العالم يحتفل بمائة عام علي
ميلادها
سيمون دو بفوار
العالم يحتفل
الآن بمائة عام علي ميلاد الكاتبة الفرنسية الشهيرة سيمون دو بفوار التي
كانت أهم الشخصيات المؤثرة في تشكيل النسوية الحديثة، والمّعْلٌّم الأساسي ل
الوجودية الفرنسية لما بعد الحرب. ولقد تعرفت خلال دراساتها الفلسفية في
السوربون علي موريس ميرلو-بونتي ، و جان-بول سارتر الذي اشتركت معه فيما
بعد في تأسيس المجلة الشهيرة (الأزمنة الحديثة) (1945)، العضو الرئيس
لليسار غير الشيوعي في فرنسا. وشكلت مع سارتر أهم العلاقات الحميمة في
حياتها وأقواها.
وقد مثلت أعمالها موقفا للمثقفين صالحا لكل زمان أن تكون مسئولا تجاه
وضع الآخرين، وألا يتنازل عن الحرية الفردية هو موقف استمر حتي أيامها
الأخيرة
وتجل في معارضتها في الخمسينيات لسياسة الحكومة الفرنسية في
الجزائر (وهو الأمر الذي سبب الكثير من الإهانات العامة التي لحقت بها،
وعرضتها لبعض المخاطر مع (سارتر)، كما وقفت ضد تدخل الولايات المتحدة في
فيتنام، وغيرها .....
هنا ملف خاص عنها ، وعن حياتها، متضما فصولا من
سيرتها الذاتية عن فترة الشباب التي كتبتها وستنشر لأول مرة في مارس
القادم..... فضلا عن عرضا لكتابها الهام والمؤثر الجنس الثاني.
الحياة الجنسية تلقي بظلالها علي الاحتفال
بمئويتها
آنجليك كريسافيس
لقد كانت الكاهنة العليا للفكر الفرنسي في القرن العشرين، أم النسوية
الحديثة وبطلة الحرية الجنسية بثلاثيتها وعلاقاتها الجنسية الثنائية
الملتهبة.
لكن مع شروع فرنسا في الاحتفال المتألق بذكري ميلادها المائة
في يناير من هذا العام، حذر بعض الأكاديميين من الجدل والإصدارات التي
تتناول الهجوم علي حياتها الجنسية الفضائحية المتعمدة.
إن مشاركة دي
بوفوار مع الفيلسوف جان بول سارتر قد استدعت العلاقة المفتوحة الأصلية أكثر
العلاقات المحتفي بها وأشهر علاقة فكرية غير تقليدية في فرنسا. لقد تقابلا
في سنة 1929، ولم يتزوجا أبدا، لكنهما أخلصا لبعضهما البعض في الوقت الذي
كانا متفقين فيه علي ضرورة أن تكون لدي كل منهما الحرية في الدخول في
علاقات جنسية وعاطفية مع الآخرين طالما كانا يتشاركان في التفاصيل.
لقد
ضمت القائمة الطويلة للشركاء الذين هم أحيانا متبادلون، مفكرون مشهورون،
كما ضمت بالمثل بعضا من الطالبات الشابات لدي دي بوفوار. إحداهن هي بياكا
لامبلين ، كتبت فيما بعد مذكرات مؤلمة بعنوان علاقة مخزية، تحكي فيها كيف
قال سارتر قبل أن يغويها لأول مرة في باريس: إن خادمة الفندق سوف تندهش
بحق، لأنني فضضت بكارة إحدي البنات بالأمس.
اهتمام محموم
إن الإفراط في الاهتمام وسعار الإصدار حول مئوية مولد دي بوفوار، قد خلق
اندفاعا في الاهتمام بطرفي علاقة وصفتها إحدي المجلات الفرنسية بالأمس علي
أنهما فريد وجينجر (نجما الرقص والسينما) الوجودية الفرنسية .
وهناك
أكثر من عشرة كتب بسبيلها إلي الصدور، بالإضافة إلي أفلام تليفزيونية
وأفلام دي في دي مناظرة لها. كما أن هناك جسرا جديدا علي نهر السين يحمل
اسم دي بوفوار، وسوف يتوافد العظماء والأخيار من أكاديمي العالم علي باريس
لحضور مؤتمر عنها الأسبوع القادم. وحتي الوزيرة الحكومية الشابة لسكرتارية
السياسات الحضرية فضيلة أمرة استخدمت اقتباسا عن دي بوفوار علي بطاقات
السنة الجديدة في مكتبها هذا الشهر.
لكن مع الجولة الأخيرة نجد أن
العلاقات الخاصة لدي بوفوار هي التي تصدرت أكشاك بيع الصحف والمجلات
الفرنسية أمس، حيث كان من الواضح أن غرامياتها غير التقليدية وحياتها
الجنسية هي التي سوف تأخذ صدارة العرض.
ونشرت صحيفة لي أبزيرفاتيه التي
زعمت ب انبعاث دي بوفوار صورة المؤلفة عارية علي خلفية غلافها. وتساءلت لي
إكسبريس ما إذا كانت فرنسا الآن في النهاية مستعدة لأن تتحدي الأيقونة.
واحتفت لي بوينت بالسيرة الذاتية الجديدة التي تكشف عن أن سارتر كان باردا
جنسيا، وعنيفا ومستبدا وغيورا ، وأن دي بوفوار قد تتبعت وسارت علي خطي
الاستبداد وعقدة بيجماليون والفسق المحسوب الذي استخدمته لاستعباد وإخضاع
وتشكيل هؤلاء المحيطين بها.
قالت دانييل سالينيف، مؤلفة السيرة الذاتية
لدي بوفوار بعنوان 'Castor de guerre' الحيوان القارض الدءوب) للجارديان:
دعنا ننظر هذه السنة علي كل عملها معا، ليس فقط مجرد العلاقات والجنس
بالأهمية التي عليها.
قالت: إن اللعبة الحقيقية هنا هي أنه علي دي
بوفوار أن تقفز خارج ظل سارتر، فأنا أظن أن سارتر كان مستبدا، رجلا
كلاسيكيا عنيفا وتقليديا. وأرادت دي بوفوار أن تكون ثورية في كل شيء يتعلق
بحياتها العامة والخاصة. وكان سارتر مستعدا للدخول في علاقات متوازية
بدونها، ومن خلف ظهرها، ويخفيها عنها، وهكذا يتصرف مثل زوج بورجوازي
كلاسيكي. وهي لم تكن لتتلاءم مع ذلك: فقد كانت راديكالية أكثر منه بكثير .
