04 أكتوبر 2013 بقلم
محمد طيفوري قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:استرعى انتباهي كتاب للباحث قاسم شعيب بعنوان "فتنة الحداثة" من منشورات "مؤسسة مؤمنون بلا حدود"[sup][1][/sup]، وإذ أشكر للكاتب رغبته النبيلة في توجيه الفهم، لإعادة قراءة الحداثة قراءة نقدية ومن خلال مشاريع حداثية عربية[2]، في ظل تنامي وتيرة النقاش عن التأويلات الحديثة للحداثة بعد وصول حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في أكثر من دولة، فصرنا نسمع لا عن أسلمة الحداثة أو تحديث الإسلام، بل عن "حداثة إسلامية"[3]. فإنني مع ذلك أستغرب لهذه الرغبة الجامحة لدى الباحث، والتي تفتقد للمنهج والآليات، وقبلهما للاطلاع والمعرفة الكافية لمناقشة موضوع يعد بحق "قضية القضايا" في الفكر العربي/الإسلامي المعاصر.
تكمن مشكلة الكاتب قاسم شعيب في سعيه للتبشير بحداثة خاصة، تفتقد إلى المقومات التي تؤهلها للدفاع عن نفسها[1]؛ فأطروحة الباحث اعتراها من التناقض ما يهد بنيانها من أساسه، سواء على مستوى المفاهيم أو مستوى الاستدلالات. كما شابها من الغموض والالتباس والأحكام القيمية - بسبب نظرته الفوقية للحداثة – ما جعلها أقرب إلى حديث لاهوتي منه إلى مقاربة فكرية وعلمية رصينة.
سقط الكاتب في التخبط المعرفي والمنهجي على مستوى المفاهيم في أكثر من مقام طي كتابه، من خلال استحضار ما بعد الحداثة لانتقاد الحداثة تارة، واعتبارهما وجهين لعملة واحدة تارة أخرى. وأيضا على مستوى الاستدلالات، وذلك بإساءة توظيف مقولات حداثية في غير مقامها. واعتماد مقاربة انتقائية مخلة في مناقشة كل من مشروعي المفكرين طه عبد الرحمان وهشام جعيط.
وهذا ما سنعمل على بسط أمثلة منه في القادم من الأسطر، لكن نشير قبلا إلى أن هذه المقالة لا ترمي تبخيس العمل، بقدر ما هي استجابة لدعوة للنقاش والتفاكر، يفترض أن كل كاتب يتقدم بها لقرائه بعد كل إصدار.
بداية لنتوافق على مقدمتين أساسيتين مفادهما التالي:
أولا: في ظل ضبابية مفهوم الحداثة لدى الكاتب، والتفافه حول ألفاظ عامة لتحديد ماهيتها، مثل قوله: "حداثة خاصة منطلقة من مفاهيم وقيم مستمدة من الإسلام ونصوصه"[sup][2][/sup]. نحدد الحداثة بأنها ذلك الأفق الكوني الذي تجاوز موطن النشأة وأصبح ملكا مشاعا لكل البشر، ويمكن أن نختصر التحديد في عبارة لفيسلوف تلخص هذا المشروع "الحداثة هي القدرة على الممارسة النقدية". الفكرة ذاتها صاغها المفكر المغربي عبد الله العروي صياغة بليغة في كتابه "مفهوم العقل" قائلا: "لا يوجد فكر حديث وبجانبه نقد، بل الفكر الحديث كله نقد. هذه هي الثورة الكوبرنيكية فلا يكفي الكلام عنها بل يجب الكلام بها"[3].
ثانيا: إن الحداثة مشروع لم يكتمل من وجهة نظر يورغن هابرماس، أحد رواد مدرسة فرانكفورت النقدية، ما يعني معه أن الحداثة يمكنها أن تصحح مسارها في كل مرة، وهي بذلك لا تدعي لنفسها الكمال،[4] بل تعترف في المقابل أنها منظومة ناقصة وقاصرة، وهذا من العناصر التي تستمد منها قوة الصمود في مواجهة البهلوانيات الفكرية لما بعد الحداثة.
يعج الكتاب بجملة من الأحكام القيمية والمصادرات من قبيل أن الحداثة ولدت عرجاء منذ البداية،[sup][5][/sup] وأن المسلمين يملكون أسلحة فكرية أقوى من أسلحة الفكر الحداثي،[sup][6][/sup] وأن القرن الثامن عشر في فرنسا سمي بعصر الأنوار، رغم أنه لم ينتج فيلسوفا واحدا يملك نسقا فلسفيا متكاملا،[sup][7][/sup] بل وأحيانا محاكمة النوايا - بعيدا عن أي منهج علمي – كقوله: "لقد كان جعيط في الجزء الأول "الوحي والقرآن والنبي" أكثر تفهما لظاهرة الوحي والنبوة وأقرب إلى المعقول الإسلامي، رغم أنه كان يفعل ذلك تقية على ما يبدو".[sup][8][/sup]
نود في هذا المقام تدقيق النقاش في نقطتين جوهريتين عَنّت محوريتهما فيما طرحه الكاتب، لما شابهما من غموض والتباس.
