تبدو دينامية التغيير العربي
الراهن، بالأساس، دينامية رفض وتقويض (الشعب يريد إسقاط كذا وكذا وكذا)،
مما يجعل الحركات الاحتجاجية المنطلقة تبدو بلا "قيادة" ولا "نظرية". وهذا
أمر إيجابي وسلبي في نفس الوقت :
إيجابيّ لأنه يبرز الطابع المجتمعيّ والشبابيّ لحركات التغيير العربية الجديدة.
سلبيّ لأنه يفتح مآل هذه الحركات على "المجهول" (سقط بن علي ومبارك في تونس ومصر ولكن هل حسم الأمر تماما لصالح الثورة؟).
ومن هنا ضرورة التفكير في واقع التغيير الجاري بمنطق التأصيل له بعيدا
عن الحماس الزائد أو إرادة لجمه واحتوائه. وفي هذا الصدد أقترح ثلاث
أطروحات يمكن إبرازها
– في تقديري- كمحاولة أولى وعامة لفهم ما يجري من تغيير في العالم العربي:
-رفض دولة الوصاية والنزوع نحو المجتمع الراشد.
-رفض مجتمع الإذلال والمطالبة بالحقّ في الاعتراف.
- رفض التنميط الإيديولوجي والمطالبة بالحق في الوجود والاختلاف.
رفض دولة الوصاية والنزوع نحو المجتمع الراشد:باستثناء واحد فلقد خضعت كل الدول العربية لواقع الاستعمار والحماية
والانتداب. وقامت ثورات وطنية مجيدة للتخلص من هذا الواقع والحصول على
الاستقلال. ولكنه جاء استقلالا ناقصا لأنه استبدل وصاية أجنبية بوصاية
محلية. فالاستقلال الذي يعني بلوغ سنّ الرشد والتحكّم في المصير الفردي
والجماعي (أليست الديمقراطية بالتعريف هي حكم الشعب بنفسه لنفسه؟) ظلّ بعيد
المنال إزاء فرض الدول الاستبدادية "الوطنية" لوصايتها على المجتمع
والأفراد. وتساوت هنا الدول المحافظة (المخزن المغربي مثلا) والدول
التقدمية (دولة البعث الاشتراكية الوحدوية الخ). لذا لا غرابة أن يتوحّد
جيل عربيّ بأكمله حول شعار واحد : الشعب يريد إسقاط النظام! وهو الجبل
العربي المنبعث من رماد كلّ الخيبات والهزائم والحرائق التي دمّرت المنطقة
العربية على امتداد نصف قرن تقريبا.إنه –ببساطة- جيل يعلن رفضه استمرار
الوصاية عليه ويعلن حقه في نيل الاستقلال الراشد.
رفض مجتمع الإذلال والمطالبة بالحقّ في الاعتراف:أستعير مفهوم "مجتمع الإذلال" وعبارة "الحقّ في الاعتراف" من الفيلسوف
الألماني المعاصر أكسيل هونيث الممثّل "الشابّ" للجيل الثالث من مدرسة
فرانكفورت الفلسفية النقدية. ودون الدخول في تفاصيل فلسفية لا يسمح بها
المقام هنا، أشير إلى أهمية مفهوم "التواصل" الذي يشترك فيه هونيث مع
أستاذه يورغن هابرماس. والتواصل (ورديفه البينذاتية) هو البراديغم الذي سعى
هابرماس من خلاله إلى تشخيص واقع الأزمة العالمية الحالية وتجاوزها نحو
إعادة بناء مجتمع التواصل الإنساني المنشود. وهذا ما يعمقه ويقرره هونيث من
خلال تحليله ل"مجتمع الإذلال" ومناداته بـ"الحقّ في الاعتراف" (وهما
عنوانا كتابيه الرئيسيين). فتحول الإنسان/المواطن إلى مجرّد "شيء" لا
"يعترف" به ويتم إذلاله في كل وقت وحين هو أفظع ما يمكن أن يصيب هذا
الإنسان/المواطن. وفي شمال إفريقيا ثمّة تعبير دارج يعبر عن هذه الواقعة
خير تعبير هو "الحكرة". وعليه يمكن الجزم بأن ما دفع البوعزيزي التونسي إلى
إحراق نفسه (وبالتالي إشعال الانتفاضات الراهنة في العالم العربي) هو
إحساسه العميق بـ"الحكرة". إن الشباب العربي الراهن الذي تطحنه مشاكل
البطالة والفقر (وبسبب ذلك يركب "قوارب الموت" نحو أوروبا) هو الشباب
المنتفض اليوم مطالبا بحقه في "الاعتراف"، أي بحقه في "الكرامة". إنه
الشباب الذي يريد إسقاط نظام "الوصاية" ويقضي على "مجتمع الإذلال". كما أنه
الشباب الذي يرفض التنميط الإيديولوجي ويطالب بحقه في الاختلاف.
