثقافة الاستهلاكية أو فى المجتمعات المتخلفة التى تعانى من إزمات طاحنة إقتصادية وسياسية بالاضافة الى التخلف الحضارى ويجعلها أبعد من تلقى إبداعات فى هذا النوع الذى يتجاهل واقعها ومشكلاتها.
هذا الامر يضع المبدعين السينمائين الذين يثبتون مفاهيم الحداثة ومابعد الحداثة كـأساس نظرى لافلامهم القصيرة فى مواجهة الكثير من القضايا والاشكاليات التى تستلزم مجابهتها والتغلب على مفارقاتها التى شكلت معضلاتها ، ومن منطلق الحداثة ومابعد الحداثة نفسها فإن نقدها وسد نواقصها مبدأ يستجيب لأهم أسسها وحتى لاتتحول الى ميتافيزيقيا.
وهو مبرر كاف لأن تشرع إدارة مهرجان الاسماعيلية الدولى للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة بالدعوة الى حلقة بحث تحت عنوان " تجليات الحداثة ومابعد الحداثة فى الفيلم الروائى القصيرالخطاب – والمسؤوليه " ومن خلال المحاور المقترحة التالية :-
1- جماليات الحداثة ، ومابعد الحداثة فى الفيلم القصير.
2- تأثير التطورات التكنولوجية والعلمية فى تشكيل الصيغة الحداثية وبعد الحداثية للفيلم القصير.
3- الفيلم الحداثى ، وما بعد الحداثى وإشكاليه التلقى , الحداثة ومابعد الحداثة فى السينما ، والنسبية الثقافية " سؤال الهوية " .
4- مشكلات الانتاج والتوزيع للفيلم القصير.
5- نقد تيار ما بعد الحداثة فى السينما.
نرجو ويسعدنا مشاركتكم فى حلقة البحث المقترحة على ان تصلنا مداخلاتكم مكتوبة على عنوان إدارة المهرجان قبل العاشر من سبتمبر 2003 حتى يمكن وضعها فى الاعتبار عند الأعداد للندوة مع العلم بأن إدارة المهرجان سوف تقوم بنشر جميع المداخلات والمناقشات فى كتاب يصدر بهذا الخصوص.