من الواضح ان الفرد الذي يواجه خيارات متعددة بامكانه اختيار اي من تلك الخيارات، وان النتيجة تتقرر بالرغبة الحرة في لحظة القرار بدلا من ان تكون مقررة سلفا باسباب مسبقة. مع ذلك،جميع الاحداث في العالم،تخضع لقانون الفيزياء،بما فيها الاحداث التي تقع داخل الدماغ. اذا كانت جميع الاحداث في الدماغ تحدث طبقا للفيزياء الكلاسيكية، عندئذ فان الرغبة الحرة وفق المعنى اعلاه هي غير موجودة. هذا بسبب ان الفيزياء الكلاسيكية هي حتمية او قدرية: حالة العالم في اي لحظة هي النتيجة الحتمية لحالته في لحظة سابقة،اي، ان الحالة الحالية للعالم هي معلول لحالته السابقة ، وعلة لحالته القادمة. وعليه فان البدائل هي فقط تبدو ظاهريا متوفرة لصانع القرار، لانه في الحقيقة هناك فقط خيار واحد اريد له ليكون هو الذي يقع عليه الاختيار. في فيزياء الكوانتم (الفيزياء المناصرة للحتمية) ان ما سمي "نطاق الاحتمال" probability amplitude ينشأ طبقا لقوانين مقررة سلفا لكن التحول من العديد من النتائج المحتملة الى نتيجة واحدة حقيقية انما يحدث كليا بالصدفة. التوزيع الاحصائي لفرصة الاحداث هذه تتبع قواعد صارمة، لكن محصلة فرصة اي حدث انفرادي هي لا يمكن التنبؤ بها ولايمكن السيطرة عليها بالرغبة. وهكذا، فان اي قرار هو اما النتيجة المتنبأ بها للاسباب المبكرة (التي ربما تتضمن فرصة أحداث كوانتمية) وهي ليست متحررة من الحتمية، او هو ذاته فرصة لحدث كوانتمي ولم يكن حصل بالرغبة. ومهما كانت الطريقة، فان الرغبة الحرة التي نؤمن بها كمسلمة هي غائبة. اذاً ما هي حرية الاختيار التي نقدرها باعجاب والتي يتبجح بها السياسيون ويحثون عليها دائما؟
الاختيار في ظل القدرية
لكي نركز على القضايا الاساسية، لندع فرصة الاحداث جانبا، فكما رأينا اعلاه، ان عشوائية الكوانتم لم تستطع انقاذ الرغبة الحرة. في هذا السياق المبسط، دعنا نحاول رؤية ما اذا كان شعورنا الذاتي بالحرية يمكن تكييفه و تسويته مع القدرية الفيزيائية.
الشيء الذي لا يمكن تجاهله هو اننا نمتلك تجربة عمل الخيارات. في الحقيقة، كل خيار يتألف من مرحلتين. في المرحلة الاولى نحن نتصور بدائل، وفي المرحلة الثانية نحن واعون باننا اخترنا واحدا من تلك البدائل. عادة، الخيار الملتقط هو الخيار الذي نفضل نتائجه على نتائج البدائل المنافسة له، لكن المقارنة بين النتائج لا تتم دائما بوعي. كذلك، كل من الشروط الوراثية المسبقة وتجارب الماضي تلعب دورا في تكوين افضليات الافراد، لذا فان العوامل السببية التي تقود الى عمل خيار معين هي معقدة. الاستنتاج الذي نصل اليه هو انه بالرغم من اننا فعلا نمارس عمل الخيار، او الانتقال من مرحلة 1 الى مرحلة 2 ، لكن هذا لا يعني غياب العوامل السببية المقررة. نحن ايضا لدينا انطباع باننا ربما كان بامكاننا الاختيار بشكل مختلف. ولكن حالما يتم اتخاذ الخيار، كيف سيكون هناك معنى لهذه الفكرة؟ اي، رغم ان صانع القرار يواجه نفس المجموعة من البدائل مرة اخرى،فهو ربما يعمل اختيارا مختلفا في المرة الثانية، بسبب ان الموقف الكلي بما فيه حالة الدماغ والذهن، يكون قد تغير. ولكن مرة اخرى، هذا الخيار هو نتيجة للاسباب السابقة. وعليه، فان وجود الرغبة الحرة بمعنى القوة المستقلة في لحظة القرار الغير مقيدة بالاسباب السابقة، هو غير مطلوب لتوضيح تجربتنا الحقيقية في الاختيار. تجربتنا في عمل الخيار هي منسجمة تماما مع الحتمية لو قبلنا بان التحول من المرحلة 1 الى المرحلة 2 ، او من الخيارات المتعددة الى الخيار الوحيد المتخذ، هو كاي نوع اخر من الاحداث في العالم،يتم نتيجة للاسباب السابقة.
