"قدر الثورة أن تكون "صيرورة ثورية"
جيل دولوز، فيليكس غاتاري.
"هذا الكتاب ( الرأسمالية والفصام) في نظري، هو المدخل للعصر"
توني نيغري لعلّه سيكون من أعقد الأمور وأصعبها أن يتجرّد المرء للجواب عن سؤال مثل
"ما الذي يحدث في العالم العربي اليوم"؟ وعلّة هذه الصعوبة أمران اثنان
متعارضان في الظاهر متكاملان في العمق، أوّلهما يتعلّق بالحجّية الأخلاقية
لحديث مثل هذا، فهذه الأحداث ملك لصانعيها العمليين أصلا ممّن عرّض صدره
العاري لرصاص الطغاة، ولمن غامر بوجوده البيولوجيّ في سبيل موقف لم تكن
نتائجه مضمونه ابتداء، فمن أيّ موقع وبأيّ صفة سينبري شخص مثلي "للتنظير"
لفعل بعد حدوثه وبعد ظهور نتائجه؟ أما السبب الثاني فمتعلّق بالقيمة
الفكرية لمثل هذا الجواب، إذ الفكر لا يشتغل بمنطق "ردّ الفعل"، فمن حقّ
المفكر أن يناضل، وأن يرفع الشعارات ويحمل الأعلام، بل لعلّ ذلك من واجبه،
لكنّ زمن الفكر غير زمن النضال، فحين يجلس إلى مكتبه ويضع قبّعة رجل النظر،
يكون عليه أن يترك شعاراته وأعلامه "خارجا". لهذين السببين المختلفين إذن،
يبدو لي أنّ محاولة الجواب عن سؤال مثل هذا الذي طرحناه وفي هذا الظرف
تحديدا، هي تجربة قد تكون منذورة للفشل. فمن جهة هي ستظلّ أبدا "متأخّرة"
عن الحدث في ذاته، ومن جهة ثانية فإنّ الحماس والتفاعل الطبيعي مع الحدث في
حرارته وعنفوانه قد يصير حجابا يمنع التفكير، ويجعل المشاعر تطغى، والحال
أنه بالمشاعر الطيبة لا نستطيع أن نصنع فكرا قويا، وهذا شرك وقع فيه
مفكّرون كبار قبلنا، فكيف بنا نحن؟**
ومع ذلك نحن مطالبون بالمحاولة، ولعلّ وعينا بمخاطر المحاولة وحدودها
النظرية والأخلاقية في هذا الظرف الراهن، قد يمنحنا فرصة قول شيء ما "ضدّ
الراهن"***، شيء وإن يكن أقل طموحا، فلعله يكون أطول نفسا.
ما الذي يحدث مبدئيا؟
انتفاضة رائعة لشعوب مضطهدة عانت ذلا وقهرا طويلين، وهي انتفاضة لا يمكن
للإنسان إلا أن يثمنها ويباركها، بل سيكون من الشائن عدم الانفعال بها أو
عدم تزكيتها.
لكن ما الذي يحدث وفق رؤية ترغب في أن تكون أكثر "عمقا"؟ دون أيّ رغبة في
الحديث بلغة "رسولية"، يبدو لي أنّ ما يحدث هو تغيّر في "الإبدال" السياسي
والأخلاقي لعصر بكامله، أو على الأدقّ إنّ ما يحدث هو بداية الوعي بحصول
هذا التغيّر في الإبدال، إذ أنّ تحقّقه قد بدأ منذ مدّة، إلا أننا لم نرتفع
إلى الوعي به إلا مع هذه الثورات التي تحدث وستحدث. والأمر ليس نزوعا إلى
التهويل أو سقوطا في شرك الحماس الإعلامي الدعائي الذي ذكرنا، بل هو توصيف
لواقع عمليّ ولتحوّلات مادية ملموسة.
بيد أنّ بيان هذا الأمر وتوضيح المقصود منه بالضبط، يستدعيان منّا أن
نبتعد عن "الموضوع" في ذاته قليلا، وأن نترك السياسة هنيهة للحديث عن
الفلسفة، فتحليل لا ينظّر للسياسة في منظار الفكر والتاريخ هو تحليل قاصر
ومحكوم عليه بأن يتحوّل إلى مجرّد تعليق "صحفيّ" على الأحداث. الأمر يستدعي
في نظرنا، - حتى نفهم "بيداغوجيا" بعضا مما يحدث - العودة إلى سبعينات
القرن الماضي، وإلى نص وليس إلى واقعة، وإلى فيلسوف وليس إلى شعب.
