من العراق.. دعما للشعب السوري (رويترز)
محمد دحنون
16/08/2011
ملامح
الذهول التي تصبغ، للحظات، وجهي العائدين من مدينة "القصير"، لا تُفسّر
فقط بالمشاهد الصادمة التي تسّنى لكل من هيثم ونضال أن يعاينها عن قرب.
هنالك شيء آخر، يسهم في تفسير لحظات الذهول تلك، كان الصديقان قد قضيا معظم
الوقت الذي يستغرقه طريق عودتهما إلى دمشق في محاولة فهمه: "يمكنك أن تدعو
"السلطة" التي تحكمنا أيّ شيء سوى أن تدعوها "نظاما"، حتى على مستوى
التسميّة"، يقول هيثم. ويعيد نضال الفكرة على طريقته: "النظام السوري"
عبارة يجب أن تُسحب من التداول لوصف من يحكمنا، إنّه أي شيء آخر، ولكنّه لا
يمت لأيّ "نظام" بصلة"!
البدايّة: سلميّة وحريّة.. ورصاص!لم تتخلّف "القصير"، المدينة الزراعيّة السهليّة التي تعرّضت لاجتياح عسكري
وأمني و"تشبيحي" منذ فجر يوم الخميس الماضي، عن اللحاق بركب المدن
السوريّة التي هبّت منذ شهر آذار لإعلان التضامن مع "درعا" والهتاف
للحريّة. وكغيرها من المدن، سار الحراك فيها وفق منحى تصاعدي. بحسب نضال:
"كان عدد المتظاهرين في البداية لا يزيد عن ثلاثة آلاف شخص من أصل خمسة
وأربعين ألفاً هم سكان المدينة". لكنّ ما يعتبره نضال "منعطفاً في الحراك
القصيراوي" كان قد حدث في الخامس والعشرين من شهر حزيران، "حين بلغ عدد
المتظاهرين رقماً غير مسبوق، نظراً لوصول أعداداً كبيرة من أبناء القرى
المحيطة للمشاركة". ويضيف: "في تلك الجمعة لم يستطع عناصر الأمن، الذين
يلجأون عادة إلى مبنى مفرزتهم، أن يتحملوا العدد الهائل من المتظاهرين،
فأطلقوا النار باتجاه التظاهرة ممّا أدى إلى استشهاد أحد الشبّان".
كانت هذه الحادثة قد تزامنت مع دخول عدد من الدبابات إلى المدينة، الأمرُ
الذي يفسّره نضال، متهكماً، بالقول "رفع معنويات عناصر الأمن الذين لم
يتأخرّوا في ترجمة معنوياتهم المرتفعة تلك، فقنص أحدهم عمّ الشهيد في مساء
يوم التشييع!".
من جهته، يلفت هيثم إلى أنّ شهيد الخامس والعشرين من حزيران لم يكن أوّل
شهداء المدينة. كان قد سبقه إلى ذلك شخص آخر. لكنّ المفارقة، بحسب نضال،
أنّ الشهيد الأوّل لم يكن متظاهراً، بل كان في منزله حين اخترقت جسده
رصاصة، من جملة "زخّة" رصاص كانت أطلقتها، عشوائياً، عناصر الأمن المتمركزة
في أحد الأبنية الحكوميّة، لتفريق المتظاهرين.
استمرّ التظاهر في المدينة، لكن مع فارق نوعي تمثّل، وفق ما يقول هيثم،
بـ"ارتفاع عدد المشاركين في التظاهرات، والذي بلغ ذروته في جنازة تشييع أحد
العسكريين من أبناء المدينة الذي قُتل في "تلكلخ"، من دون معرفة السبب
وراء مقتله، بالإضافة إلى تحوّل التظاهرات إلى نشاط يوميّ لأبناء المدينة،
الأمر الذي توّج في رمضان بتحول ساحة "الكاراج" إلى ساحة اعتصام يومي بعد
الإفطار".
رمضان: "ميدان تحرير قصيراوي"اتخذّ شهر رمضان، لدى عموم المعارضين السوريين، معنى مبتكراً، تمّ تكثيفه
في عبارة "ثوروا تصحّوا". لهذا السبب، لم يتأخّر أبناء القصير في الإعداد
للحسم "الرمضاني"، في مواجهة قرار "الحسم الحربي" الذي اتخذه النظام.
إعدادهم شبيه بمظاهراتهم: سلميّ، ويقتصر على إعداد منصّة، وشراء تقنيات
صوتيّة بسيطة لم يتمكنوا من دفع كامل ثمنها.
على امتداد ليالي رمضان الأولى، بعد الإفطار، كانت ساحة "الكاراج"، تتحوّل،
كما يقول نضال إلى "ميدان تحرير قصيراوي". نساء وأطفال ورجال يتجمعون في
الساحة، أغان وهتافات للحريّة ولإسقاط النظام. ليال "ثوريّة"، يقول "نضال"
إنّها "لم تشهد سقوط قطرة دم واحدة". ولكنّها، شهدت، بحسب هيثم "إشاعة سرت
بين صفوف المتظاهرين ـ المعتصمين عن تهديدات بالاجتياح أرسلها ضابط أمنيّ
كبير من أبناء إحدى القرى التابعة للمدينة، تهديدات واجهها المتظاهرون
بالهتاف الشهير "هي ويالله وما منركع إلاّ لله".
