ربيعة " ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
عدد الرسائل : 204
تاريخ التسجيل : 26/10/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2
| | الوظيفة التأسيسية للذات عند هوسرل | |
لا نعتقد أن مؤرخا ما لتاريخ الفلسفة سيعارض فكرة نشأة الفينومينولوجيا ارتبطت بالدرجة الأولى بالدفاع عن ربط الفلسفة من جديد بمسألة التأسيس من جهة، وعن ربط التأسيس من جهة ثانية بالإنسان. ولعل كتابات إدموند هوسرل تبقى رائدة في هذا المجال، وبالخصوص منها أفكار أساسية من أجل فينومينولوجيا والتأملات الديكارتية. يتضح من خلال هذين الكتابين أن مسألة الذات هي المسألة الفعلية التي ينبغي أن تهتم بها الفلسفة لتعيد لها الاعتبار، ولتزيل عنها العوائق التي منعتها من أن تحتل المكانة الأولى في التأسيس. قد تبدو الجملة الشهيرة التي تتكرر في كتابات هوسرل والفينومينولوجيين على العموم، "إن الوعي هو دائما وعي بشيء ما"، دفاعا عن سلبية الوعي في تفاعله مع الواقع الخارجي، بل ربما كانت محاولة لاختزاله في ما هو غيره، أي في عالمه ومحيطه. غير أن تتبع التحاليل الهوسرلية سرعان ما يؤدي بنا إلى العكس تماما، حيث نراه يجعل من الوعي، أي من الذات، الكائن الذي يتمتع وحده بالقدرة على التأسيس. وإن ربط وجود الوعي بالأشياء الخارجية وسيلة لتجنب كل فكرة قد تجعل منه حاملا لمعان يستمدها من مصدر غير مصدر ارتباطه بالأشياء، أو أن يجسد وجودا ما من غير الوجود الذي يتجسد عبره في انفتاحه على الأشياء. إن اعتبار الوعي وعيا بشيء ما مفاده أنه لا يحمل في حد ذاته فكرة الإله أو الكمال أو الخلود مثلا، كل معنى صادر عن الوعي يحصل انطلاقا من ارتباط هذا الأخير بالأشياء. فالتأكيد على الجملة السالفة الذكر يهدف إلى الإعلاء بالوعي وقيمته الوجودية وليس إلى إثارة تبعيته لوجودات سواه. وتتأكد القيمة التي يوليها هوسرل للذات في تحديده لما يسميه بالاختزال الفينومينولوجي. إننا نتمكن، حسب تحليله، من وضع كل ما يجسد معيشا معينا، أي كل تفاعل بين الوعي والأشياء، بين قوسين بما في ذلك الأنا الأمبريقية(1) وكذلك الكائن الإلهي نفسه(2) هناك كائن واحد لا يخضع للاختزال ألا وهو الوعي المحض أو الأنا المحضة. إن الأنا المحضة هي التي تتمتع بالوجود المطلق لأنها هي وحدها التي يتبين أن وجودها وجود ضروري، وذلك لعدم رضوخها للاختزال الفينومينولوجي. "لقد منح لنا الاختزال الفينومينولوجي إمبراطورية، من الوعي الترنسندنتالية: ولقد كان ذلك، بمعنى معين، إمبراطورية الوجود "المطلق". إنه المقولة النموذجية للوجود على العموم (أو المنطقة النموذجية في لغتنا نحن)؛ إن المناطق الأخرى تأتي إليها لتستقر فيها؛ إنها ترتبط بها بموجب ماهيتها؛ ومن ثم فإنها تتوقف عليها كلها(3). تظل الأنا إذن فارضة نفسها في وجه القائم بالاختزال الفينومينولوجي كحقيقة وجودية. إنها آخر ما ينتهي إليه التحليل، وأول ما سينطلق منه في العملية العكسية. إنها تتمتع بالضرورة كما تتمتع بالهوية