- الحداثة والعقل:
يرى الكاتب أن العقل الذي أعلت من قيمته فلسفة الحداثة، لم يحترم حدوده... وفشل العقل فشلا ذريعا، وهو يتمدد خارج نطاقه، فسقط الفرد ضحية القلق والتمزق والعدمية،[sup][9][/sup] بل يذهب أكثر من ذك حين يعتبر أن مقتل الحداثة يتحدد في تأليه العقل وإعطائه قيمة تتجاوز قدراته في تصورنا. وفي المقابل، تم إقصاء الدين وضربه والسخرية منه.[sup][10][/sup]
إن الحديث عن إقصاء الحداثة للدين والسخرية منه، لا يعدو أن يكون مجرد افتراء، لأن أسس الحداثة لا تقوم على القضاء على الشعور الديني، بل تهدف فقط إلى تحويل قضاياه من احتكار الإكليروس والفقهاء إلى التأمل الإنساني الحر.
هذا، ويبدو أن الباحث هنا يقفز عمدا أو سهوا على الآباء المتكلمين المؤسسين للعقلانية والفكر الديمقراطي في التاريخ الإسلامي، والذين دفعوا حياتهم ثمنا لذلك قبل قرون عصور محاكم التفتيش، وقبل أن يقاد غاليلي إلى المقصلة. ونقصد الأربعة الكبار من أهل القرن الأول الهجري، وهم: معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم والجهم بن صفوان.[11]
يذهب الباحث في النقطة ذاتها إلى التأكيد على ضرورة معرفة حدود العقل عندما يتعلق الأمر بعلاقته بالإسلام؛ فالعقل الذي يحترم حدوده – من وجهة نظره - هو وحده الذي لا يتناقض مع الإسلام.[sup][12][/sup] متناسيا فرقة المعتزلة التي مارست التعقل من داخل المنظومة النصية التي سادت في فترتها، بل عد العقل أحد الأصول الخمسة التي يقوم عليها الفكر الاعتزالي، وبلغ التعقل بالقاضي عبد الجبار أحد رموزها مبلغا جعله يناقش ما يجب على الله فعله، مما لا يجب عليه من منطلق صفاته الواردة في القرآن.
ونختم بالتساؤل عن حدود العقل التي ما فتئ الكاتب يقيم بها الحجة طي كتابه، من يحددها؟ وكيف تضبط؟ وهل هي قابلة للزيادة والنقصان مع تطور الإنسانية أم تبقى ثابتة؟ بمعنى هل حدود عقل الفرد في القرن السابع الهجري سوف تبقى هي ذاتها حدود إنسان يعيش في القرن الحادي والعشرين؟
- الحداثة والإسلام:
يصر الكاتب على أن الحداثة ولدت عرجاء منذ البداية، ولا سبيل إلى تجاوز مطباتها، إلا بالانطلاق من أسس نظرية جديدة لا تهمل في الإنسان أيا من جوانبه، كما فعل ذلك الإسلام من قبل.[sup][13][/sup] والبديل في نظره حداثة خاصة تؤسس من مرجعية وقيم إسلامية على اعتبار أن الإنسانية في نظره، حتى الآن، جربت كل المنظومات والأيديولوجيات الوضعية، ولكنها لم تجرب الإسلام إلا في فترة قصيرة جدا، وفي مساحة جغرافية محدودة بسبب المؤامرات التي حيكت ضده، ولم يكن بوسع تلك الفترة القصيرة أن تأخذ مداها وتحقق أهدافها.[14]
يحق لنا أن نتساءل هنا عن أي إسلام يتحدث الباحث؟ هل "إسلام النص" أم "إسلام التاريخ"؟ وإذا افترضنا جدلا أنه الأول على اعتبار التحفظات التي يسجلها بين الفينة والأخرى على الثاني في كتابه؛ ففي أي النصوص سوف نبحث عن الإسلام؟ هل النص الخالص (القرآن) أم النص المؤَسسَ (الحديث)؟. وفي أي المنظومات سوف يكون ذلك إن قبلنا الافتراض الثاني؟ هل داخل المنظومة السنية أم المنظومة الشيعية أم الدائرة الإباضية؟
ونتساءل أيضا عن هذه الحقبة التي طبق فيها الإسلام تطبيقا كليا من طرف الإنسانية؟ وكذلك متى استطاعت إيديولوجية بعينها أن تحظى بإجماع الإنسانية قاطبة؟.
بسط الباحث تفسيراته بعيدا حين اعتبر أن مشروع العلمنة والتحديث قد فشل في العالم العربي، وهو ما يفسر الثورات العربية التي انطلقت في كل مكان لتطالب الأنظمة العلمانية الفاشلة بالرحيل.[15] إذا سلمنا جدلا – وهذا غير صحيح – بعلمانية الأنظمة العربية، وصدق نواياها في التحديث لا الحداثة، والفارق بيّن بين الأمرين. فالظاهر في المطالب التي رفعت إبان الثورات العربية، أنها من مقومات الدول الحديثة من حرية وديمقراطية وكرامة وعدالة...ورفض في المقابل لكل أشكال الاستبداد والقهر والسلطوية من كافة أطياف المجتمع وبمختلف إيديولوجياتهم السياسية ومشاربهم الفكرية رافعين شعار مدنية الدولة.