استمّرت اعتصامات المدينة ليليّاً. يصف هيثم المشهد بـ"المهيب، والجميل،
والجديد!". يقاطعه نضال: "إلى أن وصل الحسم الأمني إلى القصير". حدث الأمر
فجراً، بالطبع، بعد عزل المدينة عن العالم. قُطعت خطوط الاتصالات الأرضيّة
والخلويّة، ما يعني أن شبكة الانترنت قد توقفت عن الخدمة أيضاً. ما يصفه
هيثم بـ"مخطط الاجتياح، لم يختلف في خطوطه العريضة عن بقيّة "الاجتياحات"
التي تعرّضت وتتعرَض لها مدن سوريّة أخرى. يفصّل "هيثم" معنى الاجتياح من
دون أن تفارقه ملامح الاستغراب وحركات عصبيّة، ومن دون أن يغفل عن تفاصل
تتعلّق بسمات "المجتاحين"!
الاجتياح: ماذا يفعلون هنا؟لم يقتصر عزل المدينة على مستوى الاتصالات. يقول هيثم "تمّ عزل المدينة برا
عن القرى المجاورة، حيث تم الاجتياح من محورين هما: مدخل المدينة من جهة
حمص، ومن جهة محطة القطار القديمة". ويصف نضال منظر دخول المدرعات وناقلات
الجند بشيء من الرهبة، لكنّه، كما يقول، لن يستطيع أن ينسى سحنة جنود الجيش
الذين دخلوا المدينة: "كان بإمكاني، ومن خلال التلصص، أن أتأمّل وجوههم،
لا أستطيع أن أقول سوى أنّهم كانوا في حالة استغراب ودهشة وحيرة: ماذا نفعل
هنا؟".
يبتسم نضال حين تسأله إن كانت قد حدثت أيّة انشقاقات: "الجندي الذي يؤدي
خدمته العسكريّة، و"الملاحق" من قبل صفّ من عناصر الأمن، "الملاحق" بدوره
من قبل صفّ من "الشبيحة" المدججين بالسلاح والذين يرتدي بعضهم ألبسة
رياضية، هذا الجندي لا يخاف من رصاصة تأتيه من الأمام. على العكس، خشيته من
رصاصة تأتي من الخلف!".
ربما كانت هذه الخشيّة هي ما دفع أولئك الجنود إلى إطلاق رصاص رشاشاتهم
الحربيّة عشوائيّاً، ليحصدوا في الساعات الأولى لدخولهم أكثر من أحد عشر
مواطناً، جلّهم، بحسب هيثم "لم يكن من النشطاء ولا حتى من المتظاهرين".
في المقابل، لا يريد "هيثم" تبرئة الجنود ممّا فعلوا، لكنّه، كما يقول،
يريد أن ينقل الصورة التي رآها "لم يفعل الجنود ما فعله "الشبيحة" وعناصر
الأمن، فهؤلاء هم من تكفلوا بتخريب البيوت الفارغة، وتحطيم أثاثها، وهؤلاء
هم من سرقوا المحال التي تعود ملكيتها إلى نشطاء أو متظاهرين، وهؤلاء هم من
سرقوا مبالغ نقديّة من البيوت..".
لكنّ المسألة لم تنته هنا. كان اختطاف الجثث هو أكثر ما أثار لدى هيثم
السؤال عن "طبيعة النظام الذي يحكمنا. كان الهدف من الاختطاف، وفق هيثم،
إجبار الأهالي على التوقيع على أوراق تؤكد أن من قتل أبناءهم هم أفراد
العصابات المسلّحة".
خلال ساعات، تمكنت عناصر الجيش وقوات الأمن والشبيحة، من تمشيط المدينة.
يعدّد نضال، متشنّجاً في البداية ومسترخيّاً في النهايّة، حصيلة الحملة
الحربيّة على مدينته: "ما يزيد عن 14 شهيداً، ما يزيد عن 200 معتقل، بعضهم
آباء تمّ اعتقالهم كرهائن بدلاء عن أبنائهم المتوارين، عشرات الجرحى الذين
تعذّر نقلهم إلى المشفى تجنباً لتصفيتهم على أيدي الشبيحة، ولا أريد أن
أنسى أن عناصر الجيش قد صادرت ذخيرة حربية.. هي بارودة صيد مرخصّة بالإضافة
إلى سيف!". ويضيف: "أما أبرز نتائج الحملة، بالنسبة لي على الأقل، فهي
تظاهرة صغيرة، جرت في ليلة الاجتياح، طالبت بالحريّة وبإسقاط النظام!".