لكونها تفرض نفسها عبر كل التقلبات التي يعرفها المعيش وتحافظ على ذاتها عبر كل التغيرات التي تلحق الأنا التجريبية. ويتجلى لنا حزم هوسرل على الإقرار لوجود الذات (أو الإنسان) كأساس كل بناء، نظري كان أو عملي، في الطريقة التي سيتعامل بها مع ما يسميه بالأنا المحضة. فبعد تعرضه لبعض الصعوبات في تحديد مكونات الأنا الترنسندنتالية، بل وبعد اعترافه بعدم توفر تلك الإمكانية، نجده يصر مع ذلك على إسناد مجموعة من المهام للذات تتولاها باستمرار من تلقاء نفسها. هكذا نجد بداية حديثه عن الوعي الترنسندنتالي تكتفي بالاعتراف بوجوده فقط حيث يقول "وحتى إذا كانت الأنا متشابكة بهذه الطريقة الخاصة مع كل "معيشاتها" التي تحياها، فإنها ليست مع ذلك بتاتا بشيء ما يمكن اعتباره لذاته وتناوله كما لو كان موضوعا خاصة للدراسة. فإذا تغاضينا عن "طريقة ارتباطها" أو "طريقة تصرفها" فإنها ستكون مجردة بشكل مطلق من المكونات الماهوية، بل ستكون مجردة بشكل مطلق من المكونات الماهوية، بل إنها لن تتوفر على أي محتوى يمكننا توضيحه. إنها غير ممكنة الوصف في ذاتها ولذاتها: إنها أنا خاصا ولا شيء "أكثر من ذلك"(4). غير أن القارئ سرعان ما يقع بعد اجتياز مجموعة قليلة من الصفحات على كلام يسير في اتجاه مخالف لما يقر به القول السابق، حيث نجد الفيلسوف يعمد إلى ضبط التحديد الذي كان قد نفي إمكانيته، وإلى إيجاد وظيفة للأنا من علاقة حميمية بمحتواها، بعدما أن أكد على غيابها. بمعنى آخر يلاحظ القارئ أن الأنا بدأت تصبح تدريجيا شيئا ما بعد ما قيل إنها "ليست بتاتا بشيء ما". هذا ما تؤكده الفقرة الآتية: "إن الوعي هو بالضبط وعي بشي ما؛ إنه لمن ماهيته أن يحتوي بداخله على "معنى" يكون إن صح التعبير كنه "النفس" و"الروح" و"العقل". لا تنطبق تسمية الوعي على "عقد نفسية" و"محتويات" منصهرة معا و"مجموعات" أو سيولات من "الإحساسات" قد يمكنها، نظرا لعدم توفرها في ذاتها على معنى ما، التعرض لأي اختلاط دون خلق معنى معين. إن الوعي على العكس من ذلك هو وعي في كليته. إنه منبع كل عقل وكل لا عقل، كل حق ولا حق، كل ما هو واقعي وما هو من نسيج الخيال، كل قيمة ولا قيمة، كل فعل ولا فعل. يختلف الوعي إذن كليا عما يريد المذهب الحسي أن يختزله فيه، وعن المادة التي هي فارغة في حد ذاتها من المعنى والتي هي غير عقلية حتى وإن كانت تسمح بكل تأكيد بعقلنتها(5). يحدد هوسرل هنا بكل وضوح وظيفة الوعي. إنه مصدر المعنى. ولا يمكن لهذا الأخير حسب هذه الفقرة -وحسب توجه كتابات هوسرل على العموم- أن يرتبط بمنبع آخر غير الوعي. ولعل ما ينبغي التركيز عليه هنا هو ضرورة ربط المعنى بالوعي الفردي. لأن التوصل إلى مثل هذه الحقيقة، صدور المعنى عن الوعي، يتم عند ممارستنا للاختزال الفينومينولوجي وتصفية الوعي من كل ما هو غيره. وممارسة الاختزال تتم من طرف الذات الواحدة على ذاتها نفسها. صحيح إن فقرات كثيرة وفصولا متعددة يخصصها هوسرل للكيانات الروحية كثقافية مجتمع ما أو دينه أو