بغض النظر هنا عن مفهوم المجتمع المدني الذي تتوزع دلالاته برأينا ما بين التاريخ والمجتمع والثقافة والسياسة، لتُختزل كل تلك الدلالات في مفهوم واحد يمكننا بسطه في التالي: هو المجتمع الذي تجاوز في حياته مرحلة ما قبل المدينة، حيث سقطت بالضرورة كل القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية لتكل المرحلة التي تُحكم غالباً في العرف والعادة بدلاً عن القانون والدستور، وبالأسطورة والوهم بدلاً عن المعرفة العلمية والحقيقة، وهي المرحلة التي تنمو فيها إلى حد كبير شخصية الفرد (المواطن) كي تنفصل إلى حد بعيد عن حياة الكتلة الاجتماعية التي يغلب عليها طابع العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب بدلاً عن طابع المواطنة. عموماً إن المجتمع المدني يتأسس فكرياً وعملياً، على المواطنة التي تعني في حدودها القصوى حرية الفرد بعد أن يتجرد موضوعياً لا شعارياً، من كل معوقات تحقيق إنسانيته، ويُعطى أو يُفسح له في المجال واسعاً كي يمارس هذه الحرية عبر حياته اليومية المباشرة. هذه الممارسة التي تعني تجسيداً لحقوق الإنسان، أي تجسيداً لحقه في العيش الكريم والملكية وحرية الرأي والمشاركة في إعادة صياغة مشروعه الإنساني المتجدد دائماً على حاجاته المادية والمعنوية التي لا تنضب، على اعتبار الإنسان مركب حاجات، فهو بحاجة للحرية والتعلم ولقمة العيش واللباس والسكن والعمل وتنمية مهاراته وإبداعاته التي بها يستطيع دائماً تطوير وتنمية نفسه.
لا شك أن مفهوم الفرد والمواطنة قد ارتبطا تاريخياً في التفكير التشريعي الغربي، الذي ارتبط بدوره بالثورة الصناعية، هذه الثورة التي استطاعت أن تحطم أسس ومقومات المجتمع التقليدي، لتخلق مجتمع (المدينة - المواطنة) بكل تجلياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، رغم كل سلبيات هذه الثورة على حياة الإنسان فيما بعد، حيث قامت باستلابه وتشييئه وتغريبه، خاصة بعد أن استغلت الطبقة البرجوازية لنفسها الكثير معطيات هذه الثورة التي ساهمت بها كل الطبقات الاجتماعية التي عانت من ظلم واستبدا الكنيسة والقوى الطبقية المستغلة في تلك المرحلة.
أما بقية شعوب العالم ممثلة بدول العالم الثالث، فقد ظلت تعيش مأزق هذا المجتمع المدني ومواطنيته حتى هذا التاريخ، ونخص هنا عالمنا العربي موضع بحثنا هذا للأسباب التالية:
أولاً: الظروف الموضوعية والذاتية التي يعيشها عالمنا العربي:
إن قراءة أولية لهذه الظروف، تبين لنا بأن وطننا العربي لم يزل يعيش حتى مع تشكل دوله الحديثة التي جاءت بعد الاستقلال من المستعمر، حالة مجتمعات ما قبل المدينة، فدولنا ليست أكثر من قرى كبيرة (مريفة) من الداخل بعقيلة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، ولم يزل العرف والعادة تشكل العامل الأكثر جذرية في حل قضايا مجتمعاتها، وأن الكثير منها يفتقد حتى إلى دساتير تحكم حياة مواطنيها إن لم نقل رعاياها، وإن وجد لدى البعض منها دساتير فإن أكثر نصوصها قد وضعت على الرف أو غيبت من الممارسة، هذا مع سيادة فاعلة لبنية الاقتصاد العيني والريعي، والاستخدام المحدود للتكنولوجيا، حيث أن المحراث البدائي الذي استخدمه أجدادنا قبل التاريخ لم يزل هو ذاته المستخدم في حياتنا الزراعية، وكذا الحال في الصناعة والتجارة، فهي لم تتجاوز بعد الصناعات الحرفية أو الورشات الصغيرة، وإن وجدت مصانع أولية، فهي لصناعات تجميعية لا أكثر، وهذا ما ساهم في عملية التداخل الطبقي، وعدم السماح بوجود طبقات مستقلة بذاتها وواعية لذاتها قادرة على تحقيق تقدم ونهضة في هذه الدول، آو المجتمعات العربية.
