18 أكتوبر 2014 بقلم
الحاج أوحمنة دواق قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:الفعل التاريخي والوعي التحرري:
قراءة في مفهوم الإصلاح عند علي شريعتي
مدخل:
تنطلق الممارسات التعسفية التي يتعرض لها الإنسان تباعاً، من عمليات مركبة تتداخل اعتبارات كثيرة في تشكيلها، ويمكن أن يتحقق حولها تحالف متين لا يتكون غالباً. وكان الذي جمع هؤلاء؛ هو الممارسة المبرمجة والمقصودة لعمليات الانتهاك المتوالي للإنسان، كظاهرة وجودية مكرمة، وفريدة. نعني بتلك القوى كل السلط المادية والمعنوية التي تصادر باستمرار أحقية الغير في إثبات حضوره وفاعليته في بناء ذاته من جهة، وتحقيق مصيرها من جهة أخرى، بوصفه هذه الذات وقد توالت فاعلياتها المتنوعة والثرية.
والمورد الذي تبني عليه تلك السلط انتهاكاتهاً وإهداراتها المخططة، يبرز في ضيقها من كل أداء متميز بحسبانه شكلاً من المخالفة العامة أو الخاصة لما دأبت عليه في تنظيماتها وترتيباتها الخاصة في سوْقِ الناس إلى مصائر لم يسهموا هم فيها، ولذا تكون القوة الممارسة عليهم نمطاً من القضاء على خصوصية كل ذات بما هي شكل من الحياة غير متطابق. ويدل على حضور متميز وغير متكرر، وهنا نلقف متوالية دائبة، عناصرها التغير، الإضافة، البذل، ومراكمة النتائج كمؤثرات تنجز الوقائع، أو تتحكم فيها. ونجد أيضاً أن جدلا من لون آخر ينبثق، حيث تستحيل هذه المنجزات بفعل السلط السابقة، وبفعل مؤثرات أخرى ظاهرة أو خفية، أو متراوحة بينهما، إلى مصادرات للفعل الذي كونها ابتداء، فنكون أمام حالة غريبة تظهر في صورة الذي نسج شيئاً التف حول عنقه فيما بعد، فأرداه.
لكن من الملازمات للكينونة البشرية التفاتها الدائم إلى مبدعاتها بالمراجعة والتمييز، فتبقي على المفيد وتدفع به إلى نهاياته القصوى، من زاوية ما هو إضافات نوعية إلى كل المعطى الوجودي الطبيعي، وأيضاً تكتشف مساوئه فتعمد إلى وضع تنظيرات ومقررات تشريعية وتوجيهية لتلافي المصير الذي تكون التحالفات التي أقررناها قد وضعتها بصورة من الصور، وكلتا الممارستين تنتهيان بنا إلى ما يشبه العمليات التكاملية الاستزادية في فاعلية البشر وأداءاتهم، وهو ما يمكن وسمه بالتاريخ، كنتاج لفاعلية، وأيضاً كمحدد لها، وهنا تكمن مشكلة التاريخ، سواء بالوعي به ومقتضيات تشكله الأول، وفهم آلياته في تخطي احتياطات الناس من سطوته؛ أي التاريخ بين الوعي به وتوظيفه لصالح الإضافات الإيجابية وتأسيس فضاءات التنوع والإثراء، وأيضاً التاريخ كمتسلط من لون آخر على من أنجزه بادئ الأمر.
