19 سبتمبر 2014 بقلم
الشيخ أحمد أبالمعالي ولد سالم فال قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:يقوم الرأي السائد في الأوساط العلمية والفلسفية على افتراض مؤداه أن المأزق الذي وقعت فيه العلوم مأزق منهجي لا علاقة له بالفلسفة، غير أن بحث هذا الافتراض من منظور فينومينولوجي سيبرز بداهته والسذاجة التي تلفه بشكل تدريجي. سأعالج، في ضوء ذلك، هذا المأزق انطلاقًا من التحول العميق الذي لحق بماهية العلوم منذ بداية النهضة، ومن ثم سأبين فكرة إصلاح الفلسفة ومكانتها ضمن مشروع مؤسس الفينومينولوجيا.
يقدم هوسرل في "محاضرات براغ" 1935 و"محاضرة فيينا" 1935، ونص "الأزمة"
* 1936 تحليلاً نقديًا لأزمة العلوم بالاتجاه إلى إصلاح الفلسفة الترنسندنتالية. ويستند هوسرل في ذلك إلى منظوره الفينومينولوجي الذي بلوره في مؤلفاته السابقة، وذلك لأن الشكل الذي أخذه المنهج الفينومينولوجي، بعد اكتشاف البعد التاريخي للوعي على وجه الخصوص، سيفتح الطريق لتشخيص الأزمة التي خيمت على العلوم وبالنتيجة ألقت بظلالها على الثقافة الأوروبية بكيفية عامة. وسيتخذ هوسرل من أزمة العلوم تيمة للبحث الفينومينولوجي ومدخلاً إلى إعادة الاعتبار للفلسفة الترنسندنتالية.
يشير هوسرل، في ضوء تحليله للأزمة، إلى أن هذه الأخيرة لا تمس صلاحية العلوم وعلميتها؛ فقد حققت العلوم نجاحات مطردة انعكست جليًا على ميادين المعرفة كافة، وإنما تمس، في العمق، دلالة هذه العلوم بالنسبة للحياة؛ أي أن "الأزمة لا تكمن في الكيفية التي حددت بها العلوم مهامها وأنشأت انطلاقًا من ذلك منهجيتها"
[sup][1][/sup]، بل تكمن في إعراضها عن الأسئلة التي لها دلالة حاسمة وعلاقة عميقة بالوجود البشري؛ يتعلق الأمر، والحالة هذه، بإقصاء العلوم لأسئلة المعنى، من مثل: الغاية والذات والتاريخ والإله والأخلاق...إلخ
[sup][2][/sup]. إن أساس أزمة العلوم هو أزمة الفهم الذاتي للإنسان
[sup][3][/sup] الذي يريد الإحاطة نسقيًا بالمشاكل الأخيرة والعليا للعالم والوجود البشري. لذلك يعود هوسرل، في معالجة هذه الوضعية، إلى التحول الجذري الذي لحق فكرة الفلسفة الشاملة بداية العصر الحديث. ابتدأ هذا التحول على مستوى العلوم الجزئية أو القطاعية مستندًا إلى استقلالية العقل العلمي وانتهى آخر المطاف بفقدان الفلسفة الترنسندنتالية مصداقيتها، وهو ما يعني فقدان الثقة بالعقل وبقدرته على توجيه الحياة المعرفية والعلمية.
[sup][4][/sup]يتابع هوسرل هذا التحول في ضوء تشبثه بالمعنى الأصلي للفلسفة القادم من التقليد الإغريقي، ويعتقد، انطلاقًا من ذلك، أن الفلسفة من الناحية التاريخية هي أول شكل ثقافي أسس ذاته على معايير العقل ورسم لنفسه مهامّ لامتناهية، وسعى إلى بناء نماذج معيارية ذات صلاحية عامة،
[sup][5][/sup] فقد كانت الفلسفة تفهم نفسها على أنها هي الدراسة الشاملة للوحدة الكلية للكائن بصفته كلاً؛ أي العلم الشامل بكلية العالم.
[sup][6][/sup] ونظرًا لاختلاف قطاعات العالم وأشكال الكائن انبثقت عن الفلسفة علومٌ خاصة اضطلعت بمهمة دراسة هذه الأشكال وتلك القطاعات دون أن تقطع الصلة بالفلسفة التي تجد فيها وحدتها النسقية؛ أي ماهيتها ومعناها.