حضارته، ونخص بالذكر التأمل الخامس من تأملات ديكارت، وصحيح أيضا إن هذه الكيانات مشحونة كلها بالمعنى وتعمل على نشره وزرعه؛ غير أن إثارة المعنى بصدد الثقافة والحضارة لا يتم إلا للتأكيد على الذات كمصدر للمعنى وليس العكس. إذ أن الأنا الترنسندنتالية تتمكن من ممارسة الاختزال بصدد ما يعمر محيطها. وما دامت الذات مصدر كل معنى فإنه يصعب تفسير سلوك إنساني معين، أي تحديد معناه، انطلاقا من مخزون نفسي مثلا، أو من مجموعة من غرائز تتغلب عند الفرد على جانبه العقلي، وتتحايل عليه لتجرده منه كي تنفرد بتوجيه سلوكه. كما أن نتاج الخيال بدوره لا يمكن إسناده في جانب منه أو في كليته إلى مجموعة من الاستلهامات والقوى الغامضة تكون دفينة عند الفرد وغير مدركة من طرف عقله، ومن ثمة منفلتة من مجال الوعي. إن ما يهمنا أكثر في الفقرة السالفة الذكر هو تلك الإثارة للوعي كمصدر "لكل قانون ولا قانون"، ولـ"كل قيمة ولا قيمة". ففي هذا تأكيد واضح كل الوضوح على ربط الأساس بالذات، ومن ثمة بالإنسان وبالإنسان وحده. فجعل الوعي قائما عند أصل كل تشريع في مجال القانون، وعند أصل كل تقويم في مجال الأخلاق، لا يمكن أن يهدف إلى شيء آخر غير اعتبار الإنسان مصدر وهدف القانون والأخلاق. لا مجال لإدراج بعد غير إنساني للتنظير في إطار هذين الحقلين الأخيرين. وسنلاحظ أن لهوسرل أهمية جسيمة بهذا الصدد. إنه كان أول فيلسوف يطرح مسألة الذات لإعادتها إلى الساحة الفكرية بعدما كادت أن تنمحي في مجال الفلسفة تحت التأثير الهيجلي، هذا مع الوعي الكامل بضرورة التغلب على المصاعب التي عرفتها الفلسفة الحديثة عند جعلها من مسألة الذات القضية الفلسفية الأولى، خاصة فلسفة ديكارت وليبنتز وكانط. ماذا نقصد بمصاعب الفلسفة الحديثة؟ إن قارئ التأملات(6) لديكارت والمونادولوجيا لليبنتز وأسس ميتافيزيقا الأخلاق لكانط ينتبه، دون أن يكلف نفسه مجهودا في التفكير وعمقا في النظر، إلى المكانة التي يوليها الفلاسفة الثلاثة للكائن الإنساني ليجعلوا منه أساسا للفعل المعرفي والعملي معا. فديكارت لن يحصل على اليقين بالشكل الذي تقتضيه الصرامة الفلسفية والخروج، من ثمة، من الشك الذي هيمن على نشاطه الفكري سوى بعد اكتشافه للحقيقة المرتبطة بوجود "الأنا أفكر". إنه اكتشاف جعله يعرف الارتياح والطمأنينة الأساسيين للاستمرار في التنظير الفلسفي. وسيحدث اليقين الذي تفرضه "الأنا أفكر" تحولا في تاريخ الفلسفة بأسره، وليس في فكر ديكارت وحده، لتصبح منطلق عهد جديد سيسمى بالحداثة، إلى درجة أنه لا يمكن لمؤرخ الفلسفة أن تبدأ في رصد الأسس الفكرية للحداثة دون التأكيد على هذه الجملة "أنا أفكر" وجعلها في مقدمة العناصر التي تُثار بهذا الصدد. وإذا كان ديكارت يلقب بأبي الحداثة فالفضل الأكبر في ذلك راجع إلى توقفه عند هذه الجملة ليجعل منها منطلق الفلسفة، أي منطلق البحث في اليقين والبداهة والضرورة. وبانتقالنا من ديكارت إلى ليبنتز لا تزداد مسألة الذات إلا تعمقا. فالاستقلالية التي تمتاز