إن
هازيل رولي ، الكاتبة الآنجلو-أسترالية التي يناقش كتابها الحديث، وجها
لوجه ، كيف أن علاقة دي بوفوار وسارتر المفتوحة قد استقطبت الرأي العام،
قالت إنها خشيت من أن الاندفاع إلي المجادلات في الأسبوع القادم سوف يري
وصف الاثنين علي أنهما مسخان . وقالت إنه من الممكن أن يبرز تيارا من
التصريحات التي تتناول الحياة الجنسية لدي بوفوار، بما فيها القسوة
والسادية والمراوغة والترصد وكل هذه الكلمات الغبية .
وقالت رولي : لا
أظن أننا ينبغي أن نسفه من هذه الشخصية الرائعة بالتركيز علي الفسق الجنسي،
لماذا نفعل هذا؟ هل نحن متزمتون؟ هل نظن أننا من نوعية أرقي، ولماذا؟
وأضافت بأنها تأمل أن في السنة المئوية لميلادها سوف توقف الناس عن السخرية
والاستخفاف بدي بوفوار .
علاقة أوثق من أي وقت مضي
وحاليا، عندما رفض الرئيس نيكولا ساركوزي هذا الأسبوع القائمة الشرفية
الجديدة المقترحة، علي اعتبار أنها تضم متعجرفين جدا وذكوريين وسياسيين
وممثليين ومفكرين كذلك بالمثل صرحوا بأن نسوية دي بوفوار كانت وثيقة الصلة
أكثر من أي وقت مضي بالمجتمع الفرنسي.
وقالت أوريلي فيليبتي الروائية
وعضو الحزب الاشتراكي المقربة من سيجولين رويال : كانت سيمون دي بوفوار
البرهان القاطع علي أن النسوية لا تتناغم مع الجمود العاطفي... فهي مازالت
الشخصية الملهمة لجيلي .
كانت سيمون عارية.. وعندما التجقطت الصورة،
ضحكت
أيمن عبد الهادي
من المؤكد أن مارك آش المصور الفوتوغرافي الأمريكي لم يكن الرجل الوحيد
الذي رأي سيمون دي بوفوار عارية..فقد فعل ذلك قطعا ولمرات عديدة جون بول
سارتر و نلسون ألجرين عشيقا السيدة الفرنسية. الفارق أن آش لم يتجاوز في
علاقته معها حد الرؤية. كان تسجيل لحظة العري هو كل ما أستطاع القيام به.
صورة فوتوغرافية تظهر فيها دي بوفوار من الخلف..عارية تماما..واقفة أمام
المرآة..ترتب شعرها.
الصورة أثارت جدلا واسعا في فرنسا بعد أن نشرتها
مجلة لونوفيل أوبزرفاتور علي غلافها عدد 3 يناير إحتفالا بمئوية ميلاد
الفيلسوفة. وأستنكر أنصار الفكر النسوي هناك الطريقة التي احتفت بها المجلة
بزعيمتهم: استخدام جسد سيمون للإحتفاء بفكرها، لذا خرجوا في تظاهرة أمام
مقر المجلة منددين بما أسموه التمييز الذكوري الذي مارسه القائمون علي
المجلة بنشرهم صورة دي بوفوار. و كان طبيعيا ، ردا علي ذلك ،أن يطالبوا
المجلة بنشر صورة لمؤخرة سارتر كما فعلوا مع مؤخرة عشيقته. أصحاب القرار في
المجلة كان لهم رأي آخر: اعتبروا الصورة غير مؤذية و لا ضارة و لا تحط من
قيمة المرأة عموما و لا من قيمة دي بوفوار و جاءت متوافقة مع طبيعة معالجة
المجلة التي ركزت علي الجوانب الشخصية و التفاصيل الحياتية لصاحبة الجنس
الآخر .
وبعد الجدل، تبقي الصورة. حاضرة. تستدعي لحظة ماضية تتجمع
تفاصيلها عند مارك آش البالغ من العمر الآن 85 عاما. عام 1952 كانت سيمون
دي بوفوار في زيارة لمحبوبها الأمريكي ألجرين و كان الأخير يقطن في شقة
متواضعة يؤجرها بعشر دولارات شهريا لا يوجد بها مكان للإستحمام و لم يكن
بوسع العشيقة أن تستحم لكن آش صديق العشيق إمتلك الحل. إقترض مفتاح شقة
إحدي صديقاته تتوفر فيها ماأرادته سيمون. يحكي المصور للنوفيل أوبزرفاتور:
حذرني (نيلسون) من حقيقة أن الفرنسيات نادرا ما يغلقن باب الحمام {...}
ممرت كي أصطحب سيمون و قدت السيارة مدة 15 دقيقة حتي شقة صديقتي. وفي طريق
الذهاب و كما فعلت عند العودة سألتني بشكل مباشر حول أنشطتي كأب و رب
عائلة. هل كنت مخلصا؟ هل أحب زوجتي؟ هل حاول نيلسون إغواء زوجتي؟ ( في ذلك
الحين كان نيلسون يغوي الكثير من النساء، لكنه لم يفعل مع زوجتي). و سألتها
هل كانت مخلصة لجون بول سارتر و هي في فرنسا وهل أخلصت لنيلسون وهي في
شيكاغو. وردت أنت مراسل جيد جدا، أيها الرجل الشاب لكنها لم تجيبني. و
لكوني مصور حديث في مجلة لايف، كانت الكاميرا معي دائما. كانت معي هذا
اليوم أيضا. لابد أن تدركوا أن السيدة لم تكن تمثل لي ذلك الوقت شخصية
عامة، لكنها كانت في المقام الأول عشيقة أجنبية لصديقي، رجل كانت تقدره
خاصة من أجل اللذة التي كان سخيا في توفيرها لها و التي كانت تبهجها بشكل
أكبر من العلاقات الجنسية التي كانت لها في هذا الوقت في فرنسا. حكي لي
نيلسون أيضا أن الكتاب الوحيد الذي كان قد قرأه لهذه السيدة الشهيرة هو
الوحيد الذي تجرجم الي الإنجليزية في هذا الوقت: أخلاق الإلتباس وأضاف
قراءة هذا الكتاب مثل مضغ الكرتون. لو فهمت معناه أرسل لي كارتا بريديا .