II
لا ينكر هوسرل أن المدلول الأصلي للفلسفة سيسود في بداية النهضة، إذ كان التوجه العام هو إنشاء نظر متحرر جذريًا من سيطرة الأحكام المسبقة ومن قيود الأسطورة والتقليد، فكان ينظر إلى مشاكل الوجود الجزئية في ارتباطها بمشاكل الفلسفة، غير أن ردود الأفعال ضد الفهم السكولائي الذي أضحت فيه الفلسفة مجرد مادة دراسية سجينة المعاهد والجامعات، واتساع دائرة الفهم الميكانيكي للعالم المستند إلى الترييض سيقود، في الوقت نفسه، إلى إبداع منهج جديد وفرضه على مجالات المعرفة كلها.
[sup][7][/sup] ويتجلى ذلك، بكيفية مشخصة، في علم الطبيعة الحديث، وقد استطاع هذا الأخير تبعًا لسيادة النزعة الطبيعية والتأويل الموضوعي عليه أن يبحث في الطبيعة فوق الذاتية الموضوعية في عناصرها وقوانينها اللامشروطة،
[sup][8][/sup] بمعنى أن هدف علم الطبيعة الحديث، بسبب تشبثه بالأنموذج الرياضي، بلوغ القانونية العامة التي تحكم المعطيات، وعليه يبحث في عالم ميكانيكي مغلق؛ فعلم الطبيعة الحديث لا يدرس إلا ما هو طبيعي؛
[sup][9][/sup] أي أنه يقصي كل ما له طابع ذاتي من دائرة اهتمامه. والحال أن هذا العالم المغلق المبحوث من قِبل علم الطبيعة الحديث هو أفق لمهامّ لامتناهية يتم الاقتراب منها تدريجيًا انطلاقًا من إنجاز عدد متناهٍ منها؛ فكل مهمة يتم إنجازها تشكل مقدمة للبحث عن حقائق أقصى، أي إنها تحيلنا على مهامّ أخرى.
ولا يمكن بلوغ اللامتناه إلا ببلوغ السلسلة الكلية للمهام المتناهية، وهذا ما يجعل الحقيقة في العلم بمثابة النجم البعيد الذي نقترب منه دون أن نصل إليه، بمعنى أن اللامتناه هو ما يجعل المهام اللامتناهية ممكنة، وليس اللامتناهي هو المقابل المنطقي للمهام المتناهية، إنما هو الأساس الذي يتوقف وجود المتناهي عليه، فهو منبعه الذي يخرج منه. ويتمثل الهاجس وراء ذلك في أن الحقيقة في نظر العلم هي حقيقة لامشروطة يتم الوصول إليها تدريجيًا. وهذا هو المعنى العميق لقول هوسرل "كل اقتراب من أفقٍ لامتناهٍ يُظهر أن الحقيقة نقطة بعيدة بعدًا لا متناهياً."
[sup][10][/sup]ويلفت هوسرل الانتباه، إزاء ذلك، إلى أن علوم الروح توجد على طريق خاطئ، ذلك أنه رغم ما عرفته من تطور خصب، فإنها مع ذلك عرفت الفشل الذريع
[sup][11][/sup]. ويرجع هوسرل السبب في ذلك إلى خطأ مبدئي مؤداه أن علوم الروح تعاملت بالكيفية نفسها التي تعاملت بها علوم الطبيعة مع موضوعاتها، رغم أن الحياة الروحية تختلف جذريًا عن الواقع الطبيعي. فإذا كان علم الطبيعة لا يدرس إلا ما هو طبيعي وبالتالي يجد ذاته أمام عالم مغلق، فإن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة لعلوم الروح، إذ أن علماء الروح لا ينظرون إلى الروح بصفتها روحًا محضة، وحتى عندما ينظرون إلى ما هو روحي محض، فإنهم لا يكونون إزاء عالم مغلق.
[sup][12][/sup] لذلك لجأ علماء الروح بإغواء من النزعة الطبيعية والتأويل الموضوعي إلى ما هو جسمي، إلى القاعدة التحتية الجسمية، بتعبير هوسرل، معتمدين على الفيزياء ذات النزعة الرياضية.
