ربيعة " ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
عدد الرسائل : 204
تاريخ التسجيل : 26/10/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2
| | إدموند هوسرل الفينومينولوجيا الترنسندنتالية: البداهة والمسؤولية | |
في سنة 1936 نشر هوسرل القسمين الأولين من آخر مؤلفاته الكبرى. عنوان هذا المؤلف هو: "أزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا". في هذا المؤلف يحاول هوسرل للمرة الثالثة -بعد الكتاب الأول من "أفكار لأجل فينومينولوجيا خالصة وفلسفة فينومينولوجية" لسنة 1913 و"تأملات ديكارتية" الذي يعود إلى سنة 1931 - أن يقدم مدخلا نسقيا شاملا للفينومينولوجيا التي سبق أن أسسها من خلال مؤلفه "أبحاث منطقية" سنة 1901-1900 الأمر الجديد في هذه المحاولة الأخيرة هو أنها تنطلق من تحديد تاريخي للوضعية الحاضرة. يشخص هوسرل أزمة عميقة يعاني منها العصر الحاضر يرجعها إلى "أزمة" التفكير العلمي المذكورة في عنوان المؤلف، وهي أزمة تمس الفلسفة أيضا. لكي يتمكن الطبيب من كشف أزمة ما بكيفية موثوق بها، يجب أن يرجع إلى أبعد نقطة ممكنة في ما قبل تاريخ المرض. لهذا يعود هوسرل أيضا في تشخيصه للوضعية الحالية إلى النشأة التاريخية للتفكير الفلسفي-العلمي عموما. هذه العودة لم تكن بالنسبة لهوسرل بتاتا أمرا بديهيا. ففي الأصل كان يعتقد -مثل ديكارت- أن بإمكانه كفيلسوف أن ينطلق من نقطة البداية. إنه كان يريد، من أجل بلوغ العلم الصارم، أن يبدأ بداية جذرية مستقلة عن كل الآراء المسبقة. لكن اتضح له في مرحلته المتأخرة أنه بهذا التمييز للعلم الصارم عن كل الآراء كان هو ذاته يحمل إرثا تاريخيا. ففي القديم نشأت الفلسفة مع أفلاطون وسابقين بأن ميزت ذاتها كإبستيمي. معرفة بالمعنى الخاص، عن الدوكسا، الرأي. اعتبر هوسرل في أعماله المتأخرة أن تمييز الإبستيمي لذاته هو الدوكسا هو الإنجاز المؤسس للفلسفة، هو تأسيسها الأصلي كما يقول. والآن يريد لفينومينولوجية الترنسندنتالية أن تجدد المعنى الأصلي لذلك التأسيس تجديدا يقوم بتوجيه المستقبل. أعتقد أن هذا التأويل الذي قدمه هوسرل، في مرحلته المتأخرة، لفلسفته بأكملها هو تأويل صائب؛ ذلك أنه يمكننا أن نعتبر مفهومي البداهة والمسؤولية شعارين لهذه الفلسفة، وهذان المفهومان بالضبط يصلحان أيضا للدلالة على النتيجتين الأساسيتين اللتين يتضمنهما تمييز الإبستيمي لذاته عن الدوكسا لدى الإغريق. أريد في البداية أن أعرض بإيجاز الخطوط العريضة لهذه العلاقة(I )، لكي أبسط انطلاقا منها في القسم الرئيسي(II ) الدلالة الفينومينولوجية لفكرتي البداهة والمسؤولية. من ذلك سأستخلص من جديد في القسم الأخير(III ) المهمة التي يضعها هوسرل على عاتق الفلسفة الحاضرة مع الجديد الفينومينولوجي للتأسيس الأصلي الإغريقي. تتمثل الخاصية الأساسية للدوكسا، للرأي أو الظن، من وجهة نظر الإبستيمي، العلم، في أنها تبقى مقيدة في مواقف وحيدة الجانب. يرجع ذلك