إن كل ما جئنا إليه هنا لم يستطع في الحقيقة أن يشكل مجتمعاً مدنياً، أو مواطنة، بالرغم من أن شعاراتها راحت تُطرح بعمق منذ بداية عصر النهضة في القرن التاسع عشر مع الطهطاوي والتونسي وفرح أنطون وشبلي شميل وأديب اسحق والأفغاني ومحمد عبد والكواكبي، وصولاً إلى مفكري القرن العشرين من النهضوين العرب أمثال على عبد الرازق وطه حسين وسلامه موسى وعبد الله العروي والجابري وأركون والتيزيني وياسين الحافظ ومهدي عامل وحسين مروة وهادي العلوي... وغيرهم الكثير ممن حمل شعارات الحرية والعدالة والمواطنة من مفكري عصر النهضة العربية، إضافة إلى ما رحنا نلمسه من إعادة لطرح هذه الشعارات في ما سمي ثورات الربيع العربي، إلا أنها لم تستطع أن تتجاوز حالاتها الشعارية، لذلك لم تستطع عبر حواملها أن تغير شيئاً في واقع هذه المجتمعات، هذا إذا ما قلنا إن الكثير ممن حمل هذا الشعارات وراح يقاتل من أجلها اليوم، نراه يتراجع عنها ليعود من جديد يطالب بالعقلية السياسية السابقة عليها كما هو الحال في مصر وتونس بعد سقوط تجربتي الإخوان. ولكن هذا لا يعني أن ما طرح من شعارات المجتمع المدني من قبل كل هؤلاء غير صالحة، وإنما عدم توافر شروطها الموضعية والذاتية، لم يسمح لها أن تجد موقع قدم في الممارسة العملية، أي إثبات مصداقيتها ومشروعيتها. وإنما ظلت بتعبير آخر مشروعاً نغلاً.
ثانياً الخطاب الديني السلفي:
كما هو معروف تاريخياً أن هناك مؤسستان وقفتا ضد بيان حقوق الإنسان والمواطنة هما : الكنيسة الكاثوليكية، التي وقفت ضد بيان حقوق الإنسان بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789، ولم تعترف بهذا البيان حتى عام 1961. و دولة آل سعود التي قدمت الحجج الدينية نفسها التي قدمتها المؤسسة الكاثوليكية لتبرير رفضها التوقيع على إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. فكلاهما يرى أن بيان حقوق الإنسان إن كان في بيان الثورة الفرنسية، أو في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، لم يعترفا أو يقرا بحقوق الله على الإنسان، وهو الذي خلقه على صورته وجعله في أحسن تكوين، وهو الذي حدد له ما له من حقوق وما عليه من واجبات تجاه الله ونفسه والكون. وهذه الموقف في الحقيقة ينسحب أيضاً على القول بأن المصدر الديني يحتوي على ما يمتاز به الفرد من قيم وسمات وخصائص تتفوق على ما جاء لهذا الفرد من حقوق في بياني حقوق الإنسان المشار إليهما أعلاه، من حيث أن هذا الفرد الذي خلقه الله من طين ثم عدله فسواه، يشكل وحدة اجتماعية لا تتجزأ في قواها النفسية والوجدانية وأبعادها الروحية والقيمية والْخَلْقِيّة وكل حاجاتها المادية والروحية، يضاف إليها أن كل السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) قد شملها الدين ولا يمكن تجزئتها.. وهذه كلها قد رسمها الله أو قررها للإنسان في كتبه ألمقدسه وتعاليم رسله.
أما هذا المعطى الديني تجاه حقوق الإنسان، فهو يأتي بديلاً لمعطى بيانات حقوق الإنسان التي تقول: إن هذا الإنسان الفرد قد خلق من لحم ودم، وهو صاحب عقل حر، وإرادة حرة، وهو ذاته من يشكل مصيره، بما يحوز عليه من مهارات وقابليات، وبالتالي هو من يرسم تاريخ حياته ومستقبله، وهو وحده الإنسان من يقرر ما هو نوع الحكم الذي يريده وشكله، وما هي القوانين التي تخدم مصالحه.