كان نيلسون يمزح كعادته. من المهم أن توضحوا للقراء النسويين أن ألجرين كان
من أوائل من دافعوا عن حقوق النساء. هنا، في نفس هده الشقة الخالية من
مكان الإستحمام أرته سيمون ملاحظاتها الأولي الخاصة ب الجنس الآخر . وكان
نقد نيلسون الوحيد أنها تجاهلت بالفعل النساء الأمريكيات الجريئات اللاتي
التحقن مبكرا جدا بالمعركة. ويعود آش لقصة الصورة: وجدت نفسي هنا، أنا
المصور المتدرب في مجلة لايف، وعندما رأيت سيمون و هي تظهر في حجرة
الأستحمام ترتب شعرها أمام المرآة. أخذت علي الفور لقطتين أو ثلاثة و تناهي
الي سمعها صوت الكاميرا. و قالت : أنت صبي حقير ، لكنها مع ذلك لم تغلق
الباب و لم تطلب مني التوقف عن التقاط الصور...اللقطة التي نشرتموها من
أفضل صوري (...) تحدثت مع نيلسون بشأن الصور لكن يبدو أنه كان مهتما أكثر
بمعرفة ما إذا كانت قد حاولت إغوائي أم لا.
لم تعضب إذن السيدة دي
بوفوار مما أقترفه آش الذي أكد لصحيفة اللوموند أن سيمون عندما تأكدت من
التقاطه تلك الصور، ضحكت. هي التي حذره عشيقها نيلسون من كونها تحب الشباب
من الرجال. و قد سعي الرجل الذي رأي سيمون عارية في أخذ موافقة منها علي
نشر الصور..لكنها كانت قد ماتت. رحلت هي و بقيت الصور.
رسالة عاطفية عابرة للأطلنطي
مرفت عمارة
المرة الأولي التي تقابلت فيها سيمون دي بوفوار مع الكاتب الأمريكي
بيلسون الجرين (1909 -1981) كانت سنه 1947 ، و بالرغم من اختلافهما الثقافي
و الفلسفي ، إلا أن عاطفة عابرة للأطلنطي إشتعلت بينهما واستمرت لأكثر من
سبعة عشر عاما ، و تلك الرسالة كتبتها الي المحبوب الغالي رجل شيكاغو كما
تطلق عليه ، هي جزء من أرشيف جمعته جامعة أوهايو ، كتبتها يوم غادرت الي
باريس بعد لقائهما الأول في أمريكا
محبوبي الغالي رجل شيكاغو :
مازلت حيا في ذاكرتي وأنا هنا بباريس ،
وفي باريس أفتقدك و أحن اليك، الرحلة كلها كانت رائعة ، منذ اتجهنا شرقا لم
نحظ بليلة كاملة ،فبينما كانت الشمس في نيو فاوندلاند علي وشك الغروب ،
أشرقت بعد خمس ساعات في شانون علي مشهد طبيعي إيرلندي خلاٌب ،كان كل شئ
يبدوجميلا ، بينما يشغل تفكيري الكثير ، حتي انني نمت بصعوبة ، وفي العاشرة
صباحا (السادسة عندك) كنت في قلب باريس ، تمنيت أن يخلصني جمال باريس من
تعاستي ، لكن لم يحدث ،مبدئيا باريس ، لم تكن باريس الجميلة ، كانت رمادية
غائمة ، إنه يوم الأحد ، و الشوارع خالية، كل شئ يبدو باهتا ، عابسا ، ميتا
، ربما قلبي هو الذي مات في باريس - فلا يزال هناك بنيويورك ،قابعا في ركن
من برودواي حيث افترقنا، لقد أصبحت شيكاغو ملاذي، ومكمني الدافئ قرب قلبك
الحاني ، أعتقد الوضع سيختلف قليلا في غضون يومين أو ثلاثة ،فلابد من عودتي
للحياة الثقافية و السياسية الفرنسية ، إلي عملي و أصدقائي ، لكني اليوم
لا أرغب حتي مجرد الاكتراث ، أشعر بحالة من الكسل و التعب ، أصبحت غير
قادرة سوي علي التمتع بالذكريات ، محبوبي ، كل ما أبحث عنه هو اليقين ،
وليس مجرد البوح بكلمات بسيطة جوفاء ، لكن يبدو أن الحب اشتعل منذ اللحظة
الأولي، علي أي حال، لقد أصبح موجودا ، قلبي الملتاع يتألم شوقا، أشعر
بالرضا لافتقادي السعادة ، لعلمي إفتقادك لها، أيضا ، من الجميل أن يصيبني
شئ من حزنك، نسعد معا بالحب، ونشقي الآن أيضا بالحب ، فلا بد أن نتعرف علي
كل حالات الحب، حتي نشعر بمتعة اللقاء ، الرغبة، الشوق، ثم نيل المراد،
تنتظرني و أنتظرك، و أحبك أكثر مما أبوح لك به ، ربما أكثر مما تعتقد
،سأكتب لك كثيرا ، وعليك أن تكتب لي أكثر، فأنا زوجتك إلي الأبد.
المخلصة
سيمون الأحد 18 مايو 1947
مراحل حياة
دفاتر الشباب
ايمن عبدالهادي
مارس المقبل تنشر دار جراسيه لأول مرة دفاتر الشباب التي كتبتها سيمون
دو بوفوار في مستهل حياتها الفكرية..عندما كانت تدرس في السوربون وتحضر
دروسا في سانت ماري نيولي وفي المعهد الكاثوليكي، وكانت تتحدي نفسها في
تحصيل العلم حتي أنها استطاعت حيازة درجة الليسانس في الفلسفة والأدب
الكلاسيكي في الوقت ذاته. في المقطعين اللذين ننشر ترجمتهما هنا ترد أسماء
كثيرة منها اسم أعز صديقاتها ظاظا وابن عمها جاك التي كانت تحبه حبا عنيدا
وخياليا، الآنسة بلومار التي عملت معها في فريق الدراسات الاجتماعية الذي
أشرف عليه العالم روبير جاريك. ترد كذلك أسماء الفيلسوفين موريس
مارلو-بونتي و جونديلاك و غيرهما من الكتاب و المفكرين.
في تلك الدفاتر
تتجلي رغبة دوبوفوار العارمة في التعرف علي الحياة الحقيقية حيث شهدت عرض
الأوروبي الموسيقي في قلب أجواء التحرر التي تعكسها المسارح الشعبية بعيدا
عن منطق حياة العلم و الفكر التي انغمست فيها بإخلاص: كانت لحظة حاسمة سارت
فيها نحو الانعتاق الكامل محطمة لقيود دراستها و بيئتها علي حد قول سيلفي
لو بون دي بوفوار التي قدمت للدفاتر المنشورة في مجازين ليتيرير .
السبت 30 أبريل 1927آه، أحب نفسي و أحب
حياتي.انتهيت من قراءة الصفحات المكتوبة في هذا الدفتر: والمتصلة بالتأملات
التي قمت بها عن ذاتي في تلك الأيام و قد أحدث هذا نشوة رائعة.