بها المونادات والقوى لتي تتمتع بها والفعل الذي يلازمها يجعلون منها كائنا يحل محل المكانة التي تقتصر على الكائن الإلهي، أي أساس الفعل النظري والعملي معا. ولا يمكننا جهل الأهمية التي يوليها هيدجر لليبنتز بهذا الصدد بالضبط حيث يرجع تأويله لمبدإ إرادة القوة عند نيتشه إلى حدود ليبنتز للإشادة بفضله في إبراز أهمية القوة عند الإنسان وربط الإادة بها(7). أما في ما يخص كانط فإن أعلاءه للكائن الإنساني في مجال فلسفة الفعل شكل منطقة تفكيره. ولعل كتاب أسس ميتافيزيقا الأخلاق(8) كاف هو وحده للبرهنة على هذه الفكرة. يؤكد كانط منذ بداية الكتاب على ضرورة التفرقة بين المبادئ المتعالية والمبادئ المحديثة في مجال الأخلاق. إن مثل هذه التفرقة هي الدافع الأساسي في دعوى كانط إلى الانطلاق من العقل الخالص في مجال الأخلاق كما هو الأمر في مجال المعرفة، كي لا ننساق في تنظيرنا للفعل الخير مع مبدإ ما لا يحتويه العقل المحض، أي خارج عن الإنسان. وينتهي كانط، كما نعلم، بعد صفحات قليلة من الكتاب، إلى أن أساس الذي ينبني عليه الواجد هو الحرية، أو ما يسميه بالأنا الخالصة. هكذا يعضي من محددات الواجب في أن واحد ما هو متعال كالوجود الإلهي والخلود مثلا، وما هو تجريبي كالرغبات والأهواء والميول لكونها تخضع أكثر مما تخضع. إن ربط الأساس بالذات، ومن ثمة بالإنسان، عند كانط، مسألة لا تستدعي البرهنة، لأن مختلف نصوصه تؤكد ذلك بشكل واضح. وإذا كان ليبنتز قد عمل على تجذير الديكارتية فيمكننا القول إن كانط سار في هذا التجذير بعيدا، وتحمل تلك المسؤولية بشكل أكبر. لا نريد الخوض هنا في التفاصيل لأن الموضوع لا يهمنا بشكل مباشر، وإنما نود إثارة أهم ما يميز نظريته المعرفية بهذا الصدد من أجل التوضيح فقط. إن كانط هو أول فيلسوف يقلب معنى مفهوم ترنسندنتال ليربطه بالشروط القبلية لقيام المعرفة أي بالوجود المحايث، أي بالذات، بدل التعامل معه بمعنى التعالي كما كان الأمر من قبل. كما أن إعطاء الأهمية المفهومي الزمان والمكان والمقولات في عملية المعرفة لإبعاد هذه الأخيرة عن كل فطرية، يعبر عن رغبة الفيلسوف في جعل بداية المعرفة مقرونة بمبادرة إنسانية وكونها لا تنجم إلا عن تلك المبادرة، يمكن القول بالتعبير الفينومينولوجي إن المعرفة بهذا المعنى تكون فعلا (Acte ). ما هو الجديد إذن عند هوسرل فيما يخص مسألة الذات وعلاقتها بالتأسيس؟ أو لماذا يعود هوسرل من جديد إلى هذا الاشكال، مادام أن كبار الفلاسفة المحدثين تناولوها بإسهاب، وأكدوا في مجالات متعددة كالمعرفة والسياسة والأخلاق؟ كانت العودة مقصودة، وكان الهدف منها كما يتبين بالدرجة الأولى من خلال تأملات ديكارتية هو تعميق الاتجاه الذي يربط الأساس بالإنسان، بتخليصه من كل ما يمكن أن يكون غير إنساني، أو من كل ما يمكن أن يبدو أنه قد يفعل فعل الإنسان، أو بعوض بفعله. صحيح إن هيدجر -تلميذ هوسرل- يحسم في الأمر، ويخلص إلى أن ربط الأساس بالذات وبالإنسان موضوع نفذته الفلسفة الحديثة، وما العودة إليه إلا محاولة لإحياء هذه الأخيرة للاستمرار في التفلسف في إطار الميتافيزيقا، أي الاستمرار في رؤية الموجود وتمثله بدل الاستماع للوجود. ولقد أثار انتباهنا كون هيدجر لا يشير إلى أستاذه في كتاباته المتعلقة بموضوع ربط الأساس بالإنسان، رغم أن ما يقوله عن ديكارت وليبنتز وكانط وشلنغ مثلا ينطبق على أستاذه أكثر مما ينطبق عليهم. فالتحديد الذي يعطيه هيدجر للوعي لدى المحدثين يناسب النظرة التي تعرضنا لها أعلاه عند هوسرل أكثر مما يناسب أي فيلسوف حديث آخر. لنورد هذا التعريف: "إن هذا الأخير (أي الوعي) هو التأسيس التمثيلي الذي يجمع الموضوعي والإنسان المتمثل داخل بعد الوجود المتمثل الذي يحرص عليه الإنسان بذاته. وانطلاقا منه يتلقى كل حاضر معنى وجنس حضوره، أي معنى وجنس الحضور في التمثل. يحدد وعي الأنا، من حيث هي ذات الفكر ومن حيث هي حقيقة وجود الذات المتميزة بهذا الشكل، وجود الموجود"(9). ويكمن الجديد عند هوسرل فيما يخص مسألة التأسيس انطلاقا من الذات في تطهيره للوعي من كل ما هو ليس وعيا إنسانيا، الشيء الذي سيجعل التأسيس لا يخرج بتاتا عن نطاق الإنسان. فالفلاسفة المحدثون الثلاثة الذين أشرنا إليهم أعلاه يظلون في نظر هوسرل، رغم الخطوات الجبارة والهائلة التي قطعوها في تطهير الوعي، بعيدين عن ربط مسألة التأسيس بالأنا الترنسندنتالية وحدها، أي بما هو محايث وحده. وهنا يكمن الاختلاف الواضح بين نظريتي هوسرل وهيدجر إلى الفلسفة الحديثة. لم تكن إشارتنا إلى ديكارت وليبنتز وكانط عشوائية. فالتأملات الديكارتية تنتقد بشكل مباشر موقف ديكارت من مسزلة تظهير الوعي، كما أنها لم تهمل إثارة كل من ليبنتز وكانط حتى وإن كان كاتبها لا يثير الاسمين. فما هو مضمون هذا النقد؟ يمكن اعتبار هوسرل في الحقيقة رائد الفكرة التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين عند مجموعة قليلة من المؤرخين للفلسفة الحديثة، وعند كثير منهم في النصف الثاني من هذا القرن. تلك الفكرة القائلة بأن الفلسفة الحديثة أعطت فعلا دورا إيجابيا كبيرا للعقل، وأعلت بدون أدنى شك من قيمة الإنسان، ولكن دون أن تذهب مع ذلك إلى حدود إحلال الإنسان محل الكائن الإلهي بشكل نهائي، ولا إلى اعتبار العقل الأساس الأول والأخير في مجالي التنظير والتسيير بالشكل المتداول لدى أغلبية مؤرخي الفلسفة. صحيح إن هوسرل، رائد الفينومينولوجيا، لم ينطلق ضد الفلسفة الحديثة فالدافع عنده إلى "الرجوع إلى الأشياء ذاتها" هو محاربة الاتجاه الذي "منح للوعي واقعية طبيعية"(10)، ربما يترتب عن هذه الفكرة أو يمكن أن يترتب عنها من إضفاء للطابع الموضوعي على النشاط الإنساني واختزاله في مجموعة من الظواهر تماثل، إن لم نقل توازي، الظواهر الطبيعية الأخرى من حيث نوعية تركيب علاقاتها، ومن حيث تحديد تلك العلاقات. غير أن التصدي لهذا الاتجاه يفرض العودة إلى الوراء لرؤية ما إذا كان تاريخ الفلسفة يمكنه أن يمدنا بأدوات تساعدنا في تلك العملية. في هذا