يتناول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في كتابه/ الوصية "شعرية حلم اليقظة" إواليات أحلام اليقظة وأنماطها، لاجئاً إلى أسلوبه الفينومينولوجي، كي يفسر سيرورات أحلام اليقظة التي، يرى الكاتب، أنّ التحليل النفسي طويلاً ما أهملها، مركزاً كل ما لديه من جهود على الأحلام نفسها. ومع هذا، يقول لنا باشلار، وفق الكاتب إبراهيم العريس، لا بد من أن نقر أول الأمر بأنّ أحلام اليقظة تضع في متناولنا عالم الروح... تماماً كما أنّ "الصورة الشعرية" تشهد على الروح في عملية اكتشافها للعالم الذي تريد أن تعيش فيه.وهكذا، يقارب باشلار بصورة منطقية بين الشعر وأحلام اليقظة، مؤكداً أنّ دراسة هذين معاً، ثم أحلام اليقظة وحدها هي ما يسمح لنا بأن نبني صرحاً حقيقياً لفينومينولوجيا الروح.
وللوصول إلى هذا يبدأ باشلار صفحات كتابه بحديث يتسم بقدر لا بأس به من الذاتية، في مجال غوصه في ما يسميه "أحلام يقظة حول أحلام اليقظة". ويرى الفيلسوف الفرنسي أنّ أحلام اليقظة غالباً ما تأخذنا إلى زمن طفولتنا... ولكن ليس الطفولة الحقيقية، بل الطفولة "المحلومة"، أي نحو تلك "الصور الحبيبة"التي تظل محفوظة في ركن من أركان الذاكرة. فما معنى هذا؟ معناه بكل بساطة أنّ طفولتنا الحقيقية هي تلك التي تدوم معنا طوال حياتنا. وهنا لا بأس في أن نلاحظ كيف أن باشلار لشدة اهتمامه بهذه الناحية من عالم أحلام اليقظة، أي بأحلام اليقظة المرتبطة بالطفولة، يجعل منها ما يشبه التمهيد لما سيسميه هو، ودارسوه: "ميتافيزيقا الأمور التي لا تنسى".
هل يمكن لفيلسوف أن يصبح محلِّلاً نفسيًّا؟ وهل يستطيع أن يطوي عنجهيته، فيكتفي بالوقوف على الوقائع، بينما كان قد دخل، بكلِّ ما يتطلَّبه الشغف، في مملكة القيم؟
وقام الباحث السوري د. منذر عياشي، المتخصص باللسانيات، بترجمة نصوص من كتاب باشلار"شعرية حلم اليقظة"، وفيما يأتي مقاطع منه:
1
لقد حاولنا في كتاب حديث، متمِّم لكتب سابقة ومكرَّس للخيال الشعري، أن نُظهِر الفائدة التي يقدِّمها المنهج الفينومينولوجي [= الظاهراتي] من أجل مثل هذه الاستقصاءات، إذ إن المقصود، حسب مبادئ الفينومينولوجيا [= المذهب الظاهراتي]، أن يظهر بوضوح تامٍّ وعيُ الذات المندهشة بالصور الشعرية. ويبدو لنا أن هذا الوعي، الذي تريد الفينومينولوجيا الحديثة أن تُلحِقَه بكل ظواهر النفس، يعطي قيمةً ذاتيةً مستمرة لصور ليس لها، على الأغلب، سوى موضوعية مشكوك فيها. إنها موضوعية عابرة. وحين نُلزِم أنفسنا بعودة منظَّمة إلى أنفسنا، وإلى بذل جهد إيضاحي في حدوث الوعي، أو فيما يخص صورة من الصور لشاعر من الشعراء، فإنّ المنهج الفينومينولوجي يقودنا للدخول في محاولة تواصلية مع وعي الشاعر الخلاق. وهكذا تصبح الصورة الجديدة – الصورة ببساطة – وبكلِّ بساطة، أصلاً مطلقًا، أصلاً للوعي. ففي ساعات الاكتشافات العظيمة تستطيع الصورة الشعرية أن تكون رشيم الشاعر، رشيم كونٍ متخيَّل أمام حلم يقظة الشاعر. وينفتح وعيُ الاندهاش بكلِّ سذاجة أمام هذا العالم الذي خلقه الشاعر. وإن الوعي، من غير ريب، مُعَدٌّ لاستثمارات كبرى. وإنه ليتكون بقوة بالأحرى، فيهبُ نفسَه لأعمال يمضي تناسقُها من الأفضل للأفضل. فلـ"وعي العقلانية"، خصوصًا، فضيلة الدوام؛ وهي تطرح قضية صعبة على الفينومينولوجي. إذ المقصود بالنسبة له أن يقول كيف يتتابع الوعي في سلسلة من الحقائق. ولكن، على العكس من ذلك، حين ينفتح الوعيُ المتخيِّل على صورة منعزلة فإنه – على الأقل للوهلة الأولى – يتحمل مسؤوليات أقل. وإذا وُضِعَ الوعيُ المتخيِّل حيال صور منفصلة فإنه يستطيع حينئذٍ أن يحمل مواضيع تربوية أصيلة لمذاهب فينومينولوجية.