كيف يقال كل شئ؟
الخميس، تناقشت في مجموعة الفلسفة مع طلبة متواضعين لكنهم علي قدر من
الأهمية. بالأمس تناولتا الآنسة بلومار و ظاظا معي وجبة خفيفة و تحدثنا معا
طويلا. أدرت مع بوبات حديثين ركزت فيهما علي نفسي. الحاصل أن الشمس توهجت
في هذين اليومين ودراسة اليونانية تلهيني. قوتي 1 لكي أفتخر بها يلزمني زهو
مفعم الحماسة لنهر:بالأمس، أمام باب المكتبة، نظرت الي ساحة السوربون و
اكتشفتها كما قال كوكتو في سر المهنة أننا نكتشف فجأة الأشياء المعتادة
جدا: بدا الطلبة الذين يسيرون في النور و قد صغتهم بروحي، شعرت أن الحياة
تجتاحني عن أخري: ذكريات الكتب لوحات محبوبة جاءتني أفواجا كثيرة. بالأمس
أيضا عندما ذهبت للنوم: إنها أنا، أنا التي في مركز تلك الحياة هناك: لكن
بلا جدوي، الكلمات لا تفضي الي تلك الحقيقة.
الحياة جميلة في كل اللوحات
الحسنة التي رسمها البشر، الكتب الرائعة التي كتبوها، بالفكر والأنظمة
التي صنعوها، جميلة بالكائنات الذكية والحساسة التي تعيش فيها، بشمس الأيام
الدافئة، بطراوة الصباحات الرمادية قليلا، جميلة بالرفقة السريعة
وبالصداقات الأكثر عمقا. هي جميلة بكل ثرائي 1 أنا غاية في الثراء1 فتاة
صغيرة من درس الرغبة لا ترتاب في ذلك كله، أتكفيكي ثمانية عشر شهرا بالفعل
لمثل تلك الاكتشافات؟ كثير من الأبيات تنشد في رأسي1 كثير من اللوحات تملأ
عيني، كثير من العلم في عقلي، وفي قلبي كثير من الكائنات سعيدة أنا
بمعرفتها1 ثم أنا، أنا...
غريب أن أفكر، لكن بعد كثير من الأمور
المنفرة، و بيقين العثور عليها ثانية بالغد، أليس من حقي أن أجد نفسي سعيدة
هكذا؟ دون انفعال، لكن مع ذلك اليقين الصادق بذاتي التي تعلمت أن أتعرف
عليها العام المنصرم. أحببت أن أكون جد مشبوبة العاطفة، ألا يمر علي شئ
أبدا دون أن يأخذني إلي الحب وإلي الحياة ، و خصوصا أن أكون ذكية للغاية1
هذا، أعرف امتلاكي إياه. ليس بوسعي الإقتراب من أحد دون أن أجد في نفسي
سرعة كبيرة علي فهمه، علي استخلاص علاقات عميقة و غير متوقعة: عند جاك فقط
أجد نفس السرعة.
هذا فقط1 كوكتو أحسن القول لا تكن كثير الذكاء ،
والآنسة بلومار وبوبات غمراني بالأمس في بحر من التأملات. ثمة كائنات
أقدرها و أحبها. جاريك، دوفونتان، اللذان أعرفهما قليلا لكن أتصور، وكل
الذين يشبهونهما، الآنسة بلومار نفسها، أنهم قلقون، لكنهم يمتلكون علي
الأقل بعض قناعات يتعلقون بها: شيدوا حيواتهم عليها: وعلي ذلك المستوي صلب
التأسيس، لم يعد أمامهم إلا ترك حياتهم تتفتح... شعرت عند استيقاظي منذ
قليل كم أحتاج في مثل هذه الصباحات الرمادية للنهوض بسرعة والسير، هادئة،
نشيطة، صوب مهمة وديعة أعتقدها مفيدة و يتوقف الأمر فقط علي إنجازها بنجاح.
أصبح شعلة...أفعل الخير...أتفاني...
عندما كلمتني عن برك، عن كتابه،
شعرت بخجلي من افتقاد القناعات: من عدم حسم كيفية الحياة، أن أكون محبة
لذاتي، حب الذات الجذري الذي يمكن تمييزه فقط عبر ما أقدمه إلي من أحب أو
إلي نفسي مباشرة. نعم، عانيت مساء أمس من كوني لست مثلهم في شئ مماهم عليه،
والذي يتعين أن أكونه، ربما. و في ذات الوقت، قلت لنفسي، ما الجدوي؟ ما
الجدوي؟ في حقيقة الأمر أنا في موقف متناقض: أشعر بذكائي، و أي قوة ايجابية
يمكن أن تتوفر في ذلك: أحب أن أفعل شيئا ما، و أفكر كثيرا جدا في باربيه و
باروزي ، ولأنني أحب مثلهم الهيام بعمل فلسفي: أشعر بالقدرة علي إنجازه
علي أحسن وجه. أحس أيضا بإرادتي، قوتي علي الفعل، و أحب أن أنهمك كلية في
عمل أؤمن به: عمل شئ ما يمثل لي سعادة تفوق أهمية بكثير العمل الذي أعلم
أنني قادرة علي فعله بشكل جيد جدا. فقط،هذه المزايا عينها التي يجرغب نفعها
تجظهر لي أي وهم إدعاء النفع في شئ. أهو تأثير جاك أم أن هذه هي ذاتي
الحقيقة؟ هل لو كنت قد أحببت جاريك أو باربييه كنت سأبلغ توازنا مثاليا؟ أم
أن تلك الروح النقدية كانت ستستيقظ رغم ذلك؟ أولا يتعين الفعل، وعند ذلك
لن يكون علي أبدا أن أطرح علي نفسي سؤالا: ولماذا الفعل؟
الاثنين 8 أبريل 1929 انتهت الاجازة. و في الصباح
في المعهد الكاثوليكي، تملكني وهم أنه بدراسة ليبنيز و لوك ستكون يسيرة
نهاية عام يخضع في النهاية لقاعدة التسابق. الساعة الثانية في السوربون
التقيت مرة أخري مارلو- بونتي، ذهبنا الي لوكسمبورج المضئ، تحدثنا عن جرين ،
مورياك ، بارييس . حلاوة رؤيته ثانية و البقاء الي الآن علي هذه الشرفة،
بكل بساطة. لكن بعد محاضرة لالاند و الكلمتين اللتين قالهما لي جونديلاك عن
دافوس ، تبينت رفضي إخفاء لحظة مغايرة. رافقت الآنسة ريشار عبر
اللوكسمبورج، ثم شارع بور روايال إلي حيث تقطن. و صعدت . شاي، عتمة، وجه
حزين أخفت الظلمة تجاعيده: قلب مبهور لا يحاول النهوض، ينحني تحت وطاة
مأساة شبابه الوحيد. حدثتني عن باربييه التي كانت مرتبطة به جدا (...) ثم
روت حكايات مأساوية الي حد ما: أضاءت السينما أمامنا، سيارات تمر. فتاة
شابة تبلغ 20 عاما تموت برصاصة أطلقتها، فتاة شابة هائمة ووحيدة، ضحية
إمرأة، ضحية رجل، وحيدة. رومانسية. خطفت في العذوبة المعتمة للمساء مزق من
هذه الرومانسية المتفسخة: وخضعت لهذا الشئ الضار ، وجع اجتاحني. مساء غريب.