إلى أن الناس في حياتهم العادية، السابقة على كل علم وفلسفة، يركزون انتباههم على الأمر الذي يكونون منشغلين به. إن انحصارهم في الأمر الذي يهتمون به في كل حالة يضيق أفقهم، أي مجال إمكانيات الحكم والفعل التي توجد رهن إشارتهم. هذه الإمكانيات هي في ذاتها كثيرة إلى حد أنه لا يعرف لها مدى. لكن الناس لا يتحركون دائما داخل أجزاء معينة فقط من الأفق الكلي لإمكانياتهم. إن كلا منهم يعيش كما يقال، في عالمه، عالم الطالب، عالم العالم، عالم الطفل...إلخ. كل من هذه الآفاق المحددة بمصلحة ما يمثل حصرا لأفق شامل كلي يمكننا أن ننعته بالعالم الواحد. إن محدودية الدوكسا تتمثل في انحصارها كل مرة داخل عالم خاص، أي في انغلاقها إزاء الكل بإطلاق، يغني رزاء العالم الواحد. كانت الفلسفة والعلم عند بدايتهما، ثم زمنا طويلا بعد ذلك، شيئا واحدا. ابتدأ التفكير الفلسفي-العلمي مع اكتشافه للعالم الواحد متخذا بذلك اتجاها مضادا لمحدودية الدوكسا. هكذا أصبح الكل بإطلاق لأول مرة مدار اهتمام صريح، كما اتخذ لأول مرة مع لفظ الكوسموس إسما. إن أفقا محدودا يسمح هو أيضا، باعتباره مجالا لإمكانيات الحكم والفعل، برؤية الإمكانيات الكامنة فيه. كل عالم خاص يجعل الإنسان يرى الأحداث التي تصادفه داخل هذا العالم الخاص كل ما يمكن رؤيته تقول عنه بأنه يظهر، ونعبر عنه بلفظ الظواهر. كل ما يراه الإنسان في عالم الخاص يظهر له في ضوء المصالح والاهتمامات التي توجهه. لذلك فإن نظره لا يتوقف أمام ما يظهر من حيث هو ذاته، بل إنه يترك ما يظهر لكي يتجه نحو ما يصلح لأجله. يقوم انفتاح التفكير الفلسفي-العلمي، منذ بدايته، إزاء العالم الواحد على التحرر من المصالح والاهتمامات المرتبطة بالعوالم الخاصة. ولذلك فإن هذا التفكير يكون منفتحا لكل ما يظهر، وبالضبط لكل ما يظهر من حيث هو ذاته. عندما نقول عن شيء "إنه يظهر"، فإننا نعني بذلك "أنه يتجلى في تحديداته". يمتلك التفكير الفلسفي-العلمي، بناءا على تأسيسه الأصلي، الاستعداد لجعل كل ما يظهر يتبدى للعيان في تحديداته. وبهذا المعنى، فإنه يحمل طابع الرؤية بالمعنى البارز، أي المشاهدة المتجردة من كل مصلحة، أو النظرية كما كان يقول الإغريق. إن تجلي ما يظهر في تحديداته هو ما عبرت عنه اللغة اللاتينية فيما بعد بلفظ يعني البداهة. لهذا يمكن القول: توجد بين الموقف النقدي من الدوكسا الذي يجعل من العالم الواحد مدار إهتمامه وبين البحث عن البداهة يتجرد من المصلحة علاقة وثيقة هذه العلاقة هي النتيجة الأولى التي أخذها هوسرل عن التأسيس الأصلي الإبستيمي من خلال تمييزه لذاته عن الدوكسا. يمكن أن نطرح بصدد التأسيس الأصلي لمعنى الفلسفة والعلم سؤالا نقديا: لماذا يجب على الناس أصلا البحث عن البداهة بشأن العالم الواحد بدل الاكتفاء بما يظهر لهم في مجالات عوالمهم الخاصة المقيدة بالمصلحة؟ إذا كان التوجه النظري نحو العالم الواحد أمرا معقولا، فيجب أن تكون هناك مصلحة أهم من المصالح التي تربط الناس بعوالمهم الخاصة. هذه المصلحة العليا لا يمكن أن تكون سوى نجاح الإنسان في حياته عموما، في وجوده ككل. لكن هذه المصلحة قد يمكن أن تكون بدون جدوى، لأنه قد يمكن أن يكون النجاح في الحياة ككل غير متوقف بتاتا على الإنسان. لا يمكن الحسم فيما إذا كان نجاح حياتنا عموما بيدنا أم لا من خلال تأمل محايد. إن الإنسان كفرد، أنا نفسي يجب أن أقرر الإمساك بزمام الأمور. على أساس هذا القرار يمكنني أن أقول: إن أمر نجاحي وتوفيقي في الحياة يتوقف أساسا لا على قوى قدرية ما، بل على الكيفية التي أنجز بها أنا نفسي حياتي. أنا نفسي مسؤول عن هذه الكيفية. لهذا يجب أن أحاسب عليها. إن التوجه نحو العالم الواحد يفترض إذن الاستعداد للحساب. تقديم الحساب يعني عرض الأسباب. إن الإنسان في مستوى الرأي الذي هو مقيد بالمصلحة سيبحث عن هذه الأسباب في العوالم الخاصة التي ينجز حياته داخلها. لكن حسابا من هذا النوع لا يمكن أن يورد أبدا الأسباب الأخيرة، إنه يبقى دائما في منتصف الطريق، لأن إمكانيات الحكم التي تسمح بها العوالم الخاصة محدودة. لكي يكون قرار التحمل الذاتي للمسؤولية جديا تماما، يجب على الإنسان أن يبحث عن الأسباب الأخيرة، وهذا لا يمكن أن يتأتى له إلا إذا تحرر من محدودية الدوكسا المرتبطة بالعوالم الخاصة بفضل نظر شامل إلى العالم متجه نحو البداهة. بتقديم الحساب عن الأسباب الأخيرة يتحمل الإنسان المسؤولية الأخيرة، كما سيقول هوسرل، عن نجاح حياته. وهذه بالضبط هي النتيجة الثانية التي تبناها هوسرل عن التأسيس الأصلي الإغريقي للفلسفة والعلم. والآن كيف تطور الإبستيمي لذاته عن الدوكسا مع الفكرتين الرئيسيتين الكامنتين فيه: البداهة والمسؤولية الأخيرة إلى الفينومينولوجيا الترنسندنتالية؟ إن المحاسبة القائمة على المسؤولية الأخيرة تطمح إلى أن تتخطى نهائيا الدوكسا، أي مجرد الرأي. تقول "مجرد" الرأي لأن كل رأي لا يمثل إلا موقفا مؤقتا. كل موقف يتيح نظرة إلى الأشياء، إلا أن هذه النظرة قد تكون في حاجة إلى مراجعة. ينتمي للرأي ذاته الوعي بطابعه المؤقت. إنه هو ذاته يشعر بأن نظرته في حاجة إلى أن تتجاوز. كل نظرة تتجه نحو شيء يظهر. يتميز ظهور ما يظهر في مجرد الرأي بأنه يحيل إلى ما وراء ذاته، أي إلى ظهور يكون فيه ما يظهر ماثلا أمام أعيننا بكيفية لا تبقى في حاجة إلى أن تتجاوز. إنني أظن مثلا بأن الطقس في ألاسكا بارد، إلا أن الإقامة بالفعل في ألاسكا هي وحدها ما يثبت صحة هذا الظن؛ أو أظن أن مجموع زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، لكن الإنجاز الفعلي للبرهان هو وحده ما يمنحني الإقناع الكامل بذلك. وهكذا تكمن في كل رأي إشارة مسبقة إلى وضعيات ممكنة يتم فيها ظهور الشيء الذي نقصده بكيفية تؤكد توقعاتنا بشكل تام. إننا عند التعامل مع كل ما يظهر لنا في حياتنا اليومية -بأية كيفية كانت- نكون مثل من يتعامل بصكوك دون أن يعرف بيقين تام هل هناك رصيد