السياق يأتي تناول هوسرل للفلسفة الحديثة، إذ تمده بمجموعة من الأفكار ذات قيمة كبيرة داخل المعركة التي يخوضها. ومن الطبيعي أن تخضع هذه الأفكار للفحص والغربلة. فلو لم يكن يشوبها نقص لما ظهرت العاهة بعد انتشارها. هذا مع العلم أنها لا تتحمل مسؤولية مواجهة فكرة الموضوعية السالفة الذكر، لأن هذه الأخيرة لم تكن إشكالية عصرها، بالإضافة إلى أن واضع نقط انطلاق فكرة ما لا يكون مطالبا بالضرورة بالتنبؤ بكل ما ينبغي أن تواجهه الفكرة. إن الليونة التي يتعامل بها هوسرل مع الفلاسفة المحدثين في تقويمه لهم تعبر في الحقيقة عن تقديره العميق للعامل التاريخي الذي يخضع له الفكر حتى وإن كان لا يكشف في تحليله وتفكيره عن أي اهتمام به. نقرأ في التأملات الديكارتية ما يلي: "ماذا يمكن أن يقدمه حصول الوعي الذاتي الترنسندنتالي المرتبط بالفينومينولوجيا عن هذا الموضوع (البداهة والموضوعية)؟ لا شيء أقل من التأكيد على أن هذا المشكل عبارة عن معنى معكوس. إنه معنى معكوس لم يتمكن ديكارت نفسه من الانفلات منه، لأنه أخطأ في المعنى الحقيقي لإيبوكيته (?och? ) الترنسندنتالية والاختزال في الأنا الخالصة، لدى الفكر اللاحق لديكارت هو أكثر فظاعة، وذلك بالضبط نظرا لجهله الكلي بالإيبوكي الديكارتية. إننا نتساءل: ما هي هذه الأنا التي تملك حق طرح مثل هذه الأسئلة الترنسندنتالية؟ هل يمكن لي القيام بذلك كإنسان طبيعي؟ هل يمكن لي أن أتساءل بجدية كيف يمكن لي الخروج من جزيرة وعيي، وكيف يمكن لما هو معيش بوعيي، كبداهة، أن يحثل على معنى موضوعي؟ فبتناول نفسي كأنا طبيعية أكون قد أنجزت عملية إدراك نتأمل لعالم المكان، وأخذت نفسي كمحتل للمكان الذي أماك فيه مسبقا عالما خارجا عني. أليست قيمة الإدراك المتأمل للعالم مفترضة مسبقا في الطرح ذاته للعالم؟ ألا تدخل في معنى المسألة ذاته؟ هكذا كان ينبغي أن ينتج تبرير قيمتها الموضوعية من حلها فقط. إنه ينبغي القيام عن وعي بالاختزال الفينومينولوجي للوصول إلى الأنا وإلى الوعي اللذين تفترض فيهما إمكانية طرح الأسئلة المتصلة بإمكانية المعرفة الترنسندنتالية. ولكن إذا تحولنا كـ"أنا" خالصة إلى أخذ الوعي بذاتنا بشكل منتظم، وإلى توضيح مجموع حقل وعينا، بدل الاكتفاء بإيبوكي فينومينولوجية سريعة، فإننا نعترف أن كل ما يوجد بالنسبة للوعي يتأسس بداخله. ونعترف بعد ذلك بأن كل جنس من الوجود، بما في ذلك الوجود الذي نضفي عليه خاصية التعالي كيفما كان المعنى الذي يؤخذ فيه، يتوفر على تشكله الخاص به. فكل شكل من التعالي هو عبارة عن معنى يتشكل داخل الأنا. وكل معنى وكل وجود يمكن تصورهما، سواء سميا بمحايثين أو بمتعاليين، فإنهما ينتميان إلى مجال الذاتية الترنسندنتالية. وإذا كانت هذه الأخيرة هي فضاء المعنى الممكن، فإن الشيء الذي سيؤخذ كخارج عنها سيكون عبارة عن لا معنى. بل إن كان لا معنى. بل كل لا معنى ما هو إلا نمط من المعنى ويمكن إظهار بداهة عبثيته(11). إن ما يأخذه هوسرل على ديكارت، حسب هذا النص، هو