في بداية السبعينات ظهر الجزء الأوّل من كتاب أساسي للفيلسوف جيل دولوز
والمحلل النفساني فيليكس غواتاري تحت عنوان "الرأسمالية والفصام" (1) وقد
كان لصدور هذا النص وقع كبير، لأنّه نص جاء تزكية لتوجّه فلسفيّ ظهر حينها،
يضع كغاية له "التأريخ الفلسفي للحاضر"، وقد كانت السمة الأساسية لهذا
التوجّه هي السعي إلى تحويل التفكير الفلسفي من فكر تحصيلي همّه تقديم
الخلاصات وتسجيل النتائج حول الوقائع عند نهايتها، أي عند الغسق كما في
استعارة طائر المينيرفا عند هيغل؛ إلى منطق يحاول أن يشرئبّ من شقوق
التاريخ لينظر نحو الآتي، فيحدس هذا الذي يحدث في الآن نفسه Ce qui est en
train de venir. بحسب هذا التصوّر يصير الفكر انشدادا نحو الحاضر
والمستقبل، عوض أن يظلّ محكوما بمنطق تسجيل الخلاصات وتحصيل النتائج.
أهم ما في هذا النص "المفتاح" بجزئيه، هو اجتهاد صاحبيه لاجتراح مفاهيم
وأدوات عمل جديدة غير مألوفة في الخطاب الأكاديمي. وقد كان الباعث على هذا
الاجتهاد هو اعتقاد صاحبي الكتاب بأنّنا فعلا نلج عالما جديدا لا علاقة له
بما سبقه، عالم يتحرّك وفق منطق أفقيّ؛ عالم شبكيّ يفقد سمكه
وثنائياته الصلبة؛ عالم ستتغيّر فيه دلالات السياسة والثقافة والسلطة
والمعرفة.
ما علاقة هذا النص بما نحن بصدد الحديث عنه، أي بهذا الذي يحصل اليوم في العالم العربي؟
العلاقة قوية لسببين على الأقل في نظري، أوّلهما أنني أعتقد بأننا نحيا
اليوم تحققا عمليا لما عرضه هذا النص من رؤى، والسبب الثاني- وهو نتيجة
لسابقه- أنني أرى أننا لا نستطيع فهم ما يحدث في دلالته السياسية العميقة،
ما لم نتوسّل بما يقدّمه هذا "الكتاب الشيء" (بلغة فوكو)، إذ أن هذا الكتاب
-كما تقدّم- هو علبة أدوات تحوي كل ما قد نحتاجه لتفكيك وفهم ما يحصل في
زمن عالمنا المعاصر، وبالتالي بعض ما يحدث عندنا نحن؛ "أدوات - مفاهيم " من
قبيل "الحدث" ÉVÉNEMENT والشبكة والدفق FLUX الجذمور RHIZOME والبساط
PLAN وخطوط الانفلات LIGNES DE FUITE والآلات الراغبة MACHINES DÉSIRANTES و
التوصيل CONNEXION والعالم الافتراضي VIRTUEL والمكان
الصقيل LISSE ESPACE والسياسة الصغرى POLITIQUE MINEURE والثورة
الجزيئية MOLÉCULAIRE والتعدد MULTIPLICITÉ… أما إن بقينا في إطار المفاهيم
التقليدية الصلبة مثل "الحزب - الدولة- السلطة- المجتمع- القانون- النظام…
" فإنني أزعم أننا لن نفهم الشيء الكثير.
