كان الله في عون الخبير في لغة الإشارة العامل في التلفزيون المغربي؛ إنه يجد صعوبة كبرى في القيام بالترجمة الفورية للكلام المطلق على عواهنه، الذي يشهده البرلمان المغربي، وذلك خلال النقل التلفزيوني المباشر للجلسات العمومية.
ولعلّ أكثر الجلسات غرابة تلك التي يحضرها رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، للإجابة على أسئلة البرلمانيين المتعلقة بالسياسة العامة. ورغم أن هذا التقليد عادٍ ومألوف، فإن بنكيران يتعمّد جعله غير عادٍ، بعباراته المرتجلة وتعليقاته وردوده على البرلمانيين، فيتحوّل الاهتمام من الأسئلة والأجوبة التي تشغل بال الرأي العام المحلي، إلى تلك العبارات الطائشة والطرائف الصالحة للفرجة، أكثر من صلاحيتها لشفاء غليل المواطنين بشأن القضايا المتعلقة بمعيشهم اليومي.
مثالُ ذلك ما حصل خلال الأسبوع الماضي، فقُبيل صعود بنكيران إلى المنبر للإجابة على أحد الأسئلة، خاطب رئيسَ مجلس المستشارين حكيم بنشماس (البرلماني عن حزب «الأصالة والمعاصرة» المعارض) قائلا: «والله يلا دارو مزيان منين طلعوك تمّا» (أي: لقد أحسنوا صُنعاً حين أصعدوك إلى هناك) في إشارة إلى كرسي رئاسة المجلس، ليجيبه بنشماس: «لعلك ارتحتَ منّي، أليس كذلك؟»، وحين أثار هذا الحوار موجة من الضحك داخل البرلمان، قال بنكيران لبنشماس: «جيّد أنني أضحتك!»
لكنّ مهمة رئيس الحكومة لا تقتصر على الإضحاك فحسب، وإنما تتعداها إلى السخرية والاستفزاز وإثارة الغضب، فمن أمثلة السخرية تعليقه على برلمانية كانت تحمل يافطة متضمنة لعبارة احتجاج داخل قبة البرلمان، حيث قال لها: «اقلبيها، اقلبيها، إنها مقلوبة!»، ومن أمثلة الاستفزاز مخاطبته لبرلمانية بقوله: «آسف.. آسف… أنت لا تعرفين الديمقراطية، فاخجلي من نفسك قليلا!»، ومن أمثلة إثارة الغضب قوله لمن قاطعته محتجة من داخل القاعة: «الغريب أن صوتها لا يحتاج إلى مايكروفون.»
يدرك عبد الإله بنكيران حجم الصدى الذي تخلّفه «قفشاته»؛ ولذلك، يطّلع على الشبكة العنكبوتية يومياً قبل صلاة الفجر، فيشاهد الفيديوهات والرسوم الكاريكاتورية التي تتناوله، والتي تصوره أحيانا مطارَدا من طرف «التماسيح»، مثلما كشف خلال إحدى الجلسات البرلمانية الأخيرة المنقولة عبر التلفزيون؛ «لقد جعلوني هزءا أمام العالم»، يقول بنكيران، وهو يشعر أن الناس يترصدون كل عباراته وحركاته ومواقفه، ويجعلونها موضوع تندّر أو موضوع فيديوهات وصور ساخرة تُتداول عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ويُقبل الناس عليها بكثرة… ولكن، مَـن له ـ يا ترى ـ مصلحة في إلهاء المواطنين عن قضاياهم اليومية، وتعويضها بلقطات مضحكة لرئيس الحكومة، تتنقل من حاسوب أو هاتف ذكي إلى آخر؟ وهل يفتعل بنكيران نفسه ذلك عن قصد؟ أم ثمة مَن يدفعه إلى ذلك دفعا، ليكون المواطن في النهاية هو الذي يؤدّي الثمن باهظاً، بتجاهل معيشه اليومي؟
مزايدات سياسية حول الأمازيغية
موقف آخر لا يُحسد عليه المترجم إلى لغة الإشارات، يتمثل في السجال الذي يُثار ـ من حين لآخر ـ داخل قبة البرلمان بين البرلمانيين أنفسهم، وبينهم وبين أعضاء الحكومة حول مسألة اللغة الأمازيغية؛ حيث لا يجد المترجم المذكور من حيلة أمامه سوى التوقف عن الترجمة، تاركاً النقاش محتدا حول طرح السؤال بالأمازيغية والجواب عليه بهذه اللغة. وإذا كان بعض الوزراء ذوو الأصول الأمازيغية يفضّلون تجاوز حدة النقاش من خلال تقديم إجاباتهم بهذه اللغة، ممزوجة بعبارات من اللغة العربية الفصحى أو العامية المغربية (مثلما يفعل ذلك وزراء الصحة والتشغيل والأوقاف)، فإن ذلك لا يعدو أن يكون حلا ترقيعيا لا ينهي المشكلة لعدة اعتبارات:
ـ أولا: إنه إذا كانت هذه الطريقة ترضي ـ إلى حد ما ـ المتحدثين بالأمازيغية، فإنها لا ترضي من لا يعرفون هذه اللغة. فمن حق كافة البرلمانيين أن يعرفوا فحوى السؤال والجواب، كما أنه من حق كافة المواطنين ذلك.
ـ ثانيا: يثير موضوع التحدث بالأمازيغية داخل البرلمان مسألة الترجمة من العربية وإليها؛ وهو موضوع لا يقتصر على الوزراء والبرلمانيين وحدهم، بل يشمل أيضا كل المغاربة ممن يشاهدون التلفزيون. ومن ثم، فإن المطالبة بإدخال الترجمة إلى البرلمان لن يحلّ المشكلة، إذ يبقى من حق المشاهد المغربي معرفة ما يقال عبر الشاشة، بإحدى لغتيه الوطنيتين. وبما أن الدستور المغربي يضع كلا من العربية والأمازيغية على قدم المساواة، فإن الإشكال الذي يطرح نفسه، هو: كيف يمكن تقديم نقل تلفزيوني مزدوج اللغة لجلسات البرلمان؟ ولذلك، يحق التساؤل: هل الموضوع تقني محض، أم لغوي، أم سياسي؟
ـ ثالثا: بما أن القطب الإعلامي العمومي يتوفر على قناة مكرسة للأمازيغية، فلماذا لا تخصص حيزا لنقل جلسات البرلمان، مترجمة إلى هذه اللغة؟
ـ رابعا: إلى أي حد يمكن للمواطن المغربي البسيط الذي يتحدث بالأمازيغية، أن يفهم ما يقوله البرلمانيون والوزراء بهذه اللغة، علماً بأنهم يُقحمون مفردات بالعربية في كلامهم، وهي مفردات لا توجد في الأمازيغية؟