إذاً من خلال هذه الموقف الديني السعودي (بشكل خاص)، جاء دور الوهابية، والفكر السلفي عموماً في الوطن العربي ومنه الفكر الأشعري، ليشتغل وبشكل مسييس على نشر وتعميم حقوق الله على مخلوقاته، وموقف الإنسان من هذه الحقوق، ثم من خلال تسييس هذا الفكر السلفي، راحت مسألة المجتمع المدني (تُعطل) ليس على مستوى الظروف الموضوعية فحسب، وإنما على مستوى الظروف الذاتية أيضاً ممثلة بحوامل هذا الفكر السلفي، وبالقوى السياسية الداعمة له بإسم سلطة الدولة وهيمنتها، ولا يبتعد عن هذه القوى السياسية المساندة للفكر السلفي حتى من تدعي العلمانية منها، حيث تأخذ من الدين وسيلة لفرض مشروعية حكمها، علماً أنها في تصرفها هذا غالباً ما تحفر قبرها بيدها، وما سمي ثورات الربيع العربي يدل على ذلك.
إن ما نراه اليوم من ممارسات تطبيقية لحقوق الإنسان بإسم الحاكمية التي يعمل دعاتها من القاعدة وفصائلها والإخوان، ومن يدعم هذا الفكر من قوى سياسية، عربية كانت آم إقليمية أم دولية، تبين لنا كيف أن هذه الحاكمية تعمل وبشكل مبرمج على محاربة كل ما يساهم في تأكيد حقوق الفرد (المواطن) التي تشكل المنطلقات الحقيقية للمجتمع المدني. هذا المجتمع الذي أخذت هذه القوى السلفية المتطرفة التكفيرية تدمر اليوم كل مقدماته الموضوعية والذاتية التي راحت تطرح نفسها كما قلنا بصورة شعاريّه. بل إن ما يجري اليوم من تدمير، ليس لمحاربة مجتمع المواطنة ودولة القانون فحسب، بل وتدمير كل مقومات تراث الإنسان العربي وحضارته التي بناها بجهده وعرق جبينه في عالمنا العربي.
ثالثاً دور الغرب في محاربة المجتمع المدني:
لم يكن الاستعمار طوال تاريخه عاملاً إيجابياً في حياة المجتمعات المستَعمَرة، بالرغم من وجود بعض المؤرخين والمفكرين الذين يدّعون بان الغرب في استعماره لشعوبنا قد ساهم في تطويرنا، حيث علمونا زوراً في التاريخ : (بأن مدافع نابليون أدخلت الحضارة إلى مصر).
لاشك أن الغرب كان له تأثير واضح على حياتنا ولكن في الشكل من جهة، وبما يريد هو وفقاً لمصالحه من جهة ثانية. هو أرادنا شعوباً مستهلكة لصناعاته ومستغلاً لثرواتنا، لا أكثر، والدليل على ذلك ما يجري اليوم من دمار لبلادنا بأيادي أبنائنا ذاتهم، فالغرب لم يبن لنا خلال استعماره لبلادنا مقومات موضوعية في الصناعة والزراعة ولا حتى في الفكر بما يساهم في تطويرنا وتنوير عقولنا وتحقيق أسس مجتمعنا المدني ومواطنيته، فهو من دعم الأنظمة الإستبداية القروسطية في بلادنا ولم يزل يدعمها، وهو من شجع على دعم الحركات الدينية المتطرفة إن كان في الاتجاه الصوفي، حيث كان له الدور الكبير في دعم الطرق الصوفية، أو في دعم الحركات الإسلامويّة المتطرفة كالإخوان والوهابية والقاعدة. وهو ذاته من يحارب الأنظمة التقدمية والعلمانية التي لا تلبي له مصالحه، تحت مسميات كثيرة أهمها، أن هذه الأنظمة ضد حرية الفرد والديمقراطية وحقوق الأقليات وغير ذلك..
إن الغرب وأمريكا وكل ما يمت للاستعمار لا يمكن أن يكونوا مع مصالح الشعوب الفقيرة والمتخلفة وتحقيق نهضتها، لأن دعمها يعني نهاية تاريخها هي بالذات كدول عظمى تمارس ظلمها واستغلالها لهذه الشعوب تحت مظلة رسالة الرجل الأبيض.