على أن أول مفهوم نتوسل به لفهم ما يحدث ولبيان ما ادعيناه أعلاه هو مفهوم
"الحدث" نفسه ÉVÉNEMENT، فما يحصل في العالم العربي اليوم هو بلغة دولوز
وغواتاري حدث، والحدث عند الرجلين هو "لقاء"، واللقاء اصطدام بين "سلسلتين"
séries يتحقق به تغيّر يسري في السلسلتين معا، ومن طبيعة هذا اللقاء أنه
من غير الممكن التنبؤ به قبلا، إذ الحدث دائما يأتي على حين غرّة، إنه
"بداية" مطلقة حية متفجرة لا تختزل في أي قالب نظري قبلي، وعن هذه البداية
الحدثية تتناسل كل "البدايات – الأحداث" الأخرى (2).
ثاني هذه المفاهيم التي يمكن أن نتوسل بها هو الجذمور، فكل حدث عند دولوز
هو فعل جذموري، من حيث إن الحدث في بنيته الداخلية هو عبارة عن سديم من
الجزيئات (3) التي تلتقي بشكل غير دال مع بعضها، فتندفع نحو
الصيرورةdevenir ، بأن تحمل على بعضها تحولات افتراضية، باعثها دائما مجال
التفاعل الذي تخلقه التلاقيات الوسطية، لهذا كان مجال تحقق الحدث هو "البين
بين" ، أي الوسط وليس الأطراف (4)، فالتفاعل يحصل عند التلاقيات وليس في
المراكز والرؤوس، هذا فضلا عن كون نتائج هذا الحدث نفسه هي من طبيعة
جذمورية، إذ لا يمكن أن نضع مسبقا خطة أو مسارا قبليا نحدد بحسبه ما سيؤول
إليه "الحدث"، لهذا كان الحدث غير حامل لأي دلالة أو معنى، لأنه هو المعنى
نفسه(5)، من حيث هو حركة وسطية(6) محايثة لا ترتدّ إلى أي عنصر سابق عليها.
والجذمور في عرف "الرأسمالية والفصام" هو توليفagencement ، أي هو الصيغة
الظرفية التي بحسبها تتواصل التعددات وتلتقي جزيئيا، لهذا فهو لا يتحقق إلا
على مستوى البساط وليس على مستوى الجذور أو الأعماق(7). وللتوليف ستة
مبادئ تحكمه، وهي مبادئ تزكي كلها الانفتاح وترسخ أولوية الصدفة باعتبارها
عنصر الربط الوحيد بين مكونات الجذمور(8).
هذه المبادئ هي على التوالي : 1- 2 التوصيل والتنافر؛ 3 - التعدد الإثباتي؛ 4 - القطائع غير الدالة ؛ 5- 6 الخارطة والتصوير.
تلحّ المبادئ الثلاثة الأولى ("الربط" و"عدم التجانس"و"الـتعـدد المثبِت")
عـلى كـون التوليفـات الجـذمـورية لا تتحقق إلا بالتوصيل connexion، توصيل
يتميز بخاصيتين، أولاهما أنه يحصل بين عناصر هي أصلا موصولة ومتعددة، إذ
لا وجود لمصادر أولى أو مبادئ أخيرة في التوصيل، وثانيهما أنه توصيل بين
متغايرات في ذاتها، فلا حتمية فصلية أو جنسية في التوصيل(9) فكل ما يتواصل
هو مختلف ومتغاير، في مجال تفاعل بيني يستعصي على كل تصنيف نظري أو
أخلاقي.
بحسب المبدأ الرابع (القطائع غير الدالة ruptures asignifiantes) (10)يكون
التوليف ربطا لا يلتزم بمفصل ثابت عنده يحصل التلاقح، فمن طبيعة التلاقيات
الجذمورية أنها غير مفصلية، إذ كل نقطة في الجذمور يمكن أن تكون نقطة لقاء
بنقط أخرى تبعث الحياة في مجموع التركيب ولهذا سميت التركيبات الجذمورية
"لقاء"، أي تركيبات جزيئية وترابطات عارضة لا تحمل أي دلالة قيمية ثابتة.
وبحسب المبدأين الأخيرين(11) لا يتقدم كوحدة أو بنية، بل كمجال تلاق
لخطوط مفتوحة وغير متناهية ولهذا فلا إمكان لتمثله إلا باعتباره خريطة أو
مبيانـا وليس أبدا بنية (12)، إنه بساط للتلاقـح الطارئ، تماما كما في
مجـاز "الشحرية والنحلة البرية" ( أو "الزنبور والسحلبية" كما يترجم في
الغالب) La Guêpe et l’Orchidée (13) حيث لا واحدة من جنس أو فصل الأخرى
ولا عنصر في الأولى يتوافق قبليا مع الثانية، لكن هذا التلاقي الظرفي
والربط الجزيئي بين العنصرين في نقط غير مفصلية، هو ما يخلق إمكان "حياة
بينية" Symbiose.
