من المكان البعيد الذي أنتَ فيه، يمكنكَ أن ترى كلّ شيء، ولا شيء في الآن نفسه.
يمكنكَ أن تستسلم. أن لا تفكّر. أن تتأمل فحسب. وأن تحلم. كما يمكنكَ أن تسرّح عينيكَ، لا لترى شيئاً في ذاته، أو مكاناً، أو زماناً، أو أشجاراً، أو شمساً تشرينية، أو نسيماً فريداً في النوع والشعور، أو أشخاصاً، بل لتكون رهين الاستسلام الطريّ الشائق الذي لا يبتغي شيئاً، ولا يبحث عن شيء.
يمكنكَ أن تستسلم. أن تغيب. أن تزول. أن تصير نافذةً، أو حوض زهور، أو نهراً، أو مكتبة. أو صفحةً في كتاب لم يُكتَب بعد. وقد لا يوهَب أن يُكتَب.
يمكنكَ أن تستسلم أكثر. فترغب في أن تبقى مستسلماً. بلا هوادة. بلا نهاية. إلى درجة الإحساس بالمطلق. أو بخواء العدم الإيجابي.
العصفور الذي يزوركَ للتوّ، ويحطّ على مقربة، مستلذّاً برؤية المشهد، والمشاركة في أوركسترا الإيقاعات الخفية للمكان، يمكنكَ أن تُشعِره بعمق الألفة بينكَ وبينه. كما يمكنكَ أن تستخفّ بالوجود الحسيّ، بقانون الجاذبية، فترى إلى جسمكَ يطير، يرفرف، ليتأملكَ حيث أنتَ، ويعجب من كونكَ لا تزال هناك، حيث أنتَ الآن، ومن كونكَ هو، حيث هو الآن، فيضحك قليلاً. على غرار ضحكة فيلسوفٍ أرعن، أو ضحكة الطفل الذي يضحك ولا يعرف أنه يضحك.
شيءٌ من هذا القبيل تقريباً.
يمكنكَ أن تستسلم أعمق. من أجل أن لا تعود إلى الرشد. لأنكَ لا تطيق هذا الرشد. ولأنكَ تخشى أن تُصادَر خفّتكَ اللامتناهية هذه، فتعود كما كنتَ، حيث كنتَ، حجراً أبكم، منسيّاً على قارعة كتاب.
يمكنكَ أن تغمض عينيكَ لترى أبعد. حيث يصير القياس نوعاً من الافتراض الذي ينهب المعنى والمسافة والزمان. فتبصر ما لا تبصره في العادة. ولا في المنام. وتصير، ما أجمل ما تصير!
أإلى هذا الحدّ ترغب في أن تستسلم لهذه اللحظة المأخوذة بالغفلة؟ أإلى هذا الحدّ لا تريد أن تترجّل من الهواء الليّن الناعم الخفيف السكران الذي يتصرّف بكَ كما يشاء، ويذهب بكَ إلى حيث يشاء؟!
أهو شعوركَ بأنكَ مضطرٌ للعودة، بسبب تصاريف الشرط الوجودي، وبأنكَ لا تستطيع أن تغيّر وظيفة الأوجاع، وشروط اللعبة الجهنمية، وبأنكَ محكومٌ بالأمل، بالرغبة الأبدية في معاودة الكرّة، كلّما شاءتْ نجمةٌ أن تمنح غيومها فرصة الاستسلام للشبق الذي تنتقل إليكَ عدواه… وتستسلم لقوانينه، قوانين الشبق؟!