يغطيها. إن الوضعيات التي يحيل فيها الظهور إلى ما وراء ذاته هي وحدها تجعل الرصيد مطابقا للصكوك. هذه الوضعيات تؤكد توقعاتنا، لأن ما يظهر يكون فيها حاضرا أمام الإنسان في قرب تام. ينعت هوسرل هذا النوع من الظهور بأنه أصلي. نظرا لأن الشيء الذي يظهر يتجلى هنا في تحديداته بكيفية غير مقنعة، فإنه يمكن نعت الظهور الأصلي بالبداهة في توسيع مناسب للمفهوم القديم. إن البداهة بهذا المعنى لا توجد في الفلسفة والعلم فحسب، بل قبل ذلك في الحياة اليومية السابقة للعلم، بل إن البداهة تلعب هناك دورا حاسما: لا يمكننا عموما أن نعيش، إلا لأن كل مالنا علاقة به، إما أن يكون معروفا لدينا في وضعيات ظهوره الأصلي، أو أن يكون من الممكن -في حالة عدم اليقين- أن ننتظر وضعيات للبداهة يكون فيها ما يظهر قريبا منا في تحديداته. إن وعينا بما يظهر لنا في العالم يتميز إذن، قبل كل فلسفة، بالتعلق المستمر بالبداهة، أي تلك البداهة التي يعرف الوعي كيف يحيل ذاته إليها سواء كانت في وضعية سابقة أو منتظرة. هذا التعلق بالبداهة يعطي لوعينا طابعا ديناميا يسميه هوسرل القصدية. إن الفلسفة، كمشاهدة نظرية للعالم، لا يحق لها، بناء على روح المسؤولية الذاتية الجذرية، أن تكتفي بوجهة نظر الرأي بصدد ما يظهر. لهذا يجب عليها أن تتعلم رؤية ما يظهر بالكيفية التي يتبدى بها الوعي القصدي في وضعيات البداهة. هذه هي الخطوة الأساسية للفينومينولوجيا. إنها لكي تجعل ما يظهر ماثلا أمام المشاهدة النظرية بكيفية تامة وغير مقنعة، تبحث في الحياة اليومية السابقة للفلسفة عن وضعيات البداهة التي فيها يقدم ما يظهر ذاته أصليا للوعي. إن الفينومينولوجيا، العلم الفلسفي الذي يهتم بالظهور، يصف كيف تظهر الأشياء في حالة البداهة. إنها تحلل ما يظهر في ظهوره الأصلي. يمر الفينومينولوجي عند إنجاز هذه المهمة بتجربة مدهشة لا يمكن تجنبها: كل ما يظهر لنا في العالم خلال حياتنا اليومية يصادفنا كشيء مطابق لذاته، أي كشيء يبقى ثابتا رغم تغير إمكانيات ظهوره وتعددها. المثال النموذجي على ذلك عند هوسرل هو الموضوع الذي ندركه بصريا. هذا الموضوع يقدم ذاته إلينا في مظاهر ومنظورات متعددة -فالمنزل مثلا يظهر للمارة في الشارع بشكل يختلف عن الشكل الذي يظهر به لشخص في الحديثة-، ولكنه بالرغم من هذه التعددية السائلة لكيفيات ظهوره، يبقى ثابتا باعتباره هو ذاته. هكذا يصادفنا كل ما يظهر، كل حادث في العالم، كقطب مطابق لذاته في طيف كيفيات ظهوره. بهذا المعنى -وبهذا المعنى فقط- ينعت هوسرل كل ما يظهر بأنه موضوع. لا يمكن أن تكون لنا علاقة بأي موضوع إلا إذا أعطي لنا في كيفية ما للظهور. لكن كل كيفية للظهور ليست سوى إمكانية واحدة ضمن إمكانيات كثيرة ومتنوعة للظهور. إن الموضوع المطابق لذاته هو أكثر مما يبدو في كل كيفية للظهور. إنه يحتاج بالتأكيد إلى كيفية ما للظهور كمناسبة لكي يقدم ذاته للوعي القصدي، إلا أنه ليس مقيدا بمناسبة محددة. يجب أن تصادفنا