لهذا التحديد المجرد في تصور دولوز دلالة أنطولوجية أساسا، لأنه تحديد
يجسد فعل الوجود وبنية العالم والطبيعة في ذاتها، ولكن له أيضا وجها
إيتيقيا وسياسيا.
ما الذي ينتج عن هذا التصور حين نطبقه في أفق عملي وسياسي؟
ينتج عنه أن المجتمع يفقد في التصور تماسكه وجوهريته وبنيته "الهرمية"
التراتبية، ليصير جذمورا وبساطا وتشكلا محايثا، وينتج عنه بالتالي أن
مفاهيم السلطة والسياسة والقوة والثورة تفقد دلالاتها "الجوهرية"
التقليدية، فتنحلّ السلطة إلى نسغ يسري في كل شيء حتى في اللغة، وتنحلّ
السياسة الكبرى إلى سياسة صغرى، بل إلى سياسات صغرى، وتنحلّ الثورات
التاريخية الفاصلة إلى ثورات جزيئية طارئة عارضة لا تنقطع.
ما علاقة كل هذا بما انطلقنا منه ابتداء أي بهذا الذي يحصل عندنا ؟
علاقة مباشرة، لأن ما يحصل هو أننا نحيا عصر اندثار السياسة الكبرى، ونلج
عصر السياسة الجذمورية الي نتحرر فيها من التراتبات الهرمية المعيارية،
لنلج عالما لا ينتظم إلا بالتعالقات المحايثة الشبكية، تعالقات افتراضية لا
سمك لها ولا حاكم لها ولا ضامن لصيروراتها، لأنها تلاقيات متحايثة تتم على
مستوى السطح، فالثورات التي نحيا اليوم هي في منطق تحققها هي عينها ما
أسميناه بالثورات الجزيئية، لأنها ثورات "حدثية"، ثورات لا تعرف "قادة"
كبارا أو مراجع أخيرة، إذ لا سلطة فيها إلا للتوافقات الافتراضية التي
تلتقي في لحظة ما وعند نقطة ما من الفضاء الافتراضي، فهذه ثورات لا
"زعامات" لها ولا مراكز قارة تصدر عنها ولا حوامل ثابتة تتبناها، ولا جيوش
أو قوى حزبية تترأسها، بل هي محض فعل جزيئي محايث تحقق ويتحقق على مستوى
أفقي، بمنطق جذموري خالص لا يحتكم لأي "تنظيم" أو مخطط "قبلي"، أو لم
تُسمَّ هذه الثورات بثورات الشباب (كناية عن غياب الزعماء)؟ وثورات
"الفيسبوك" والمواقع الاجتماعية والانترنيت (كناية عن غياب الأحزاب والأطر
الكبرى)؟ وماذا يكون الأنترنيت غير جذمور كبير؟ وماذا يكون الفيسبوك غير
فضاء افتراضي للتلاقي المصادف الذي لا سمك له ولا بداية ولا منتهى؟
شخصيا لست أعتقد أن هناك فضاء تتحقّق فيه صفات الجذمور بأتمّ ما يكون
(التلاقح غير المفصلي والتوصيل والتعدد الإثباتي) من هذا المكان الصقيل، من
هذا البين بين الخالص الذي هو العالم الافتراضي الذي فيه ومنه وبه حصل هذا
الذي يحصل اليوم.