رفض التنميط الإيديولوجي والمطالبة بالحق في الوجود والاختلاف:أتابع ما يجري في العالم العربي وأنا أفكر في الراحل إدوارد سعيد. هذا
مفكر عربيّ فذّ خسره العرب ولم يفهموه مثلما لم يفهموا آخرين سبقوه (طه
حسين مثلا).حتى كتابه الرائد "الاستشراق" فهمناه على أنه "دفاع عن الإسلام
وفضح للغرب". والواقع أن ما استهدفه الراحل في "الاستشراق" و"الثقافة
الإمبريالية" هو أدق وأعمق: إنه –ببساطة- فضح الصورة التي نسجها "الغرب" عن
"الشرق" [شرقنة الشرق أو اختراعه!]، من جهة، وتبديد أوهام العربي عن ذاته
وأمته، من جهة أخرى. فلسنا لا "أهل الشرق الروحانيين الحالمين" ولا "خير
أمة أخرجت للناس" ولا "أمة واحدة ذات رسالة خالدة". إننا –وحسب- مجرد "بشر"
نطالب بحقنا في الوجود تحت الشمس. هذا أولا.
ثانيا: لا نختلف عن باقي البشر في شيء وبالتالي، نرفض تنميطنا في "قالب"
أو "صورة" وتماهينا مع "مطلق" ما. إننا بقدر ما نصرّ على انتمائنا إلى
التاريخ الإنساني بكل عظمته وانحطاطه، لا نطالب بتمايز حوهراني ما: إننا
وحسب نطالب بحقنا في الاختلاف.
ثالثا: الحقّ في الاختلاف هنا يعني أساسا الحق في التأويل. والتأويل
المطلوب هو ذو مستويين: - مستوى إعادة قراءة التاريخ الإنساني العام مما
يزحزح المركزية الأوروبية ويعيد الاعتبار لتواريخ أمم "احتقرت" و"ذلت"، كما
يفتح اللآفاق المعاصرة على إمكانية بناء تاريخ إنساني مشترك.
- مستوى عادة قراءة التاريخ القومي الخاص مما يزحزح أوهام السيطرة
لـ"أفكار" و"مذاهب" فرضت بمنطق السلطة، وتستمر في فرض ذاتها بنفس المنطق.
إن الجيل العربيّ الثائر الذي يبدو أنه بلا "فكر" ولا "نظرية" يقودان ثورته
هو في الواقع يستبطن أخطر ثورة "فكرية" يمكن أن تحدث في التاريخ العربي
المعاصر: إسقاط أنظمة الوصاية والإذلال والانخراط –أخيرا- في عصر التنوير
العربي المنشود. أليس تعريف التنوير بالضبط هو " خروج الإنسان من القصور
الذي يرجع إليه هو ذاته. القصور هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون
قيادة الغير. يكون هذا القصور راجعا إلى الذات إذا كان سببه لا يكمن في
غياب الفهم، بل في غياب العزم والجرأة على استخدامه دون قيادة الغير!
Sapere aude)، تجرأ على استخدام فهمك الخاص! هذا إذن هو شعار التنوير."
(إمانويل كانط).