عدم توقفه عند حدود اكتشافه الرائع، أي عند يقين وجود أناه الخالصة، والأخذ بها كأساس لكل بداهة. لم يكن هوسرل من القائلين بكون ديكارت يؤسس اليقين والبداهة على العقل الإنساني وحده. إنه لا يحكم على مبدع الكوجيتو انطلاقا من الأفكار السائدة ولا انطلاقا من الروح الفكرية المسيطرة ظاهريا عند الفيلسوف. إنه يعمد إلى تتبع النصوص في تفاصيلها لينفذ إلى الفكرة في شموليتها وإلى الإحاطة بالإطار الكلي. صحيح إن هوسرل لا يقدم لنا نصوصا ديكارتية للبرهنة على الفكرة التي يدافع عنها، ولكن الخلاصة التي ينتهي إليها تبين لنا مدى تغلغله في جزئيات النصوص الديكارتية للحكم عليها انطلاقا من مضامينها. نحن نعلم أن نهاية التأمل الثاني يبدأ ديمارت في وضع حدود لشكه حيث يتأكد من كونه شيئا ما يفكر ومن ثمة يوجد. ولكن يمر مباشرة بعد حصوله على هذا اليقين إلى تخصيص التأمل الثالث للبرهنة على وجود الإله، أو لفحص فكرة وجود الإله. والأكثر من ذلك إنه يصرح بعدم قدرته على التيقن من أي شيء (chose ) مادام لم يفحص ما إذا كان الإله موجودا، وما إذا كان من الممكن، في حالة إثبات وجوده، أن يكون ضالا(12). صحيح أن ديكارت يقر، قبل هذا التصريح، بأنه لا يمكن لأي كان أن يضله فيما يخص يقين وجوده وفيما يخص كون اثنين وثلاثة مجموعة معا تساويان خمسة، وكذلك فيما يخص أشياء من هذا القبيل؛ ولكن السؤال الفلسفي المطروح، والذي انتبه إليه هوسرل، هو الآتي: لماذا لم يتوقف ديمارت عند حدود هذا اليقين الأول الذي يقر به، فلا ينتقل إلى البحث في موضوع آخر يعتبر لا أساسيا في التيقن من حقيقة الأشياء؟ الجواب بسيط. إن العلاقة بين الأنا والوجود الخارجي لا تتأسس على الأنا وحدها. أو إن البناء وسط العالم الخارجي لا يمكن أن يقوم على اليقين المرتبط بالأنا وحدها. إن ضمان أساس لهذه العلاقة لا يمكن أن يكون سوى كائن آخر أقوى وأكمل من الكائن الإنساني. يبين لنا التأمل الثالث أن ديكارت يريد بعد تأكده من وجوده، فحص ما إذا كانت "الأنا أفكر" مصدر الأفكار التي تحملها، ثم ما إذا كانت تتوفر على المعايير التي تسمح لها بالإقرار بصحة أو عدم صحة تلك الأفكار. بمعنى آخر إنه يتساءل عما إذا كانت "الأنا أفكر" أساس أفكارها وأساس حقيقة الأحكام التي تصدرها. إن ما هو متأكد منه بعد اكتشاف الكوجيتو هو "أن مشاعره وتخيلاته، من حيث هي طرق في التفكير تقطن وتلتقي بكل تأكيد بداخله" وأنه لا يعرف ما هو مطلوب للتأكد من شيء ما معنى هذا أن "الاختزال الفينومينولوجي" الذي يقوم به ديكارت لا ينتهي به ديكارت لا ينتهي به إلى جعل الوعي آخر ما تنتهي إليه عملية التطهير. فهو يجد نفسه مضطرا للاستمرار في الصعود نحو حقل نهائي آخر، بدل التوقف عند حدود حقل الخالص، والرجوع من جديد نحو الأشياء الخارجية أو نحو ما هو غير محايث، كما هو الأمر بالنسبة للفينومينولوجيا الترنسندنتالية التي تستحق فعلا بهذا الشرط أن تكون فلسفة الذاتية. إن التأكيد على كون طرق التفكير والأفكار نفسها تلتقي داخل