الموضوعات في مناسبة أو ظرف لكي تدخل في علاقة معنا، مع الذوات المجربة. إنها بذلك فقط تمتلك وجودا لأجلنا، وجودا ذاتيا-نسبيا كما يقول هوسرل. إلا أنها أكثر مما يظهر منها في كل مناسبة أو ظرف. إنها تتعالى إذن على ظرفيتها (أي ظهورها في مناسبة أو وضعية ما)، وهذا التعالي هو بالضبط ما يمنحها مطابقتها لذاتها. إنها فقط بفضل مطابقتها لذاتها تمتلك وجودا موضوعيا، أي وجودا نفترض فيه أنه مستقل عن ظهورها لنا وعن كيفية هذا الظهور. إن تعاليها على وجودها الظرفي من أجلنا يضمن وجودها في ذاتها مفهوما بهذا الشكل، أي موضوعيتها. ينتمي لإمكانيات الظهور الظرفي للموضوعات الظهور الأصلي أيضا، البداهة. إذا كان الواعي القصدي يتوفر على مضامين تجعله غير فارغ، فذلك فقط لأنه يقتات من البداهات التي تصبح فيها تحديدات الموضوعات في متناوله. لكن، من جهة أخرى، يجب على الوعي أن يتخطى الظهور الظرفي، وبالتالي البداهة هي أيضا، لكي يكون أمام موضوعات مطابقة لذاتها وقائمة بذاتها. يترتب عن ذلك نتيجة أساسية بالنسبة لتحليل الفينومينولوجي: لا يكفي أن يبحث عن الوضعيات الأصلية لظهور الأشياء في الحياة اليومية وأن يصف ما يظهر كما يقدم ذاته في وضعية البداهة، بل يجب عليه، فوق ذلك، أن يفسر كيف يتمكن الوعي القصدي من أن يتخطى الظهور الأصلي الظرفي نحو موضوعات مطابقة لذاتها. لكن هذا التفسير لا يمكن أن ينطلق إلا من الظهور الأصلي؛ لأنه على أساسه هو فقط تنال الموضوعات بالنسبة لنا، نحن البشر، تحديداتها. يجب إذن على الفينومينولوجي أن يقبل بأن الظهور الأصلي ذاته هو الذي يحفز الوعي لكي يخطو نحو موضوعات مطابقة لذاتها. إن الحافز الأصلي لتخطي العطاء الظرفي باتجاه موضوعات مطابقة لذاتها يسميه هوسرل البناء. والوصف الفينومينولوجي يجب أن يتطور إلى تحليل البناء، أي يجب أن يفسر كيف يتخطى الوعي بحافز البداهة العطاء الظرفي. إنه فقط مع هذه الخطورة تتجاوز الفينومينولوجيا بشكل أساسي التأسيس الأصلي الإغريقي للمشاهدة النظرية الشمولية للعالم. هذه المشاهدة الإغريقية كانت متجهة نحو ما يظهر. تحافظ الفينومينولوجيا على هذا التوجه ما دامت تصف ما يظهر في ظهوره الأصلي. مع تحليل البناء ينتقل اهتمامها إلى الوعي، ذلك أن حوافز تخطي العطاء الظرفي هي إنجازات للوعي القصدي. وهذه هي خطوة هوسرل باتجاه الفلسفة الترنسندنتالية الحديثة؛ فالفلسفة الترنسندنتالية، حسب تعريف كنط لها في "نقد العقل الخالص"، لا تهتم بالموضوعات فقط، بل في المقام الأول "معرفتنا للموضوعات"، أي بظهورها للوعي. يحمل التحويل الترنسندنتالية للاهتمام ما يظهر في ظهوره إلى ظهور ما يظهر الطابع الأساسي للتأمل الانعكاسي، لإرجاع الانتباه إلى الوعي كمحل للظهور. لا يمكن للوعي القصدي أن يبني موضوعات مطابقة لذاتها إلا إذا حفزته الكيفيات الظرفية للظهور. ولكن كيف يمكن عموما أن تحفز كيفيات الظهور الوعي؟ إجابة هوسرل تقول: لأنها تحيل إلى بعضها البعض. عندما أرى منزلا من الشارع، أكون على وعي بأنه يمكنني أن أشاهده من جانب آخر أيضا، مثلا من الحديقة. وهكذا فإن إدراك المنزل يندرج في سياق من إحالات كيفيات الظهور على بعضها البعض. كل سياق للإحالة من هذا النوع هو مجال يفتح أمام الوعي القصدي ومعيشاته زاوية للنظر. هكذا نعود إلى الآفاق، العوالم الخاصة، التي تحدثت عنها في سياق التأسيس الأصلي الإغريقي: لقد تبين الآن أنها ليست شيئا آخر سوى سياقات لإحالة كيفيات الظهور على بعضها البعض. عند الحديث عن التأسيس الأصلي الإغريقي سجلت أن الآفاق محددة بمصالح. يمكن الآن تعميق هذه الفكرة. هناك مصلحة تهيمن على الوعي القصدي من أساسه. إن ما يهمه هو أن يتوفر على موضوعات قارة مطابقة لذاتها. لتحقيق هذه المصلحة يجب على الوعي أن يكون سياقات إحالة لكيفيات الظهور، أي آفاقا. فبفضل وعينا بأننا نتحرك داخل مجال من إمكانيات الظهور التي تحيل إلى بعضها البعض تبرز موضوعات مطابقة لذاتها بصفتها ما يبقى ثابتا رغم سيلان إمكانيات الظهور المتعددة. لذلك فإن الإنجاز الأساسي للوعي عند بناء موضوعات مطابقة لذاتها هو تكوين الآفاق. كل أفق، كل عالم خاص يوفر للإنسان إمكانية الانشغال بوفرة من الموضوعات التي ترتبط بها مصلحته في إطار الأفق الذي يتعلق به الأمر. تشترط ممارسة مهنة ما الإلمام بالموضوعات التي تنتمي إلى إطار العالم الخاص لكل مهنة. بفضل هذا الإلمام يكون المرء قادرا على إنجاز شيء ما في مهنته. هذا الإلمام الذي يجعل المرأ قادرا على إنجاز شيء ما سماه الإغريق الفن التقني. بهذا المعنى القديم تمثل كل المعلومات المهنية معرفة تقنية. الفن التقني، الإلمام المهني، يرتكز على الألفة مع سياقات الإحالة للعالم الخاص لكل مهنة. لكن الأساس الذي يحفز هذه الألفة هو المصلحة المرتبطة بالموضوعات التي يمكن أن تظهر داخل العالم الخاص الذي يتعلق به الأمر. يشكل كل عالم خاص، بفضل مصلحته الموجهة، محيطا، إذا جاز التعبير، لمجموعات أو أنواع محددة من الموضوعات. أكيد أنه يجعل الإلمام في مجال هذه الموضوعات ممكنا، وبهذا المعنى فهو يسمح برؤية هذه الموضوعات؛ إلا أنه في نفس الوقت يضيق دائرة النظر؛ ذلك أن المصلحة المتعلقة بالعالم الخاص تحجب سياقات الإحالة التي تجعل كيفيات ظهور موضوعات عالم خاص تحيل إلى عوالم خاصة أخرى. فالخبير الاقتصادي مثلا يجب في مجال اهتمامه المهني أن يغض النظر عن أن الموضوعات ليست مجرد سلع لها قيمة في سياق إحالة العرض والطلب، وعن أنها تتوفر أيضا على خصائص أخرى تنتمي بفضلها إلى سياقات أخرى للإحالة. إن الفينومينولوجيا كعلم صارم، كإبستيمي له طابع نقدي جذري إزاء الدوكسا، لا يمكنها أن تحقق طموح هوسرل إلى أن تكون بحثا خاليا من الأحكام المسبقة وغير متحيز، إلا إذا تحررت من كل أنواع الانحصار في عوالم خاصة. لكي تكون منفتحة لما يظهر عموما دون تحيز، يجب أن تتخطى كل الآفاق الجزئية للعوالم الخاصة باتجاه سياق الإحالة الذي تنتمي إليه