(و كيف يمكن إعادة قول ذلك في هذا الصفاء المزرق و الهادئ للظهيرة؟)...
كليشي ، مغنية قاسية القلب، مكان في البلكون بأربعة فرنكات، وسط أزواج
حاسري الرأس يتعانقون- فتاة شاحبة، شنيعة، في آخر الصف، ربة عائلة وجهها
رصين يرافقها طفلان شقراوان فاتنان، امرأة شابة صهباء، جميلة، ترتدي صدارا
ورديا في أبيض بثنيات خفيفة. و نشاهد بالأسفل في الرواق سيدة و بعض الرجال
في وضع مميز. أغنيات تتعاقب، فظة، حسية أو غريبة، كلمات، تحيات، صفير يأتي
من المسرح الي الجمهور. نظرت الي نفسي بكل الدهشة كوني هنا. أي تجاذب خفي
يجمعني برباط غاية في القوة، غاية في القوة بهذه الحياة الشعبية- ليس فقط
الشعبية، المبتذلة، كل شئ ينتهي الي اللذة، علي عكس العقل. العثور ثانية في
ذاتي، لأنها توجد فيها، علي الروح المضطربة للفتاة التي غمرها الشعر
الأسود الذي يحيط بوجه المغني الباهت في انفعال من دون كلام. العثور ثانية
علي جبن قلب وحيد، هش،مشبع بالحنين الي الصف الأخير، يبحث في كل ابتسامة
رجل عن نداء صوب العبودية. أسأل نفسي عما يمكن أن يخفيه كل من هذه الأقنعة
من الاستغناء، من الحمق، و ربما في تفاهة أكبر، من مذاق مر للحياة. لن يكون
بوسعي أن أعرف أبدا...
بين كل هذه الكائنات ونفسي، تجوجد معاناة
تجسلمهم لي عبر تسليمي اليهم. آه، الموسيقي، شاي تانجو، ابنة البدوي ...وفي
شارع كليشي و شارع بارباس، لماذا هذا الحب من رجال غلاظ حياتهم خطرة، من
صبي جميل جدا ضعيف بسيجارة مزدرية ،من فتاة لجصقت في زاوية الشارع، من التي
تنتظر في بار مشبوه مغامرة ليست إلا قوت يومها، لماذا، بدلا من الرعب و
التجاهل، هذا الإحساس الذي ليس حتي فضول، لكن رغبة...
رغبة من تقول
بالقرب من لوحة المترو: 48 ساعة لا يهمني، لقد قمت بادائها، أحسنت قول ذلك،
لتحذروا، إنها كبسة العاشرة... إنها بساطة قاسية لهذة الحيوات، غلظة
السعادة و الشقاء يجذباني فيما أظن، مع هذا القناع المجفرض الذي لا يخدع،
الذي يتناقض مكره مع الحياة غير الماكرة التي يجخبئها. لا أعلم أي رغبة
مخيفة ربما تكمن في ذاتي حاضرة دوما، ثقيلة، من الصخب، النضال، من التوحش، و
فوق كل ذلك من الانسياخ...ما الذي لا يزال يلزمني اليوم حتي أصبح انا أيضا
مدمنة للمورفين أوربما كحولية فقط، جوع يفوق كل ما يمكن أن أخبره. وجود
يدافع بؤسهم عنه جيدا.
كم من الساعات عشتها مع خشية واحدة أن يحمر
(وجهي) علي الملأ، لكن ليس اليوم في عرض الأوروبي ، في قاعة الإيكول نورمال
، استحسنتها نفسي بحماس. فقط كنت أعاني من التفكير: أنا مزدوجة، أنا
منافقة، أنا محبوبة بسبب المظهر النبيل الذي لست أكونه. إخترق قلبي تفكير
موريس) مارلو - بونتي (لكن أوجود صديقته يعد أقل لأنه توجد أيضا من لا
يعرفها؟ لا يمكن أن أجختزل فيه. لست جونديلاك و حكمته، أريد الحياة، كل
الحياة.
أي كتاب هنا لأخطه، لكن بطلته تختلف عني حتي أنها لن تفكر في
وضع كتاب، و أمس بالفعل لم تكن ذكري أن أجهز نفسي، لكنني كنت مأخوذة و لم
أكن إلا حيوانا أكثر تعقيدا، منغلقا في حزن جسدي للحاضر فقط.
عودة غريبة
في المترو حيث تتناقش فوضوية شابة وسط مجموعة، جميلة بقبعتها الضخمة،
صدارها، ربطة عنقها. كان للرجال شعرا طويلا، ووجوه متحررة حقا.
لكن كان
مستحيلا استخلاص كآبة حقيقية من كل ذلك. مستحيل أن أشعر بذوباني في التنوع،
لأني أعلم أن هذا التنوع مفهوم و مفضل كلية، و لو لم أرو كل ذلك، سيكون
ذلك لأنني كنت سأتبسط جدا و ليس خوفا. و مع ذلك، تعرف هذا الجنون بداخلي، و
الذي قد يصير عذابا مهلكا لو امتلكت بترك نفسي له فكرة تسميته مهلكا و
الشعور بالندم علي هذا الخطر المرغوب فيه جدا الذي سأتجشمه: الذهاب الي
أقصي ما أجده من سوء في نفسي لمعرفة ما إذا كنت سأنفر منه.