ولكن ها نحن أمام تناقض مضاعف. فالقارئ الغفل سيسأل: لماذا تضع كتابًا عن حلم اليقظة بآلة فلسفية ثقيلة هي المنهج الفينومينولوجي؟ وسيقول الفينومينولوجي المهني، من جهته: لماذا نختار مادة مائعة كالصور لكي نقوم بعرض مبادئ فينومينولوجية؟
يبدو أنّ كلَّ شيء سيكون بسيطًاً إذا اتَّبعنا مناهج عالِم النفس الذي يصف ما يرصد، والذي يقيس مستويات، ويصنف نماذج، ويرى ولادة الخيال عند الأطفال، دون أن يفحص في الحقيقة عن كيفية موته عند عموم الناس؟
ولكن هل يمكن لفيلسوف أن يصبح محلِّلاً نفسيًّا؟ وهل يستطيع أن يطوي عنجهيته، فيكتفي بالوقوف على الوقائع، بينما كان قد دخل، بكلِّ ما يتطلَّبه الشغف، في مملكة القيم؟ يبقى الفيلسوف، كما نقول اليوم، "في وضع فلسفي"، ويدَّعي في بعض المرات أنه يبدأ كلَّ شيء. ولكن، للأسف، إنه يتابع... فقد قرأ كتبًا كثيرة من كتب الفلسفة؛ وكان عذرُه في ذلك أنه يدرسها ويدرسها. ولقد شوَّه "أنظمة كثيرة". وعندما يأتي المساء، ويكف عن التدريس، فإنه يعتقد أنّ من حقِّه أن ينغلق على نفسه ضمن نظام من اختياره.
وهكذا، فقد اخترتُ الفينومينولوجيا، آمِلاً في أن أفحص ثانية، بعين جديدة، عن الصور المحبوبة بوفاء، المثبتة في ذاكرتي، التي لم أعد أدري إذا ما كنت أتذكر أو أتخيل عندما أجدها ثانية في أحلام يقظتي.
2
إنّ تشدد الفينومينولوجي فيما يخص الصور الشعرية بسيط على كلِّ حال: إنه يرجع إلى التركيز على فضائلها الأصلية، وإلى اجتذاب كائن أصالتها نفسه، وإلى الاستفادة من علامة إنتاجها النفسي الذي هو إنتاج الخيال.
إنّ هذا التشدد في تقييم الصورة الشعرية من أصل نفسي؛ وقد ينتهي، والحال كذلك، إلى قسوة مبالغ فيها. وسيكون الأمر كذلك إذا لم نستطع أن نجد فضيلة ذات أصالة للمتغيرات نفسها. فهذه تؤثر في النماذج المثالية الأكثر تجذُّرًا وقوة. ومادمنا نريد أن نعمِّق، في الفينومينولوجيا، أسلوبَ التحليل النفسي المدهش، فإنّ أقل متغيِّر لصور مدهشة يجب أن يساعدنا في تنقية استقصاءاتنا. فدقة الجديد تحيي الأصول وتجدِّد فرح الاندهاش وتُضاعِفُه.