إن المشكل المنهجي لعلوم الروح أساسه تقيدها الصارم بمطلب الموضوعية، واختزالها لتيمتها المحورية في قطب أو بعد واحد، فلم تستطع تلافي أزمة علوم الطبيعة الناتجة عن نسيانها عالم التجربة اليومية، أي العوالم السابقة عليها التي هي في الواقع أرضيتها الأصلية؛ بمعنى أن ما حدث من علوم الطبيعة من فصل الموضوعات عن روابطها الأصلية وكيفيات عطائها الذاتية كان قد تكرر مع علوم الروح. صحيح أن عزل الموضوعات في أفق تجليها الأصلي الذي مكّن العلوم من تعزيز كفاءتها وتسييدها على الموضوعات يعود إلى عدم اكتفائها بالتجربة المباشرة؛ أي بكيفية التجلي الذاتي النسبي، بحكم السعي إلى القانونية العامة التي تحكم المعطيات. إلا أن ذلك أدى بها إلى إسقاط الأسئلة الأساسية للوجود البشري، بمعنى أن نزوع العلوم إلى بلوغ قوانين عامة لامشروطة سيؤدي بها إلى الانصراف عن الفلسفة، وبالتالي التضحية بإنشاء معرفة صارمة متحررًا جذريًا من قيود الأسطورة لحساب معارف جزئية أو قطاعية يأخذ هذا شكله البارز في التخصص المتزايد للعلوم الذي سيؤدي إلى ابتعاد ميادينها بعضها عن بعض واختلاف أساليب معالجتها جذريًا في أساس ماهيتها.
[sup][13][/sup]III
يحاول هوسرل انطلاقًا، من ذلك التفكير بإصلاح الفلسفة وإعادة الاعتبار لها، وذلك لأنه لا يمكن تجاوز هذه الأزمة إلا بتعميق جذري تستعيد فيه الفلسفة مهمتها ومعناها الأصليين بصفتها الحاضنة للعلوم الجزئية، وتعيد فيه هذه الأخيرة بناء الثقة بينها وبين عالم العيش. فالعلم عندما يطرح أسئلته يطرحها على أساس من عالم العيش، إذ الحقيقة العلمية مراقبة وكأنها تسجيل لما هو العالم.
نجد فكرة إصلاح الفلسفة، صراحةً أو ضمنًا، في المؤلفات السابقة لهوسرل على اعتبار أن إصلاح الفلسفة هو الخيط الموجه لتلك المؤلفات، وقد استطاع هوسرل تقديم تصوره للفلسفة التي يفهمها كفينومينولوجيا في نصوص مختلفة، من مثل: "الأبحاث"، ومقاله "الفلسفة كعلم صارم"، و"فكرة الفينومينولوجيا"، ومؤلف "الأفكار"، وقد انصب اهتمام هوسرل في الجزء الأول من "الأفكار" المعنون بـ"مدخل عام إلى الفينومينولوجيا الخالصة" وفي نص "التركيب الانفعالي" على بيان الموقف الطبيعي الذي نتبناه، حسب هوسرل، ضمنيًا وبكيفية تلقائية. فالأشياء تتجلى لنا في مقاطع منظورة من جانب معين. ومهما كان إدراكنا للشيء كاملاً، فإننا لا نحيط أبدًا بكلية خصائصه التي تنتمي له وتشكله معنىً،
[sup][14][/sup] فالموضوعات مرتبطة بوضعيات ذاتية نسبية، ومع ذلك فإننا لا نمتنع عن أن نصدر حولها حكمًا يشمل حتى الجوانب التي لا ندركها فعليًا، فوعينا الأصلي يشتمل إلى جانب ما هو مدرك فعليًا على جوانب أخرى ليست حاضرة بشكل أصلي. إن الجوانب غير المرئية في الموضوع هي بالنسبة لوعينا حاضرة بكيفية ما، فهي تشارك رغم أنها لا تتجلى بشكل فعلي.
[sup][15][/sup] فما ننسبه لموضوع الإدراك يتخطى كيفيات عطائه، ذلك أن وعينا الأصلي بجانب من الموضوع يحمل دائمًا إحالة على جوانب أخرى متعددة للموضوع، بل سلاسل مختلفة من الإدراكات.