مع سارتر
الجنس الثاني
أسطورة المرأة
مصطفي محمود
صدر الجنس الثاني أصلا في جزءين بفرنسا. وسرعان ما صدر في أمريكا بعنوان
الجنس الثاني وهو الاسم الذي اشتهرت به، بسبب سرعة الترجمة، حيث أن
المترجم كانت معرفته محدودة باللغة الفرنسية وبالفهم الفلسفي (فقد كان
أستاذا في البيولوجيا)، وأساء ترجمة معظم أجزاء كتاب بوفوار، أو حذف أجزاء
منه أو شوه رسالتها المقصودة. وتوقعت بوفوار توجيه الاتهامات للجنسية
للنسوية، فقد صب النقاد في أمريكا جام غضبهم علي الطريقة الصريحة التي وصفت
بها بوفوار تجاربها الجنسية في أمريكا في رواية ماندرينز ، وفي سيرتها
الذاتية. وتجادل بوفوار، في مقالتها النساء: الأسطورة والحقيقة بأن الرجال
قد جعلوا من النساء الآخر في المجتمع عن طريق إضفاء الإحساس ب الغموض
عليهن. وقالت إن الرجال قد استخدموا هذا كمبرر لكي لا يفهموا النساء أو
مشاكلهن، ولكي لا يساعدونهن. وجادلت بأن هذا النمط كان مطبقا في مجتمعات من
مجموعة أعلي في الهيكل الاجتماعي علي المجموعة الأدني في الترتيب الهرمي،
لكي تصبح هذه المجموعة هي الآخر ، وتكتسب وتشيع حولها جوا من الغموض. وقالت
إن هذا قد حدث أيضا مع أشياء أخري، مثل العرق والطبقة والدين. لكنها قالت
إن هذا يحدث أكثر ما يحدث في الجنس، حيث يضع الرجال النساء في نموذج
يستخدمونه كتبرير لتنظيم المجتمع علي الصورة البطريركية. وقد فتح الجنس
الثاني المجال لانطلاق الوجودية النسوية التي تحدد وصفة الثورة الأخلاقية.
وطالما أن بوفوار الوجودية تقبل بحكم الوجود يسبق الماهية : إذن المرء لا
يولد امرأة، بل يصبح امرأة. وهنا يركز التحليل علي مفهوم الآخر . إنه تركيب
(اجتماعي) للمرأة كمثال ل الآخر الذي تجعّرِفه بوفوار علي أنه الأساس في
قمع النساء.
وتجادل بوفوار بأن النساء قد أعتجبِرن تاريخيا منحرفات
وشاذات عما هو عليه الإنسان الطبيعي. فهي تطرح أنه حتي ماري وولستونكرافت
تعتبر الرجال هم المثل الذي ينبغي علي النساء أن يتطلعن إليه. وتقول بوفوار
إن هذا الموقف قد حد من تقدم النساء عن طريق المحافظة علي إدراكهن لأنفسهن
كمنحرفات عن الطبيعي ودخيلات يحاولن محاكاة الطبيعية . وإنه من أجل أن
تتقدم النساء ينبغي إزاحة هذه الفرضية. وتؤكد بوفوار علي أن النساء قادرات
علي الاختيار مثل الرجال، وبالتالي فهن قادرات علي اختيار أن يرتقين
بأنفسهن ويتخطين الحواجز التي أعاقتهن في السابق، ويصلن إلي التجاوز ، وهو
الموقف الذي يضطلع المرء فيه بمسئولية عن نفسه والعالم: حيث يختار المرء
الحرية...هنا قراءة للكتاب الهام.
يعتبر كتاب الجنس الثاني الصادر سنة 1949 هو واحد من أفضل الكتب
للوجودية الفرنسية سيمون دي بوفوار. إنه عمل يتعلق بمعاملة النساء علي مر
التاريخ. ويعتبر العمل النسوي الرئيس. ويجادل بأن المرأة قد عجرِفت عبر
التاريخ علي أنها الجنس الآخر . ويعني هذا الانحراف عن الجنس الذكوري
الطبيعي . وقد كتبت بوفوار هذا الكتاب بعد محاولتها أن تكتب عن نفسها.
في
البداية، وصفت كيف أنها كانت امرأة، لكنها تأكدت أنها تحتاج إلي أن تعرف
ما هي المرأة، وهذا ما أصبح القصد من كتابها. إن المعادلة التي صاغتها
بوفوار بأن المرأة لا تولد هكذا بل إنها تصير امرأة هي ما يميز مصطلحي
الجنس و الجندر (النوع). ويزودنا كتاب الجنس الثاني بالفهم العميق للجندر.
في
البداية تحدد بوفوار مواقفها الفلسفية في قضية النساء. فهي تجادل أولا
بأنه لا توجد طبيعة إنسانية محددة، بل إن الرجال هم من وضعوا النساء في
مرتبة الآخر التابعة نسبيا. وتشرح بعد ذلك باختصار لماذا استسلمت المرأة
لهذا التصنيف وكيف أن الرجال قد برٌّروه واستفادوا منه. وتقول في النهاية
إنها تريد أن توضح موقف النساء وما الذي يحمله المستقبل لهن. وتصف منظور
الوجودية في هذه المسائل، وتشدد علي أن المرأة ينبغي أن تكون حرة وتتجاوز
نفسها كتابعة، بدلا من أن تحصر نفسها في الآخر الملازم لها.
ويحتاج
الأمر إلي توضيح بعض المصطلحات الأساسية لإزالة اللبس بين النسائية و
النسوية . إن العلوم البيولوجية والاجتماعية قد استبعدت فكرة الجوهر أو
الماهية الثابتة مثل النسوية ، إلا أن مفهوم المرأة كمقابل ل الرجل ليس
مفهوما مفرغا، لأن النساء يوجدن ويتخذن وضعا محددا في العالم، لكن هذا
الوضع يتحدد ويجقيٌم من خلال علاقتهن بالرجال. فالرجل هو المطلق أو
الإيجابي، والمرأة نسبية أو سلبية. الرجل هو مركز الأشياء. والمرأة تابعة،
فالمرأة هي الآخر ، ويظهر بالدليل الأنثروبولوجي أن التبدل هو النوعية
الأساسية في الفكر الإنساني. وإن الموضوعية الإنسانية يمكن أن تؤكد نفسها
فقط في مقابل شيء آخر يتصف بكونه شيئا غير أساسي و آخر .
