"الألم الرئيسي، الألم الذي هو أشدّ الآلام قوّة قد لا يكون ألم الجروح
بل الألم الذي ينشأ عن يقين المرء من أنه بعد ساعة، ثم بعد عشر دقائق ثم
بعد نصف دقيقة، ثم الآن فورا ستترك روحه جسدها وأنه لن يكون بعد تلك
اللّحظة إنسانا وان هذا مؤكّد".
دستويفسكي، رواية "الأبله".
استثمر الرّوائي الإيطالي الشهير"امبرتو ايكو" عناصر الرواية
البوليسية في روايته الضخمة والمثيرة «اسم الوردة» بحيث بدت في بنيتها
السردية تحقيقا بوليسيا في سلسلة من جرائم القتل تقع في أحد الأديرة في
القرون الوسطى. ومن العناصر المثيرة في هذه الرواية -وقد تحوّلت إلى شريط
سينمائي- أنها سلطت ضوءا جديدا على ذكاء الإنسان ومكره في إخفاء آثار
الجريمة، وهو العنصر الذي يشكّل مصدرا من أهمّ مصادر المتعة والتشويق في
الرواية البوليسية عموما. يمكن قراءة تاريخ الرّواية البوليسية على أنّه،
في وجه من وجوهه، تاريخ التنافس بين كتّابها على الاستمرار في زيادة جرعات
الإثارة داخل لعبة الصراع بين عبقرية المجرم وخبثه الذي يصل أحيانا حدّ
التسلّي بالمحقق من جهة وذكاء المحقّق أو فريق المحققين في الوصول إلى
المجرم الحقيقي والقبض عليه، من جهة أخرى.
توفّر هذه الأعمال الفنّية مادّة مثيرة للجمهور الذي يستهويه أن يشارك
المحقق حيرته وبحثه، ولكن نادرا ما يفكّر مستهلكو هذه المادّة في خلفيتها
الفكرية التي تعكس داخلها جدلا قديما، ما يزال متواصلا في عدد من دول
العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية (البلد الأكثر إنتاجا
للأفلام في العالم) بين المدافعين عن عقوبة الإعدام والرافضين مطلقا لهذه
العقوبة. فالكثير من هذه الأفلام تنبّه في رسالتها الضمنية إلى أنّ الإعدام
عقوبة غير إنسانية تماما، مهما كانت الجريمة المرتكبة، لأنّها مبنيّة
أساسا على حكم حاسم وإطلاقيّ بأنّ المجرم يستحقّ هذه العقوبة، والحال أنّ
عمليات التحقيق والبحث مهما كانت دقتها تظلّ عملا بشريا مجبولا على النسبية
ومعرّضا للخطأ، كما تؤكّد ذلك عديد القضايا، فضلا عن أن جلسات المحاكمة
ذاتها هي في مجال تصرّف البشر، وخاضعة لمنطق النفوذ غير المتساوي، ومثلما
يكون المتهم أحيانا ضحية محقّق متواضع الإمكانيات، فقد يكون أيضا محظوظا
بمحام ذكيّ أحيانا. في كلّ الأحوال يمثّل الإعدام حكما مطلقا ونهائيا، وفي
حال العثور على أدلة تبرّئ من نُفّذ فيه حكم الإعدام، وهو أمر وراد، فلا
شيء يعوّض الحياة المفقودة.
سنة 2006 أفاق العالم العربي/الإسلامي في عيد الأضحى على مشهد
"تلفزيوني" مرّوع، تمثّل في"فيلم" صوّر بهاتف جوّال تفاصيل إعدام الرئيس
العراقي السابق "صدام حسين" شنقا. لم يكن التوقيت اعتباطيا، فثمّة إرادة
واضحة لأن نستحضر باستمرار المشهد مع صبيحة كلّ عيد أضحى وهو ما أفسح
المجال لعودة "مكبوت" تخييلي عنيف، متّصل بعناصر الذبح والدّم والعنف، ما
يزال الشعب العراقي يعاني منه إلى اليوم. سنة 2011 وبعد أشهر من ثورات
نوعية شهدتها تونس ومصر عادت الخطابات الدّاعية لإعدام المتورّطين في وسائل
الإعلام للظهور بقوّة، وهي دعوات ستزيد لا شكّ في تغذية نزعات التشفّي
والانتقام لدى الجموع العطشى لمشاهدة القاتل يقتل أمام الملأ، ولم لا في
وسائل الإعلام وعلى "الفايسبوك"، حتّى تكتمل حفلة الغرائز الهائجة للالتذاذ
الصادي بمشهد الإعدام وبكلّ نوازع وأفكار الاستئصال والاجتثاث التي تنتمي
لمحوره الدّلالي.
تاريخيا يعتبر "الإعدام" مصطلحا حديثا في استخدامه القضائي والقانوني.
فلا أثر له بهذا المعنى في التراث الفقهي القديم. أمّا رديفه عند الفقهاء
فهو بكل بساطة القتل. وثمة أربع جرائم تستوجب القتل في الفقه الإسلامي
القديم (الرّدة عن الدّين والحرابة، أي الخروج عن السلطة بالسيف، أو قطع
الطريق، والقتل للزّاني بالنسبة للمحصّن) وقد وردت جميعها في القرآن
وانفردت السنّة بحكم الرّدة. ويشار إلى أنّه في حالة القتل يخيّر أهل
القتيل بين قتل القاتل أو قبول دية أو العفو عنه.
كان النصّ القرآني قطعيا وصريحا في عقوبة القتل "ولكم في القصاص حياة
يا أولي الألباب" (قرآن كريم) وهو بذلك لا يشذّ عن بيئته الحضارية التي ما
تزال تؤمن بالقصاص قانونا سائدا في مختلف الأديان والثقافات، ولكنّنا نرى
أنّ من يتشبّث بالرؤية الأصولية، غير التاريخية للتشريع الإسلامي لإقرار
عقوبة الإعدام يقبل ضمنيا بأشكال أخرى من العقوبات الجسدية مثل قطع الأيدي
والأرجل والرجم التي كانت سائدة قبل مجيء الإسلام بمئات السنين. أمّا من
يتبنّى رؤية تاريخية تؤمن بالحداثة وبمرجعيات التشريع الوضعيّ التي جعلت
الإنسان مرجع القيم فلا شكّ يرفض هذه العقوبة دون أن يتعارض ذلك مع إسلامه.
لقد عبّرت الثورات العربية في جوهرها عن عودة ثقافة الحياة، ثقافة أعادت
الاعتبار لإنسانية الإنسان وحريته وحقه في حياة أرضية كريمة وآن الأوان لكي
نحسم الأمر ونصرخ من كلّ نقطة من العالم العربي/الإسلامي لا لعقوبة
الإعدام، آن الأوان.