النتيجة الأساسية والخبر الأهم إذن ليس هو قيام هذه الثورات في ذاتها، بل
هو كوننا ولجنا مجال السياسة الصغرى وعالم الجذمور السياسي، وهو عالم
ديمقراطي"جذري" بطبيعته، وما الثورة إلا تمظهر عمليّ لولوجنا هذا العالم،
لهذا فإن صراع "الثورة الفيسبوك" اليوم ضد مناهضيها والساعين لكبتها لا
ينبغي أن ينظر إليه كصراع بين توجّهين داخل نفس التصور عن السياسة
والمجتمع، بل هو صراع بين منطقين في النظر، صراع بين تصوّر يتحرك بمنطق
رأسي يحاول أن يصارع لإدامة وجوده، وتصور جذموري يتحرك بمنطق جزيئي توليفي،
وهو صراع لا يعي به حتى فاعلوه، وهذا ما يفسّر في نظري ذهول رجال السلطة
القدامى وعجزهم عن فهم وتفسير ما يحدث، إذ أنهم يجدون أنفسهم أمام تحولات
لا يعرفون كيف يترجمونها أو يعبروا عنها في "معجمهم"، بل هو ذهول نلاقيه
حتى عند "المحللين" وما ينعت بـ"علماء السياسة" والاستراتيجيا، إذ ليس من
الممكن بمفاهيم صلبة من قبيل السلطة والقيادة والحزب والمرجعية التاريخية
والزعامة والقيادة أن يفهموا ويدركوا عمق ما يحدث، فلم يعد من الممكن اليوم
التفكير وفق منطق التراتبات الأخلاقية التي تجعل طرفا أرقى وجوديا من
الآخر، ليس لأنها سيئة أخلاقيا، بل لأنها سيئة منهجيا، فمنطق اشتغال آلة
السياسة والمجتمع اليوم هو منطق شبكي تحكمه التلاقيات المصادفة المحايثة
وليس منطق المحاور والتراتبات الهرمية العمودية، هذا ما نتعلمه من هذا
الحدث، ومن حدث آخر حصل قبله لا يقلّ دلالة حتى وإن كان أقل قوة، وهو ما
سمّي بتسريبات "ويكيليكس".
على أنّ هناك أمرا أخيرا ينبغي أن نشير إليه وهو أن شرط الثورة الجزيئية
كما يقدّم نص "الرأسمالية والفصام" هو أن تكون "صيرورة" DEVENIR جزيئية
(14)، وقدر السياسة الصغرى هو أن تكون "صيرورة" صغرى، أي ألا تتماهى أبدا
مع أي نظام حين يقوم، فقدرها الدائم هو أن تكون ضدّ ما يتقدّم كمعيار، أي
أن تكون دائما مع الهامشي والجزئي والشارد، وهذا أمر يعني أنه لن يكون من
الممكن أن نقول في لحظة ما إن الثورة تحققت وأرست "قواعد" نهائية، فقدر
الثورة والسياسة في عرف "الرأسمالية والفصام" هو أن تظل دائما محكومة بمنطق
تحققها الجزيئي، أي أن تظلّ ضدّ منطق الأغلبية مهما تكن، من حيث إن
الأقلية في الحقيقة هي الجميع، في حين أنّ الأغلبية هي لا أحد(15) .
*** ها نحن إذن نرى أن الحديث عن السياسة قد تحوّل بنا للحديث عن الفلسفة
والحديث عن شعب تحول بنا للحديث عن كتاب والحديث عن ثورة تحول بنا للحديث
عن مفهوم. قد يبدو الأمر غريبا، ولكن للفكر شعابا وشجونا تجعله أحيانا في
وسط الطريق، بحسب توصيف هايدغر، يحيد بذاته، لبلوغ مراده، عن كل ما اختطه
من مسارات ابتداء.
الهوامش: * نستعمل هنا صفة الصغرى كمقابل لـmineure والصغر ليس مقصودا به هنا دلالة
القلة أو النقص، بل العكس هو الصحيح، فمقصوده هو الممارسة الإبداعية أو
السياسية التي لا تخضع لقوالب التحليل والإنتاج القائمة وفي هذا تكمن
ثوريتها وقدرتها على تجاوز هذه القوالب التي تمثل بحسب هذا التقابل ما هو
"كبير" و"معياري"majeure ، أنظر في هذا الصدد دولوز مع كتاب
Kafka, pour une littérature mineure, les éditions de Minuit, (coll. «Critique»), Paris. 1975
**نحيل هنا لتمثيل على ما وقع فيه سارتر من خطأ في تقويمه لكوبا كاسترو في
بداياتها ، وعلى موقف فوكو من إيران الخميني بعد الثورة الإسلامية.