لكن
التأكيد المتبادل لطرف علي الآخر لابد من الإقرار به. ولذلك فلابد وأن
النساء قد فشلن في منافسة امتياز الرجال ولابد أنهن قد خضعن له. لكن النساء
لسن أقلية، وليست تبعيتهن نتيجة لحدث أو عملية تاريخية، ومن ثّمٌّ فهن لا
يشكلن مجموعة متماسكة. ومازالت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للنساء
متدنية بالنسبة للرجال، لكن الإغراء بالسماح للرجال بالاستمرار في الاضطلاع
بالمسئولية هو إغراء كبير. باختصار، النساء لم يؤكدن أنفسهن لأن الطرق
التي يتعين أن يفعلن بها هذا محرمة عليهن لأنهن لم يحاولن استغلال اعتماد
الرجال عليهن، فهن مقتنعات بأن يلعبن دورا ثانويا. إلا أن هذا لا يفسر كيف
حصل الرجال علي الهيمنة في المقام الأول. إن التبريرات بأن الرجال قد
تقدموا علي كل الفترات التاريخية هي تبريرات مشكوك فيها، لكنها تجطرح
ببساطة للحصول علي امتيازات. وهم في الغالب نصف مخلصين في وجهات نظرهم،
لأنه ليست لهم خبرة أولية لما يمكن أن تصل إليه التفرقة ضد النساء. وكذلك
فإن محاورات النساء تصب في صالح هذه النقطة. إذن ينبغي إسقاط السؤال كليا
حول ما إذا كانت النساء أعلي أو أدني مرتبة من الرجال.
إن المنظور سوف
يكون هو الأخلاق الوجودية التي تنطوي علي أن التبرير الوحيد للوجود هو
النضال الفردي من أجل التجاوز من خلال مشروعات الاختيار الحر، والتقدم
بثبات نحو المستقبل المفتوح تجاه الوجود الإنساني الحر. فالحرية والوجود
يتراجعان حينما ينحل التجاوز إلي حلول ، بمعني حين ينغلق المستقبل أمام
الفردي وتتناقص احتمالات التطور والتمدد. إن فرض الحلول من الخارج هو الذي
يشكل القهر والقمع، وعلي ذلك فإن أية موافقة أو قبول فردي ب الحلول هو خطأ
أخلاقي فادح.
إن موقف النساء يتميز بحقيقة أنه بالرغم من طبيعتهن
الأساسية كخاضعات يسعين إلي التجاوز ، فهن حقا يجشجعن ويجضغط عليهن من أجل
أن يعتبرن أنفسهن مثل الآخر ، أو كموضوعات مدانة ب الحلول من الذكورة
المتجاوزة. ويشرح الكتاب كيف يمكن للنساء أن يتطورن ككائنات مستقلة في هذه
الظروف، وما هي الفرص التي لديهن من أجل تحقيق حريتهن.
ويمكن أيضا طرح
هذه الأسئلة فقط علي فرضية أن النساء لسن محددات المصير أو مقررات سلفا من
الناحية الفسيولوجية والسيكولوجية أو بأي عوامل اقتصادية. إن العمل الأول
من أجل هذا هو أن نختبر وجهات النظر البيولوجية والتحليلية السيكولوجية
والماركسية عن النساء.
إن بوفوار تحتاج في الجزء الأول بعنوان
المصير ، كما شرحت هي نفسها، إلي أن تؤسس سلبيا أن النساء ليس لديهن مصير
محدد سلفا، سواء فسيولوجيا أو سيكولوجيا أو اقتصاديا. وفي القسم الثاني،
التاريخ ، توضح كيف تطور موقف النساء إلي حالته الراهنة عبر القرون قبل
المضي إلي القسم الثالث الأسطورة لتبحث ما الذي يكمن خلف التاريخ بالنظر
علي تخيلات الرجال وتصوراتهم عن النساء، وبعض النتائج المترتبة علي الفروق
بين هذه التخيلات والواقع. فنحن نتذكر جيدا أنه مهما كان نقد بوفوار
للأسطورة التي صنعها الرجال في العلاقة مع النساء فهو النقد الذي أثبتته
علي وجه الخصوص دراسات قام بها مؤلفون ذكور. ويتضمن المجلد الأول الجزء
الثالث النظر علي النساء من خلال عيون الرجال.
تقول بوفوار تحت مسمي
البيانات البيولوجية ، إن كلمة أنثي لها دلالة سلبية تحقيرية عند الرجال.
إن التفرقة الجسدية واقع ملموس، ولا تحمل أولوية في الأنطولوجية الوجودية.
فالفروق الفسيولوجية لا ترتبط بالفروق في القدرات العقلية، ولا يعني الضعف
العضلي للمرأة أن قدراتها محدودة بالنسبة للرجال، لكن له علاقة مهمة بما
يفعله البشر. وهو لا يفسر في حد ذاته لماذا تكون المرأة هي الآخر. فنحن
نحتاج إلي أن نعرف ما الذي فعلته البشرية في الأنثي الإنسانية.
وتناقش
بوفوار وجهة نظر التحليل النفسي وتنتقد وجهات نظر فرويد وأدلر عن النساء
قبل أن تقيم وجهة نظر التحليل النفسي علي وجه العموم، ثم تحدد وجهة نظرها
في سيكولوجية النساء. ويري فرويد أن تطور الشهوة الجنسية للنساء أمر أكثر
تعقيدا من الرجال نظرا لأنها تحتوي علي مرحلة تناسلية إضافية. لذلك فالنساء
عرضة للاضطراب العصبي أكثر من الرجال. وتري بوفوار أنه علي النساء أن
يخترن قيمهن في عالم له هيكل اقتصادي واجتماعي يحتوي بالفعل علي قيمه.
وتبحث
بوفوار وجهة نظر المادية التاريخية ، فتناقش نظرية إنجلز، وتنتقد مبادئ
المادية التاريخية قبل أن تجمع خيوط مناقشتها. إن إنجلز يري أن تقدم المرأة
سوف يتحقق حينما تشارك في العملية الإنتاجية، بينما تري بوفوار أن موقف
النساء المميز ليس مسألة اقتصادية، وينبغي أن يجعترف به حتي لو كان لها
حقوق متساوية. إن البنية التحتية الوجودية ترتكز علي كل من البعدين العقلي
والاقتصادي للحياة الإنسانية. ويبين التحليل النفسي أهمية التجسد الشخصي
والماركسية الخاصة بالعوامل المادية والتقنية، لكن أي منهما لا يستطيع أن
يفسر كل شيء لأن كليهما مجرد خصائص للواقع الإنساني ككل. فالبيولوجيا
والحياة العقلية والعوامل الاقتصادية تكمن في سياق الفهم الإنساني للحياة
ككل، وهي الطريقة التي تجقيم بها هذه العناصر اعتمادا علي مشروع أساسي فردي
للتجاوز أو السمو.
وفي الجزء الثاني بعنوان التاريخ ، تلخص بوفوار
نشأة الهيمنة الذكورية فيما بين البدو في عصور ما قبل التاريخ. فوحدها
الفلسفة الوجودية هي التي تعطي شرحا وافيا لكيفية تأسيس الترتيب الجنسي
الذي تأسس منذ ما قبل التاريخ بناء علي الدور الإنتاجي للذكور. ونظرا إلي
أن الرجال يخاطرون بحياتهم فقد أظهر الرجال بأن هناك قيما أهم من البقاء
علي قيد الحياة، فخلقوا قيما أخري.
