“يا أهل المروة والعزة والكرامة/ والطيبة والنخوة والشرف والشهامة”، تقول بداية أغنية المسلسل السوري “باب الحارة” الذي يعرض منه هذا العام، خلال شهر رمضان، جزء ثان، أي ثلاثين ساعة درامية أخرى، في شعبية مستمرة ويبدو أنها متصاعدة في العالم العربي، بعد النجاح الجماهيري الذي أصابه المسلسل العام الفائت، وهي شعبية زاحمت مسلسلاً آخر ضارباً هو “الملك فاروق” وأيضاً “ملحمة” (التسمية من المؤلف) أسامة أنور عكاشة الجديدة “المصراوية”، ومسلسلين آخرين تاريخيين هما “الاجتياح” و”رسائل الحب والحرب”.
وإذا كانت المسلسلات الأخرى تعالج قضايا مختلفة بعضها إشكالي مثل سيرة الملك المخلوع فاروق التي تكاد تكون بوجهها الخفي قراءة للناصرية ونقداً لها، أكثر مما هي استحضار لمعاناة ملك أو طرح العلاقة بين الإسلام والغرب و”إظهار الوجه الحضاري للإسلام” كما يدّعي مسلسل “سقف العالم” الذي لم يصب النجاح المنتظر رغم ضخامة إنتاجه، فإن “باب الحارة” يبدو مخلصاً لعنوانه ولكلمات أغنية المطلع فيه، أي “باب الحارة” ومن فيها من “أهل المروة…”. فهو يستمدّ قبوله الجماهيري بالدرجة الأولى من فكرة العرض الزخرفي، عرض حياة الناس الشعبيين المزدحمة بالقيم الجميلة في الحارة العربية (الشامية هنا) في بدايات القرن الفائت، لكنه رغم ذلك لا ينجو من الإسقاطات على الحاضر، ليس من زاوية التعليق عليه أو الإيحاء به أو نقده، بل من زاوية الانقلاب عليه ونقضه كلياً.
{{الأبواب المتقابلة}}
كل شيء في هذه الدراما يقوم وينطلق من الباب ودوره، أكان الباب الفعلي أي ذاك الذي يقف بين الحارة وأهلها وسائر الدنيا ويحميها من المتطفلين واللصوص ومن التحولات العاصفة أيضاً، أم الأبواب الاستعارية الأخرى التي تبدو مستولدة من الباب الأساسي الأكبر.
تنشأ العقدة الدرامية في الجزء الثاني هذا حين يقرّر “العقيد”، وهو لقب “القبضاي” الذي يقوم مقام “الزعيم” بعد مقتل الأخير في ظروف غامضة، بأن يبقي باب الحارة مفتوحاً كحيلة منه للقبض على “الجاسوس” الذي يصول ويجول في الحارة محدثاً فيها الاضطراب والخراب. لكن فتح الباب الكبير ليس بالأمر العابر، إذ يترتّب عليه أن تنفتح جميع الأبواب الصغيرة الأخرى بصورة رمزية. وتنشأ العقدة الدرامية الثانية حين يطلّق “أبو عصام” – الشخصية الأكثر احتراماً في الحارة والذي يسلمه “العقيد” زمام المسؤولية خلال سفره لدعم “ثوار الغوطة” – زوجته أم عصام، مشرّعاً بذلك باب بيته على رياح الخارج، مما يفقده بعض هيبته واحترامه لا بل “حقه” في قيادة الحارة وتسيير شؤونها. وفي حين يفترض بأن يبقى هذا الطلاق سراً بانتظار أن يسترجع أبو عصام زوجته، ولذلك نراه ينام في دكانه ليلاً ويقوم ابنه فجر كل يوم بفتح الباب له، فإن السرّ ينكشف وتقع الفضيحة حين يقوم أحد الأعداء من “حارة أبو النار” بوضع قفل آخر على باب دكان أبي عصام، حارماً إياه من الخروج وفاضحاً بالتالي قصة طلاقه (وكذبه) أمام جميع أهل الحارة.
تتوالى الأبواب: حجاب المرأة (برقعها بالأحرى) التي ينبغي أن تظل مستورة عن الخارج، وهو من أهم أبواب المسلسل بالمعنيين، أي الباب والفصل. الرجل المسكين “أبو بدر” جار أبي عصام الذي يكاد يقتل لأنه كشف (رأى) خطأ أثناء وقوفه على سطح بيته نساء جيرانه وهن حاسرات الرؤوس (ينشأ شجار كبير داخل “البيت الواحد” بين ابني أبي عصام لأن أحدهما رأى زوجة الآخر حاسرة الرأس). أما فضيحة أبي عصام الكبرى فهي حين ينزع نهاراً جهاراً البرقع عن رأسي امرأتين عابرتين في الحارة، ظناً منه أنهما لصان متنكران، وهو ما يحطّ من قيمته وقدره أمام جميع السكان.
كل شيء ينبغي أن يكون في الداخل، بما في ذلك نوافذ البيوت المطلة غالباً على صحن الدار أكثر من إطلالتها على الشارع الخارجي. لكن هذا الداخل، رغم انغلاقه شبه التام، يظلّ سحرياً وجميلاً، لا بل رحباً، إذ أنه يشكّل الملاذ الآمن والدافئ. وتساعد البيوت الشامية القديمة بمساحاتها الواسعة وسقوفها العالية ومياهها الوافرة على تأكيد هذه الصورة السحرية والعيش الهانئ.