لذا نجد الداعي ملحاً إلى استجلاب التسبيقات التي تحول دون أن تقع النتائج السالفة في الإطار المؤذي اللاغي للفاعلية الإنسانية، بدءاً من المستوى الأنطولوجي الكينوني، وصولاً إلى الجوانب المعاشية الدارجة، بالمرور على كل ألوان التدبير المختلفة، ومن أجلى هذه الاحتياطات التنظيرية والعملانية الأولى، الوعي بالعالم وما فيه، وما يأتي عليه من تغيرات متوالية مقصودة أو مدفوعة بالاضطرار. لكن ليس كل ما نعت بالوعي هو كذلك، فمنه الزائف، ومنه السطحي، ومنه المكرس لحالات الانحباس والتعطل، لذا الإنسان بمسيس الحاجة إلى نمط خاص منه، لكي يقدر في الأخير على صناعة مصيره، والاشتراك الدؤوب في بناء الذات الممكنة لقدراتها وفاعلياتها عل الانطلاق المثمر، وهو ما نعتناه بالوعي التحرري، المحقق في الأخير للفاعلية العامة لكل الذوات المتشاركة في شكل جماعي، وأيضاً المانح للذات الشخصية الطاقة التي تبذل في اتجاه تفتيق ممكناتها التكوينية أو التربوية الثقافية، التي توارثتها من الفاعلين السابقين، أو التي أسست لها في تجربتها الخاصة ومعاناتها الشخصية للحياة، وبتكاتف الحالين معا ينبثق ما يمكن نعته بالتاريخ الكلي للعالم، بمساراته المختلفة التي تنوعت بحسب التطور والانبثاق الدائم للحياة، انبثاق ينشأ من فهمه وتغيّيه، وممارسته والشروع فيه.
وإذن ليس كل فعل يحرك، ولا أي فهم يدفع، بل من الواجب أن تكون عنده خصوصيات، نبحث عن مدلولها لدى عالم اجتماع ومفكر نظّر لأهمية العودة إلى الذات، وفاعلية الإنسان في بناء الأحداث وصياغتها، رغم اعترافه بحضور قدرية ما للتاريخ، وللطبيعة وللمجتمع، وللنفس...إنه المفكر الإيراني المعاصر؛ علي شريعتي (1978م)، نبحث في رؤيته للفعل وفلسفته، وبواعثه ومؤسساته، وغاياته ومقاصده، منشئا لنظرية في الفعل التاريخي المنبثق عن الوعي المتحرر أو التحرري، مميزا بين الإصلاح والخدمة، والمفكر والمثقف، والفقيه والعالم...وهنا نسأل ما معنى الوعي التحرري؟ وما يميز الفعل التاريخي عن غيره من أداءات البشر؟ كيف يبلغ الوعي، ويتوسل به إلى الفعل؟ هل كل فاعلية مؤدية، أم أنها تستوجب شرائط بنيوية ملازمة لكل حراك وفاعلية؟
1- في مفهوم الفعل التاريخي:
تتبادر الدلالة المركبة إلى التحليل، من جهة تعدي معنى التاريخ إلى الفعل، وأيضاً انعكاس الأخير على محتوى الأول، وبتجميع المسميين ننتهي إلى مقصود علي شريعتي من استخدام المصطلح السالف، خاصة وأنه واءم بين منظورات عدة حتى بلغ برؤيته التركّب المنشود، فمن علم الاجتماع الديني ومدارسه، إلى أدبيات الماركسية وتأثيراتها النضالية، إلى الرؤية الوجودية التوحيدية المستقية من الأديان ثمرتها، ومن الإسلام خلاصته.
ونشرع في بناء المحتوى المفهومي للتاريخ، حيث كانوا يتعاطون معه في البداية على أنه نقل للأحداث، والصور الماضية، لكن بالتمييز بينه وبين القصة، إذ نجد الأخيرة تتعلق بالخيال وعوالمه الافتراضية، في حين تضاف الوقائع كما هي إلى التاريخ. وتجدر الإشارة إلى أنه استخدم بمضامين متطورة وملازمة لمسار الفهم العام لدور المعرفة والفكر، بالنسبة للوقائع والأحداث المختلفة، فقد وظف بوصفه رواية للأحداث ومجريات الأمور تبعاً لتسلسلها، وانطبق أيضا على الوقائع الكبرى التي رسمت ملامح الانتظامات الكبرى للبشرية في صلتها بما حصل لها فعلا، دائما بالنظر إلى الوراء.