الأنا وتقطنها معناه أن هذه الأخيرة ليست بالضرورة مصدرها، ومن ثمة ينبغي الصعود إلى ما بعد الأنا أو الأنا أو ما وراء الأنا. وهذا ما يثيره ديكارت مباشرة بعد انتهائه من تدقيق الفكرة السالفة الذكر. يبين النص الآتي ذلك بشكل واضح جدا: "ولكن حينما كنت أهتم بشيء ما في منتهى البساطة ومنتهى السهولة يمس علم الحساب والهندسة كإضافة اثنين إلى ثلاثة مثلا تعطي عدد خمسة وأشياء أخرى مشابهة، ألم أكن أتصورهما على الأقل بما فيه الكفاية من الوضوح لإثبات كونها حقيقة؟ بالتأكيد، إذا حكمت منذ الحين بإمكانية شكنا في هذه الأشياء، فلم يكن الأكثر راجعا بتاتا إلى سبب آخر غير حضور فكرة إلى ذهني مفادها أن هناك ربما إلها ما تمكن من منحي طبيعة من هذا النوع، تجعلني أخطئ حتى فيما يمس الأشياء التي تبدو لي أكثر وضوحا. ولكن كلما خطرت أمام ذهني هذه الفكرة الرائجة التي تصورتها أعلاه كقوة مطلقة للإله، فإنني أضطر إلى الاعتراف بمدى سهولة التصرف عنده، إن أراد ذلك، بشكل يجعلني أنخدع حتى في الأشياء التي أعتقد معرفتها ببداهة كبيرة جدا. وكلما أدرت وجهي، على العكس من ذلك، نحو الأشياء التي اعتقد تصورها بوضوح كبير، فإنني أكون مقتنعا جدا بحيث أنساق من تلقاء نفسي نحو قول هذه الكلمات: ليخدعني من كان في استطاعته ذلك، غير أن ما لا يمكن فعله هو أن أكون لا شيئا في الوقت الذي أفكر فيه بأنني عبارة عن شيء ما، أو أن يكون صحيحا ذات يوم أنني لم أوجد أبدا، مادام أنه حقيقة كوني أوجد الآن (...) أكيد ما دمت لا أتوفر على أي حجة لأعتقد في وجود إله ما يمكنه خداعي، بل وأنني ما زلت لم أعاين بعد الحجج التي تبرهن على وجود إله، فإن سبب الشك المرتبط بهذا الرأي يظل طفيفا، وبتعبير أصح ميتافيزيقا. ولكي أتمكن من إسقاطه كليا على أن أفحص إن كان هناك إله بمجرد ما تمنح لي هذه الفرصة. وإذا تبين لي وجوده فإنه سيكون علي أن أفحص أيضا إن كان في استطاعته الخداع، ذلك لأنني لا أرى، بدون معرفة هاتين الحقيقتين، أنه سيكون في استطاعتي أبدا التيقن من أي شيء"(13. هناك في التأمل الثالث عنصر آخر يستدعي الإثارة، وهو توفر الفيلسوف على فكرة لا يمكن إرجاعها إلى نفسه كما هو حال مجموعة من الأفكار الأخرى التي امتحنها ويتعلق الأمر بفكرة الإله. وينتهي به البحث في أصلها إلى الاقتناع بعدم إرجاعه إلى ذاته وحدها، هذا بالإضافة إلى تأكده من كون غيابها يجعله لا يتوفر على أي حجة تقنعه بوجود شيء آخر غيره، لأنه بحث عن كل الحجج بإمكان كبير ولم يجد أي حجة أخرى غير هذه(14) لن تمر هنا إلى التأمل الرابع للاستمرار في البرهنة على الأهمية التي يوليها ديكارت للكائن الإلهي كآخر أساس ستنتهي إليه الاختزال الفينومينولوجي. صحيح إن ما يقدمه الفيلسوف بصدد تمييز الإنسان بين الخطإ والصواب له مكانته فيما نحن بصدد تطويره، لكن ما أثرناه هنا كان لتوضيح نظرة هوسرل إلى الشك الديكارتي والنقص الذي منعه في نظره من جعل الأنا منبع المعني والتقويم، أي جعل الذات أساس البناء. | |
|