[sup][16][/sup] ويتبدى في كل إدراك للموضوع جوانب أخرى يبرزها الأخير. إننا نصدر في الموقف الطبيعي، وبشكل ضمني، حكمًا حول وجود الموضوعات. هذا الحكم المتعلق بوجود الموضوعات المكانية يتخطاها، في الوقت نفسه، ليشمل العالم. ويمكن أن نحقق في إدراك الموضوعات ويمكن أن نحذفها لكن هناك شيء لا يمكننا حذفه هو العالم
[sup][17][/sup]. العالم هو الإنجاز العام لأطروحة الموقف الطبيعي.
يتبين أن الموقف الطبيعي، ليس في الواقع، موقف نقدي؛ فنحن لا نميل فيه إلى الأشياء المعطاة لنا بالتجربة الحسية المباشرة ونعتقد بوجودها تلقائيًا؛ فالوعي القصدي يبقى في الموقف الطبيعي، غارقًا في الموضوعات التي يتركز عليها اهتمامه، والتي يعتقد تلقائيًا بوجودها، في حين تبقى كيفيات عطائها، أقصد الأشكال التي تتقدم فيها تلك الموضوعات، خارج حلقة انتباهه.
ويؤكد المنظور الفينومينولوجي على ضرورة تحويل الموقف الطبيعي إلى موقف فلسفي، وهذا التحويل ممكن بالفعل بواسطة الأيبوخى الفينومينولوجي.
[sup][18][/sup] لا يقصد هوسرل بالأيبوخى الفينومينولوجي إلغاء الموقف الطبيعي المعتقد، تلقائيًا، في وجود الموضوعات، وإنما يقصد به التوقف عن إصدار أحكام حولها، أي وضعها بين قوسين. ولا يكون الأيبوخى الفينومينولوجي شموليًا، في تقدير هوسرل، إلا إذا طال الاعتقاد بوجود العالم، بمعنى تم التوقف عن إنجاز الأطروحة العامة للموقف الطبيعي.
[sup][19][/sup] ويعتقد هوسرل أن شمولية الأيبوخى الفينومينولوجي لا تتعارض مع أن هناك مجالاً يبقى مستثنى منه، وذلك لأننا رغم إنجازنا للأيبوخى الفينومينولوجي، فإننا نصدر ادعاءات وأحكامًا خارج دائرته، ولا ينتمي المجال المستثنى للعالم، وهذا المجال هو الوعي المحض.
[sup][20][/sup] ويهتدي هوسرل إليه انطلاقًا من اختلاف نمط وجود الوعي عن كيفية وجود موضوعات العالم، فإذا كانت هذه الأخيرة تعطى في مقاطع منظورية، فلا تعطى لنا دفعة واحدة، وبالتالي تتعالى على وعينا. وعلى العكس من ذلك فعندما ينعكس الوعي على فعل من أفعاله القصدية، فإنه يعطى دفعة واحدة. إن اختلاف الوعي عن الموضوع هو ما يجعله استثناء من الأيبوخى، وليس هذا ضدًا على شموليته. ويفسر هوسرل، بعد إنجاز الأيبوخى، الكيفية التي يتوصل بها الوعي إلى الاعتقاد بموضوعات متعالية عليه. فالوعي لا يبقى في بيته الداخلي، بل إنه يتعداها لينسب للموضوعات وجوًدا في العالم، مقتنعًا بتعاليها عليه. إن المهمة الأساسية للفلسفة الفينومينولوجية هي بيان هذا البناء عن طريق الإرجاع الماهوي.
VI
ويتبين انطلاقًا من التحليلات السابقة، أنه من أجل أن تصبح الفلسفة علمًا بالمعنى الصارم ينبغي لها أن تستعيد وحدتها النسقية بصياغة نظرية شاملة لمختلف مجالات الحياة، وأن تقوم في الوقت نفسه بتوجيه هذه الأخيرة في ضوء معايير العقل وقيمه، لذا عمد هوسرل إلى صياغة برنامج فينومينولوجيا ترنسندنتالية تدرك حدود "العقل الحديث في ماهيته كعقل تحليلي سيكولوجي ترنسندنتالي."
[sup][21][/sup] من هنا نفهم بعمق الإشارة القوية التي أوردها هوسرل في تأملات ميتافيزيقية، تفصح عن اقتناع عميق بأن إصلاح الفلسفة يقتضي القيام بإصلاح موازٍ للعلوم التي تحتاج لكي تكون أصيلة أن تراجع أسسها الواهنة.
[sup][22][/sup]