إن ما جرى في تونس "الخضراء" ، وفي مصر "أم الدنيا"، ويمتد جريانه من
المغرب "الأقصى" إلى اليمن "السعيدة"…وسيل التغطيات الإعلامية ، والكتابات
الصحفية المصاحبة و المتدفق حدّ التخمة، يجعل الملاحظ المتملك للحد الأدنى
من الحس التاريخي والسوسيولوجي اليقظ يطرح تساؤلا واحدا أساسيا و مركزيا:
- هل المجتمعات العربية تعيش بالفعل ربيعا متحققا أم مجرد مقدمات لربيع عربي قادم؟!
***
هذا هو –في تقديرنا- التساؤل القلق الذي نرى ضرورة طرحه، ونحن ندرك جيدا
أننا بطرحنا لهذا التساؤل، نحن نغرد خارج سرب "المغردين" و"المداحين" الذين
–في نظرنا- لا يفعلون شيئا سواء إعادة إنتاج نفس أسباب "العطب العربي"
الذي يزعمون أنه تم إصلاحه وتجاوزه: من سيادة منطق الحماسة والخطابة… إلى
الغياب الجزئي أو الكلي للحس النقدي تاريخيا و سوسيولوجيا.
وحتى لا يساء فهمنا ونتهم اتهامات باطلة ومغرضة (من "العمالة" إلى "العدمية"!) فإننا نسجل ما يلي:
ما جرى في تونس ومصر من خلع رئيسين عربيين ديكتاتوريين هو واقعة تاريخية
خارقة، خاصة أن ذلك لم يتم بمنطق الانقلاب والتآمر (وهذا داء عربي
قديم!)، ولكن حدث في سياق نهوض شعبي سلمي عفوي وعارم.
هذا أولا.
ثانيا: هذا النهوض الشعبي الجماهيري جاء مفاجئا في شكله، وتوقيته ، وسرعة
الحسم فيما يخص خلع رئيسي النظامين الديكتاتوريين في تونس ومصر ،بدون أن
يعني البتة ذلك أنه لم يكن حدثا متوقعا تماما في سياق الأوضاع العربية
الراهنة المأزومة والمتردية.
وهذا معطى أول جدير بالانتباه: فلقد بدأت مرحلة "الكبوة" [مقابل
"النهضة"]، و"الردة" [مقابل "الثورة"] في العالم العربي في أعقاب هزيمة
يونيو 1967 المدوية.
وفي هذا الصدد، يمكن الإقرار ،تاريخيا وسوسيولوجيا، بأن المجتمعات العربية
انخرطت –بسياقات متفاوتة ومتمايزة- في دورة تاريخية جديدة ، طابعها العام
التراجع والإحباط والتردي على المستويين السياسي والثقافي بالخصوص: استئساد
الأنظمة الاستبدادية، مقابل تفكك وانهيار المجتمعات "المدنية" ؛ هيمنة
ثقافات الخنوع والاتكال و"الجهل المقدس"، مقابل انحسار فكر التنوير
والتقدم.
لكن من يستطيع الإقرار بصفة مطلقة وقطعية أن أية مقاومة "مدنية" و"تنويرية" لم تستمر في رحم "الاستبداد" و"الظلام"؟
بتعبير آخر: هل ما يقع حاليا في البلدان العربية من عودة ل"روح" المقاومة
المستلهمة لأفكار الحرية والعقلانية والتقدم (وهذا هو مضمون فكر التنوير
بامتياز) حدث ويحدث كنوع من الأمر الخارق المقطوع الأسباب بكل "استمرارية"
تاريخية دفينة ومحايثة ، وبكل عوامل مجتمعية مادية كامنة وظاهرة؟
هذا ما يقره –على أية حال- "المغردون" و"المداحون" الجدد الذين ينتقلون
بسرعة قياسية وب"شكل خارق" من موقف سابق (ذم الذات وجلدها) إلى نقيض لاحق (
أسطرة "الثورة" القائمة).
وهذه "الأسطرة" تبدو –في تقديرينا- من خلال ما يلي:
- 1- تبخيس استمرارية واقعة وحاصلة (لكن متسترة ومتعثرة) وتعظيم قطيعة مفترضة و"سطحية".
- 2- ذم الممارسة النظرية مقابل تمجيد الفعل الملموس المؤسطر.
ومرة أخرى: لابد من التوضيح هنا حتى لا يساء فهمنا.
*** ما يقع في العالم العربي راهنا هو أمر خارق ليس بمعنى الأمر المقطوع
الأسباب عن كل استمرارية تاريخية وسوسيولوجية ، وعن كل حيثيات مادية (أليس
هذا هو لب الفكر الخرافي المؤمن بالمعجزات؟!) ، ولكنه أمر خارق بمعنى أنه
يقع على تخوم دورة تاريخية قديمة تموت، ودورة تاريخية جديدة تولد: وبين
الموت البطيء، والميلاد العسير، تتخلق معالم ثورة عربية تتحقق وتؤسس لنفسها
عبر ما نقدر أنه الواقع العربي المعقد والمركب الراهن: لقد حدث تغير نوعي
في الوعي الجمعي العربي ، نتيجة الإحباط إزاء سقوط سرديات "قديمة" بشرت
بالتحرر وأفرزت الوهم ، ونتيجة اليأس إزاء سرديات "جديدة" تبشر بالخلاص وهي
تجتر الخرافة وتدفع نحو الطريق المسدود، وبالتالي، تخلقت حالة عجيبة من
الوعي الجمعي العربي المعقد و المركب الذي هو، من جهة، استمرار لسياق
النهضة/الثورة السابق،ومن جهة أخرى، هو فعل و رد فعل إزاء واقع الإحباط
واليأس الراهن.
ومن هنا –في تقديرنا- بروز الحاجة الموضوعية في سياق الحراك العربي الراهن إلى:
1- الممارسة النظرية التي تبلور وتؤسس الفكر/الفعل الثوري العربي الجديد
(بدل تبخيس هذه الممارسة النظرية وذمها)، مما يعني الحاجة إلى أن يؤسس
الحراك العربي الراهن ثقافته النهضوية الحديثة و يفرز نخبته الثورية
الجديدة (= ثقافة ونخبة التنوير).
2- إزاء استشكال التاريخ العالمي الحديث ،وتعقد المجتمعات
العربية الراهنة، فنحن نعتبر أن مآل الحراك العربي الراهن ليست محسومة
تماما نتائجه.
و الخلاصة أن الحراك العربي الراهن يحبل بمقدمات ربيع عربي قادم ولكن ليس هو ذاته الربيع العربي المتحقق.