وتضاف في الشعر، إلى الاندهاش، فرحةُ الكلام؛ ويجب أخذ هذا الفرح في مطلقه اليقيني. فالصورة الشعرية، حين تبدو كائنًا جديدًا من كائنات اللغة، فإنها لا تقارَن، وذلك باتباع طريقة الاستعارة الشائعة، مع صمام ينفتح ليطلق غرائز مكتومة. فالصورة الشعرية تضيء بنورها الوعيَ. وإنه لمن العبث أن تبحث لها عن سابق في اللاوعي. والفينومينولوجيا، على الأقل، مؤسَّسة لكي تأخذ الصورة الشعرية من خلال كائنها الخاص كاستقصاء يقيني للكلام، وكقطيعة مع كائن سابق. وإذا أصغينا إلى التحليل النفسي فإننا سنعود لنعرِّف الشعر بأنه زلة كلامية مهيبة. ولكن الإنسان لا ينخدع وهو متحمس؛ وذلك لأنّ الشعر قَدَرٌ من أقدار الكلام. وحين نحاول أن ندقق في الوعي باللغة على مستوى الشعر فإننا سنكوِّن انطباعًا بأننا نلامس إنسان الكلام الجديد بكلام لا يتعيَّن بالتعبير عن أفكار، أو عن مشاعر، ولكنه يحاول أن يحوز على مستقبل. وربما نقول إنّ الصورة الشعرية، بما لها من جديد، تفتتح مستقبلاً لغويًا.
إنه لمن الشائع فعلاً تسجيلُ أحلام اليقظة بين ظواهر الانبساط النفسي؛ فالمرء يحياها في زمن منبسط، زمن لا ليونة في قوته
وعندما نستخدم المنهج الفينومينولوجي بشكل متلازم لفحص الصور الشعرية، فإنه يبدو لنا أننا خضعنا للتحليل النفسي بشكل آلي. كما سيبدو لنا أننا نستطيع، بوعي واضح، أن نكتم مشاغلنا القديمة في ثقافة التحليل النفسي. إننا لنشعر في الفينومينولوجيا وكأننا قد تخلصنا من أفضلياتنا، تلك الأفضليات التي تحوِّل الذوق الأدبي إلى عادات. وكنَّا، بسبب الامتياز الذي تعطيه الفينومينولوجيا لما هو قائم، في استقبال الصور الجديدة التي يهبها الشاعرُ لنا. وكانت الصورة حاضرة، حاضرة فينا ومنفصلة عن كلِّ الماضي الذي استطاع أن يهيئها في روح الشاعر. وكنا أحرارًا، من غير أن نهتم بـ"مركِّبات" الشاعر، ومن غير أن ننبش في تاريخ حياته. لقد كنا أحرارًا في العبور من شاعر إلى آخر، ومن شاعر كبير إلى شاعر صغير. وكان ذلك بمناسبة صورة بسيطة تكشف عن قيمتها الشعرية بغنى متغيراتها. وهكذا، فإنّ المنهج الفينومينولوجي يُلزِمُنا أن نجعل، بدهيًّا، من الوعي بأكمله أصلاً لأقل المتغيرات. فالمرء لا يقرأ الشعر، وهو يفكر في شيء آخر. وما إن تجدِّد الصورة الشعرية نفسها، ولو كان ذلك بسمة واحدة من سماتها، حتى تُظهِر سذاجةً واضحة.
يجب على هذه السذاجة المستيقظة نظاميًّا أن تمنحنا استقبالاً صافيًا للقصائد. فنحن، في دراساتنا عن الخيال الفعال، نتبع الفينومينولوجيا، إذن، كما لو أنها مدرسة للسذاجة.