وتحت عنوان الحارثات الأوائل للتربة
، تستعرض بوفوار موقف النساء منذ زمن المجتمعات الزراعية المبكرة حتي زمن
العالم القديم، لتتحري عن مرحلتين أساسيتين. ففي مرحلة المجتمع الزراعي
الأول نشأت الملكية وتكونت المؤسسات لتجشّرِع للتفرقة الجنسية لأول مرة.
واكتسبت المرأة مكانة متميزة بسبب الحمل والولادة، وتساوت قوتها مع خصوبة
الأرض. وكانت لها أدوار في البيت والزراعة وحتي الاقتصاد. واحترم الرجال
المرأة كما فعلوا مع الطبيعة نفسها. لكن النساء كن مازلن يجعتبرن الآخر.
فلم تكن هناك مساواة وكانت القوي السياسية في يد الرجل دائما. أما الزواج
فهو شأن يجدبره الرجال لتنظيم العلاقات الاقتصادية بين المجموعات التي
يحكمها الرجال. وتقلصت مكانة النساء حينما أصبح الرجل هو صانع الأدوات في
العصر البرونزي. وبدأ في قهر الطبيعة. لقد كان الرجل يعبر عن مخاوفه من
الطبيعة بعبادة المرأة، أما الآن فقد انتقلت الآلهة من الأرض إلي السماء.
وبدأت الآلهة تتحول من النساء إلي الرجال. وفقدت النساء دورها الاقتصادي.
وحول الزوج سلطته من العبيد إلي النساء. وأصبح المواليد ينسبون إلي الرجل
لا إلي المرأة. وصارت المرأة مرادفا للشر. ومع ذلك ظل الرجل يقر أنه لا غني
له عن المرأة.
وتشرح بوفوار في الأزمان البطريركية والعصور القديمة الكلاسيكية، طبيعة
تبعية النساء في المجتمعات البطريركية ثم تمضي لتصف الأشكال التي اتخذتها
تبعية النساء في العالم القديم. إن تاريخ النساء مرتبط بالملكية الخاصة.
وأدرك الرجل الحاجة إلي أن يمرر الميراث من الأب إلي الأبن، وبالتالي
انتقلت ملكية المرأة من الأب إلي الزوج. وكانت المرأة تلقي أبشع العقوبات
علي الزنا بينما يجسمح بتعدد الزوجات للرجال. وعندما وجد بعض الرجال أن
الزواج عبء علي الرجل لأن المرأة تتمتع ببعض السلطة في البيت، أوجدوا
الدعارة كمشروع تجاري طورته بعض الشعائر المقدسة.
وتطرح بوفوار في من
العصور الوسطي إلي القرن الثامن عشر في فرنسا دراسة عن الوضع الاجتماعي
للنساء منذ الأزمان المسيحية المبكرة حتي القرن الثامن عشر، مع وقفة في
النص تخص القرن السادس عشر كحدث بارز، حيث تعقد مقارنات غير واضحة لفروق
معينة من بلد إلي آخر. وتعود بوفوار في النهاية إلي عرض بعض الكتابات
المميزة عن الفساد خلال تلك الفترة. ولقد اكتسبت النساء في القرن 17 و18
تأثيرا فكريا ملموسا، إلا أنه لم تصل أية امرأة إلي تحقيق ما أنجزه دانتي
أو شكسبير. فالثقافة كانت أبدا هي مجال للنخبة فقط من النساء، ودائما ما
كانت تعترضهن العقبات. ولم تكن لهن استقلالية مادية لتوليد الحرية
الداخلية.
وفي الجزء الثالث عن الأساطير ، تتناول بوفوار في أحلام ومخاوف وأوثان
البحث عن الاحتياجات الميتافيزيقية للرجال، المصدر العميق للأساطير التي
لفقوها عن النساء. والسبب الذي من أجله يسعون إلي النظر علي المرأة علي
أنها الآخر. ثم تمضي بوفوار لتبحث كيف حاول الرجال من وجهة نظرهم تفعيل هذا
التصنيف: في علاقة مواقف الذكر تجاه الطبيعة، وحينما يعتبر الرجال النساء
كشريك أو رفيق. ويتسم هذا التقسيم بخاصية الترتيب الزمني ليضع العلامة
الفارقة في التاريخ الإنساني التي بدأ عندها الرجال يعتبرون النساء كأفراد
أحرار، لكن الخيط الأساسي في المناقشة هو تقدير بوفوار لتغير وتفاعل
الأساطير عن النساء كأمهات وأزواج وكفكرة. وبعد هذا تجادل بأن النساء
الحقيقيات يمكن النظر إليهن ليس علي أنهن يتوافقن مع أساطير الرجال وبذلك
يمثلن كل قيم الرجال وأضدادها.
فالمرأة كأم وزوجة وفكرة، تجسد
الطبيعة. والرجال يتكافئون مع الطبيعة التي هي في الوقت نفسه عدوهم
وحليفهم. ففي الأساطير، النساء يقدمن في العادة علي أنهن العنصر السلبي
الأرض والرجال باعتبارهم العنصر النشط البذور.
إن محاولات الرجل لقهر الطبيعة لا ترضيه من الناحية الأنطولوجية أو
الأخلاقية: سواء لأن الطبيعة عقبة كؤود وتظل غريبة عليه، أو لأنه لا ينجح
في السيطرة عليها إلا من خلال تدميرها. وفي كلتا الحالتين يظل وحيدا. ومن
أجل تحقيق التجاوز ونيل حريته وتأكيدها، يحتاج إلي وجود حضور عقليات أخري
تشبه عقله لكنها منفصلة تماما. إلا أن العقليات الأخري تسعي إلي الهيمنة
عليه تماما، كما يسعي هو للهيمنة عليها. وربما سوف تختفي الأساطير عن
النساء حينما يؤكدن أنفسهن كمخلوقات بشرية. ولكن حتي وقتنا الحالي، تهيمن
هذه الأساطير علي قلوب الرجال وعقولهم. بيد أن النساء لم يخلقن أساطير حول
الرجال، ولم يتخذن ديانة خاصة بهن أو ملكية لهن. إن العالم يتمثل في صورة
واحدة من وجهة نظر الرجل، لكن الرجال يأخذون هذا التمثيل علي أنه حقيقة
مطلقة.
اخبار الأدب
السبت يوليو 31, 2010 7:06 am من طرف نابغة