لكن أهم ما طرأ عليه في عرضه لا كفن فحسب، بل كظاهرة شاملة تتخطى التفاصيل، وتتعداها إلى قوانين أساسية توجه الظروف إلى مجرى معين، لتعديل هذا الوضع أو ذاك، وهنا نذكّر بعبد الرحمن ابن خلدون (1406م) آن انتقد مسالك السابقين في عرض التاريخ كسلبيات شاملة يخضع الجميع، إلى فاعليات إيجابية تتداخل في تحريكها معطيات متشابكة، ومن ذلك ما أومأ إليه حال عد التاريخ علما للعمران الكوني، وقال عنه "اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال"
([sup]1) [/sup]تظهر أهمية تعريفه في إلحاقه للوقائع بمنطلقات تسبقها، وأيضاً بغايات ترمي إليها، ما يدل على حضور الفاعلية الشاملة الناشئة عن أخرى تسبقها، مضيفاً الخاص إلى العام، ولم تذهله العناصر المتفاوتة المتباعدة، وجعله يبحث عما يرصف الأحداث إلى تبرير معقول رغم تكثر نتائجه.
وأهمية المعنى الذي أسس به للتاريخ تخطيه لمجرد الواقعة، إلى دلالات أدخل في تجارب جذرية كبرى تتدخل في إظهار كيانات كبرى في شكل دول، وحضارات، وما يأتي عليها جراء الفاعليات المختلفة، والأحوال العديدة، فيحصل الانتقال من/إلى، وتترى التأثيرات في الاتجاهات جميعا.
ويظهر أيضا أن التاريخ قد قفز بشكل لافت من جهة محتواه عند هيجل (1831م)؛ فهو "...ليس خليطا أعمى من المصادفات ولكنه تطور عاقل، وحين تظهر الفكرة في تاريخ العالم على هذا النحو، فإنها تشكل ما يسمى بروح العالم...المحكمة الأخيرة والقاضي النهائي بين الأمم..."
([sup]2)[/sup]فالانتقال والتكامل الذي يطرأ على الكائنات كلها، بالخضوع للأسباب عينها بما يماثل الخطة المعدة مسبقا، في خضم تجليات متباينة يبرزها التحليل الأخير، محطات للوعي الواحد المُجتمِع من وعي الأفراد، بغير التفات إلى الأجزاء بما هي، بل بما تتطابق فيه، ما يدل على الفاعلية بشكل ما، وعلى الحضور الفردي بما هو قناة تبرز به الجماعية، وأيضا حاجة الجماعية إلى الذاتية لتنطلق فتتحقق فيما بعد.
وهنا "عثرت فكرة التاريخ بوصفه صياغة قانون التطور الذاتي الإنساني على أكثر تعبير درامي مثير"
([sup]3)[/sup]لعدم اختصاصه بأحداث منفصلة لا تتصل بأي رباط عام، فجعلها هيجل نطاقا كليا مستبدا بكل الأفراد والوقائع والتوقعات والآمال والصيرورات...
ولكي يتحدد المعنى في ثنايا التحليل؛ نعمد إلى التأكيد على خاصية أساسية في مدلول التاريخ، حيث وظف في مستويات دلالية عدة، فقد ينطبق على حركة الفكر ومنعكساته العامة في الثقافة، وقد ينطبق على الفضاء السياسي وصناعة الموقف وبناء الرأي حيال التغيرات التي تحدث في نطاق الصلة بين مؤسسات المجتمع، وهو التاريخ السياسي، وما يولده في اختيارات المواطنين والكتل التاريخية المختلفة من التزامات إزاء الاستلابات التي تمارس عليهم، فيفقدون مواقعهم التي حصلوها بتبريرات واهية مزيفة، وهو المعنى الذي صاغه جورج لوكاتش (1971م) تيمناً بظلال المعنى الماركسي للتاريخ، فسمى الحالة الرافضة والدافعة للأفراد للتململ والثورة، بالوعي التاريخي.