وفي حين تمثل المرأة باباً يحمل الرجل مفتاحه وينبغي الانتباه باستمرار إلى إيصاده بشكل محكم، فإن الرجل بدوره يمثل باباً مقابلاً لها مفتاحه هو الكلام الناعم والحيلة والرجاء والتذلل. فبطريقة ما، لا يفتح باب الرجل، سيد القرار المطلق، إلا حين يتأكد من سيطرته المطلقة على باب المرأة. وهي صورة تغازل الخيال الشعبي (الذكوري) العربي الراهن وتشكّل أحد عوامل شعبية هذا المسلسل، فيحبه المشاهدون الرجال بطبيعة الحال لأنه يرسم ويمتدح صورة مشتهاة ومفتقدة نسبياً (وإن كان الدور الذكوري المهيمن لا يزال ممارساً على نطاق واسع)، أما النساء فلا يجدن من حيث الجوهر حيواتهن مختلفة عن حيوات نساء “حارة الضبع”، سوى أن حيوات الأخيرات تبدو أكثر أمناً واستقراراً في ظل رجال صارمين، لكن أخلاقيين مخلصين و”قبضايات” يغارون على نسائهم وعلى مصلحتهن، وإن تطلب ذلك تأديبهن وتوبيخهن باستمرار.
باب النساء هو من أخطر الأبواب. لذا ينبغي الحرص على إقفاله باستمرار، وإلا تسرّبت منه القلاقل والاضطرابات. ورغم أنها صورة مهينة للمرأة، وإن استندت إلى واقع تاريخي وحالي، (الإهانة هي في رسم صورة تمتدح هذا الواقع وتجمّله)، فهي تبقى مقبولة إلى حدّ كبير من قبل مشاهدي اليوم، بحيث تظهر حال النساء إكسسواراً إضافياً من إكسسوارات المنازل الشامية أو نوافير المياه وسط صحن الدار، أي جزءا من ثقافة “الأنتيكا” (العتق) المحببة، وبحيث يبدو كل ما يمكن أن تكون قد تحصلت المرأة عليه من تحرّر ومن تشريع أبواب، أشبه بخسارة تاريخية لا يوازيها إلا ذلك الحنين المستمرّ إلى “القبضاي” و”الزعيم” على المستوى الأهلي والسياسي.
{{البحث عن المرجعية}}
ذلك أن الاضطرابات الكبرى التي تعيشها الحارة ليس سببها النساء فقط، بل غياب “العقيد”، أي المرجعية التي تختزل تقريباً جميع أنواع السلطات داخل الحارة، السياسية والأخلاقية والأمنية والاقتصادية، وفتح الباب الفعلي. وعلاوة على قصص الحارة الشعبية وتفاصيلها البسيطة الدافئة المثيرة للحنين والمحكية بلغة درامية متينة، فإن جاذبية المسلسل بالنسبة للمشاهد العربي المعاصر تكاد تقوم على هذين العنصرين. نحن في هذه الحارة أمام مجتمع يمثل النقيض التام (ظاهرياً) للمجتمعات العربية الراهنة. فهو مجتمع متماسك ومنسجم وقوي، تقاسم الأدوار فيه واضح ومرجعيته محددة، والأهم أنه مغلق تماماً على الخارج. إنه مجتمع ما قبل هبوب رياح الحداثة (الغربية)، مجتمع الانكفاء إلى الداخل، باتجاه قيم “الأصالة” و”الشهامة” واختصاراً “العروبة” و”الإسلام”. مجتمع يحميه باب متين، وزعيم عادل وحكيم، ومنظومة قيم أخلاقية راسخة.
وإذا كان المشاهد العربي الذي يعيش محنة طلاق أبي عصام خلال شهر رمضان قد شعر ببعض الاضطراب والقلق بسبب غياب “العقيد” وانفتاح باب الحارة وتأجج الصراعات داخلها نتيجة لذلك، فإنه يحتمل ذلك بصبر كبير لأنه يعلم، وكما تعده كلمات الأغنية أيضا، أنّ : “النذل بيزرع فتنة بيحصد شر النذالة/ والعدل بيرجع للي عنده حكمة وأصالة”… وهذا الباب المفتوح فعلاً في الواقع العربي الراهن، سرعان ما سيعاود الانغلاق رمزياً في الدراما. وسرعان ما سيأخذ كل ذي حق حقه، فيسود العدل والسلام ويتم طرد المتطفل والأجنبي والانتصار للحق (فلسطين). وبالتالي، حين يقول لك أحدهم إن أكثر ما يعجبه في المسلسل هو “جوّ الحارة الشعبي”، فإنه يضع على الأرجح هذه الحارة المتخيلة كقيمة ماضوية شبه قروية، في مواجهة الحاضر بمدنيته وتشعباته وتناقضاته القاسية، والأهم أنه يضعها بديلاً حلمياً ضدّ الخارج بكافة أشكاله ـ سواء أكان دولة أم فكرة أم ثقافة أم قيماً ـ، ذلك الخارج الذي لا يزال يعتبره عدواً يتربّص به شرا ولا يجد مكاناً لنفسه فيه. وما هذا الإعجاب الراهن الكبير بـ “طقوس” حارة الماضي، رغم كل القيم المتخلفة فيها إلى حدّ فاجع، إلا من قبيل إقامة باب جديد يدفن المشاهد العربي رأسه فيه، فلا يرى ولا يضطر إلى مواجهة جميع الأبواب المقفلة في رأسه، قبل واقعه.