هذه الآفاق الجزئية كلها: العالم الواحد كأفق شامل. لكن العالم الواحد لا يشكل مجرد محيط لقطاع من الموضوعات مقيد بمصلحة ما؛ إن الأفق الشامل لا ينشأ بفضل مصلحة ما، بل إنه مفتوح مسبقا أمام الوعي القصدي من أجل كل مصلحة، إن التأمل الانعكاسي الفينومينولوجي، كإبستيمي له طابع نقدي جذري إزاء الدوكسا، يجب أن يكون متحررا من كل مصلحة، أي يجب أن يعود إلى ما وراء الوعي القصدي المرتبط عن طريق المصلحة بعوالم خاصة. وهذا يعني: إنه يجب أن يتخذ العلاقة بالعالم التي تسبق كل مصلحة وتكمن في أساسها، أي أن يكون في حالة الانفتاح الذي لا تحدده أية مصلحة. صحيح أن الوعي القصدي اليومي السابق للفلسفة يتحرك مسبقا دائما في هذه العلاقة بالعالم السابقة على كل مصلحة، إلا أنه يحجبها من أول الأمر، لأنه يحصر ذاته في عوالم خاصة محددة بفعل ارتباط مصلحته بالموضوعات. لهذا فإن الوعي السابق للفلسفة يعيش دون تساؤل في ألفة مع العالم كأفق شامل، إلا أنه لا يوجه نظره أبدا إلى العالم الواحد بما هو كذلك؛ إنه لا يجعله أبدا محط اهتمامه بكيفية صريحة. هذه العلاقة التلقائية بالعالم الواحد دون اهتمام صريح به يسميها هوسرل الموقف الطبيعي. إن الوعي في الموقف الطبيعي، أو الوعي الطبيعي، كما يمكن أن نقول باختصار، هو قصدي، أي إنه يعرف دائما إحالة إلى البداهة. إنه يحتاج إلى البداهة، لأنه ينزع نحو موضوعات مطابقة لذاتها؛ فسياقات الإحالة للظهور الأصلي هي وحدها يمكن أن تكون حافزا لبناء موضوعات مطابقة لذاتها. هكذا يصبح الوعي الطبيعي خاضعا لإرادة، هي إرادة امتلاك موضوعات مطابقة لذاتها بواسطة البداهة. هذه الإرادة هي التي تتجلى في كل المصالح والاهتمامات المرتبطة بالعوالم الخاصة. إن العودة الفينومينولوجية إلى التحرر الأصلي من المصلحة في العلاقة بالعالم الواحد تعني تعطيل تلك الإرادة. هذا التعطيل يسميه هوسرل الإيبوخي، "الإمساك"، أي الإمساك عن النزوع نحو موضوعات مطابقة لذاتها. إن الكل إطلاقا، العالم كأفق شامل لا يمكن أن يصبح محط اهتمام إلا عند سكون الإرادة المتجهة نحو موضوعات مطابقة لذاتها. إن الفلسفة الفينومينولوجية كمحاسبة قائمة على المسؤولية الأخيرة تحفزها بلا ريب مصلحة، هي المصلحة الأساسية المتمثلة في النجاح في الحياة التي أشرنا إليها في البداية. هذه المصلحة هي بكيفية مشخصة مصلحة الفرد في تحقيق آمال، متمنيات، انتظارات، حاجيات محددة، أي أشكال من القصد تنتمي لأصناف مختلفة. إن الفينومينولوجيا كفلسفة للبداهة تجعل كل أنواع تحقيق الحياة تتأسس في الظهور الأصلي لما نقصده. والإرادة التي تهيمن على الوعي الطبيعي في نزوعه القصدي نحو تحقيق الحياة بواسطة البداهة توقظ أيضا المحاسبة القائمة على المسؤولية الأخيرة المميزة للفينومينولوجيا. تنبثق الفينومينولوجيا كعلم للظهور الأصلي من إرادة تحقيق النزوع الطبيعي نحو البداهة تحقيقا أصليا. وبهذا المعنى فهي تمثل النتيجة القصوى للوعي الطبيعي | |
|