حالما تُفهم الخيارات بالشكل الملائم وفق هذه الطريقة – كونها مقررة فيزيائيا وسببيا – سنستطيع المضي قدما لدراسة فكرة الخيار الحر بطرق اوسع. حينما يسدد الرجل بندقية على رأسي ويطلب تسليم محفظتي، وانا اختار طاعته بدلا من المقاومة، فهذا هو الخيار الاكراهي. بالمقابل، نحن نستطيع القول ان الخيار الحر هو خيار غير اكراهي. بالنهاية، الحرية بهذا المعنى تعتمد على غياب الصراع بين طبيعة صانع الخيار، الشخصية، الرغبات الاساسية والنتائج المقصودة لافعاله. طالما نحن لا نرفض الاعتراف بان طبيعتنا هي نتيجة لشروطنا الوراثية المسبقة وظروفنا الماضية، فان هذه الفكرة للحرية يمكنها بسهولة التعايش مع العمليات المخفية للحتمية الفيزيائية، وايضا مع الرؤية العلمية التامة وحيث القدرية الفيزيائية تُستكمل بواسطة العشوائية الكوانتمية.
الانسجامية والمسؤولية الاخلاقية
لانزال امام السؤال، كيف استطيع ان اكون مسؤولا عن نتائج الخيارات الحرة،عندما تتقرر سلسلة الاحداث المسببة لها من خارج ذاتي، او انها بدأت منذ وقت طويل؟ الجواب متضمن في كلمة "مسؤول". رئيس دولة ما ربما يتحمل المسؤولية عن سوء ادارته للاغاثة بعد كارثة طبيعية، حتى عندما لم يكن شخصيا متورطا في اي من الفوضى الناتجة على المستوى العملياتي. وبالمثل، رغم ان العديد من مظاهر وجودي تسحبني في اتجاهات مختلفة واصارع اثناء عمل القرار الصعب ، لكن هناك نسبيا مركز مستقر احدده كذات لي، وهذا الاعتراف يعني اني استطيع تحمل المسؤولية عن كل قرار تم من قبلي، حتى خلال او بعد التنافس بين جميع هذه العناصر. هذا الشيء ملائم لأن الاحاطة التفصيلية بجميع العوامل المسؤولة هو مستحيل عمليا.
ان طبيعة الذات هي بالتأكيد معقدة. بعض الناس لديهم معنى ضيق للذات المسؤولة، بينما اخرون لديهم معنى اوسع ، وحتى التصور الذاتي لنفس الفرد ربما يتغير بمرور الزمن. على سبيل المثال، عندما يتم الامساك بمدمن المخدرات متلبسا بالجريمة ربما يدّعي ان "عاداته جعلته يقوم بذلك"، وفي قول كهذا هو يتعامل مع عاداته كما لو انها ليست جزءا منه. ولكن، عند التأمل في مسؤوليته،يجب على القاضي ان يأخذ بنظر الاعتبار ما اذا كانت عادته تشكلت بمعرفته ام بدونها (ربما احيانا تكون نتيجة لتناول دواء يصفه الطبيب). وبكلمة اخرى، القاضي يجب ان يحدد مسؤولية الجريمة ليس فقط على اساس ان السلوك الاجرامي الاخير كان هو ذاته خيارا ليس قسريا تماما، وانما ايضا على اساس ما اذا كانت بعض افعال المتهم في الماضي ساهمت ليكون في موقف ارتكب فيه الجريمة الحالية.
وعلى عكس هذا المدمن، يكتشف بعض الناس مجالا للحرية – اي ان الخيارات التي يتخذونها هي منسجمة مع طبيعتهم حتى عندما يكونون تحت اكراه قوي. جين بول سارتر ادّعى ان الفرنسيين لم يكونوا ابدا اكثر حرية قبل ان تقع فرنسا تحت الاحتلال النازي. هو يرى ان الاحتلال خلق فرصا للمقاومة، قرار المقاومة او عدمها كان قرارا هاما،وعليه كان الفرنسيون اكثر حرية بمعنى يمتلكون امكانات ثرية من الخيارات الهامة. مجال الحركة المسموح به في ظل الاكراه هو ليس دائما كبيرا بما يكفي لتسمية الخيار بـ "الحر".
ان تبنّي غياب الاكراه بدلا من غياب القدرية كجوهر للحرية سيخرجنا من الصراع مع الرؤية العلمية الشائعة. كذلك تجسد هذه الفكرة اهمية الحرية كشرط يمكّن الفرد ليكون صادقا لذاته، وايضا معيارا للحكم على ما اذا كان من العدل اعتبار الافراد مسؤولين عن افعالهم .
حاتم حميد محسن