3
أمام الصور التي يحملها الشاعرُ إلينا، وأمام الصور التي ما كنَّا قط نستطيع أن نتصورها بأنفسنا، تكون سذاجةُ الاندهاش طبيعية. ولكن عيش المرء هذا الاندهاش سلبيًّا يعني أنه لن يشارك بعمق كافٍ في التخييل الخلاق. وإن فينومينولوجيا الصورة تطالبنا أن ننشط للمشاركة في التخييل الخلاق. وبما أن هدف الفينومينولوجيا أن تضع الوعي في الحاضر في زمن شديد التوتر، فيجب أن نستنتج أنه لا توجد فينومينولوجيا سلبية تخصُّ سمات التخييل. ونذكر، بعيدًا عن التفسير المعكوس المرتكَب غالبًا، أن الفينومينولوجيا ليست وصفًا تجريبيًّا للظواهر. فالوصف التجريبي هو عبودية الواصف للموضوع؛ ويكون ذلك عندما يجعل لنفسه قانونًا تبقى الذاتُ به في إطار السلبية. ويستطيع وصف المحلِّلين النفسيين، من غير ريب، أن يحمل بعض مستنداته. ولكن على الفينومينولوجي أن يتدخل لكي يضع هذه المستندات على محور القصدية؛ أي أن تكون هذه الصورة التي أعطيتَها توًّا لي، فعلاً لي، وأن تصير – وهذا ذروة غرور القارئ – شغلي الشاغل! وأيُّ مجد هو مجد قرائي إذا استطعت، بمساعدة الشاعر، أن أعيش القصدية الشعرية! إذ بقصدية الخيال الشعري، تجد روحُ الشاعر الفتحة الضميرية لكلِّ شعر حقيقي.
الفينومينولوجيا ليست وصفًا تجريبيًّا للظواهر. فالوصف التجريبي هو عبودية الواصف للموضوع
أمام طموح بَلَغَ الإفراطُ فيه ذروتَه، مضافًا إلى أن كلَّ كتابنا يجب أن يقوم على أحلام يقظتنا، فإنّ على مشروعنا، كفينومينولوجيين، أن يواجه تناقضًا جذريًّا. وإنه لمن الشائع فعلاً تسجيلُ أحلام اليقظة بين ظواهر الانبساط النفسي. فالمرء يحياها في زمن منبسط، زمن لا ليونة في قوته. وبما أنها تطرأ من غير قصد فهي غالبًا ما تكوِّن ذاكرة أنها هروب من خارج الواقع، دون عثور على عالم وهمي متماسك وباتباع "منحدر أحلام اليقظة" – منحدر يهبط باستمرار – إذ إنّ الوعي يتمدد ويتناثر، ويغشاه الظلام بالنتيجة. إنها، إذن، ليست على الإطلاق تلك التي نحلم فيها أن نُعِدَّ "بحثًا في الفينومينولوجيا".
ماذا سيكون موقفنا في حضور مثل هذا التناقض؟ إننا سنبتعد عن محاولة تقريب مصطلحات أطروحات التضاد البدهية بين التحليل النفسي لأحلام اليقظة فقط وبين مواقف فينومينولوجية بالفعل. وسنزيد التباين أيضًا حين نعلق أبحاثنا بأطروحة فلسفية نريد أن ندافع عنها بادئ ذي بدء: إنّ الشعور بالوعي، فيما يخصنا، هو إنماء للوعي، وزيادة في النور، وتقوية للتماسك النفسي. وتستطيع سرعتُه أو آنيَّتُه أن تحجب النموَّ عنا. ولكن ثمة نمو كينوني في كلِّ شعور بالوعي. فالوعي معاصر لصيرورة نفسية شديدة؛ صيرورة تسري شدتُها في الحياة النفسية برمَّتها. فالوعي وحده فعل؛ إنه الفعل الإنساني. إنه فعل يَقِظ، فعل مليء. وحتى إنْ بقي الفعلُ الذي يتبع معلقًا، أو الفعل الذي وجب عليه أن يتبع، أو ذاك الذي قد وجب عليه أن يتبع، فإن لفعل الوعي امتلاؤه اليقيني. وإننا لن ندرس هذا الفعل في البحث الحاضر إلا في ميدان اللغة؛ وبصورة أدق أيضًا، فإننا سندرسه في ميدان اللغة الشعرية، وذلك عندما يخلق الوعيُ المتخيِّل الصورةَ الشعرية ويعيشها. إنّ تكثير اللغة، وخلقها، وإبراز قيمتها، وحبها، كلُّ هذه نشاطات ينمو فيها وعي الكلام. ففي هذا الميدان المحدود جدًّا نحن متأكدون أننا سنجد عددًا من الأمثلة التي ستُثبِت أّنّ أطروحتنا الفلسفية أكثر عمومية من تكثير الصيرورة الجوهرية لكلِّ شعور بالوعي.