فما ينعت بالتاريخ ينتج عن التفاعل بين الذات والموضوع؛ أي عن وعي الناس بالقوانين التي تحكمهم، ويميل نحو إعطاء الأهمية للوعي، خلافا لما كانت عليه الماركسية الشرقية التي تعطي الأسبقية للواقع. هذا الوعي الذي يجد فعاليته في وعي الطبقة العاملة التي أحالتها الرأسمالية إلى بضاعة. ولا يمكن لهذه أن تتحرر إلا برفضها الكامل غير المشروط لوضعها كبضاعة، وأفادت الماركسية منظورها من نتائج التحليل الدارويني للفرق بين التطور والتاريخ، ما أدى في الأخير إلى التمييز الأساسي بين موقفين، أحدهما؛ قائم على "...اعتقاد عميق بالضرورة التاريخية للتحرر الاجتماعي، وهو موقف عقلي استمد الكثير من الرواج المعاصر له في التاريخ الطبيعي، وبالذات تشارلز داروين. ومن ناحية أخرى، تبلور إيمان مؤكد عليه في قدرات الرجال والنساء على صنع التاريخ بأنفسهم".
([sup]4)[/sup]
فازدواج طبيعة التاريخ، كضرورة مهيمنة، وكمادة للتحرر منه، لا يلغي أهمية إدراكه من جهة أنه ماثل كنطاق يشبه الحالة القدرية المستبدة بمصائر البشر، ومن جهة ثانية أنه طريق الخلاص منه/به، ما يجعل التحليل يتجه إلى تفسير الوعي بوصفه تاريخاً مفهوماً موعا به، وإلا فإن الزعم بأن الوقائع يصنعها الناس وفقط، غير مجد في تبين الطبيعة القهرية له، فالتاريخ يصنعه الناس، وهو يعيد صناعتهم، وإذا أرادوا الفكاك منه، عملوا به، له."فالتاريخ يمر سريعا، ولكن القوى العميقة التي تصنع التاريخ لا يمكن استكشافها واستكشاف تأثيرها إلا عبر الزمن الطويل"
([sup]5)[/sup]فحركته بطيئة ولا تكاد ترى، لكنها في النهاية تحدث، وفاعلية الإنسان المتراكمة فيها بارزة، لكن الآن المباشر في القراءة للأحداث والوقائع، يدفع بالمتأملين أو الدارسين إلى الظن بأن الناس متأثرون فحسب، وهم نتاج سطوتها وتأثيرها. وبذلك نجد أن "الإنسان يستعين بالتاريخ ليبني كيانه وشكل إنسانيته"
([sup]6) [/sup]ولكنها استعانة غائرة ممتدة، تأخذ من الماضي للحاضر، وتنقذف بالأخير إلى أعماق الزمن القادم، بما هو نتاج لفاعلية البشر، وحاضر فيها بكيفية ما.
وهنا نجد مفهوم التاريخ، متلبسا بمعنى آخر، يؤكد على طبيعته، ويدخل في تركيبته الجوهرية، أعني القدرية أو الجبرية، ومن البداية علي شريعتي واضح إزاء هذا العلاقة، "ولا يعني هذا أنني لا أومن بالحتمية التاريخية، لكني أريد فقط أن أقول: الإنسان هو الذي يستطيع - بقدر نضجه وتصميمه- أن يفرض إرادته على إرادة التاريخ، كما أن الطبيعة تجعل النبات والحيوان-نسبيا-تابعة لإرادة الإنسان وصنعه، هذا بالرغم مما لهما من حياة وحركة طبقا للقوانين المسلم بها"
([sup]7)[/sup]فكون المظاهر الحياتية تسلمنا إلى الاعتقاد بتلازم لافت بين انتظامات الوجود المختلفة، من طبيعة وإنسان، بما هو ظاهرة فريدة، كذلك الحال بالنسبة للصلة بين تأثراته بنواميس التكامل والارتقاء، وبما هو ذاته تجليا لهذه العمليات التكاملية المختلفة، وإذن فالتاريخ مجال تسمتد منه الفاعليات المتنوعة، للفعل فيه ذاته.
لهذا تكون ماهية التاريخ من ناحية مسؤولية صناعته، "...إذ أن أي عامل يلغي دور الإنسان كصانع مصيره وتاريخه، لم يحقر الإنسان وينزل به إلى مستوى نبات أو حيوان، وهو تابع محض للبيئة وقوانين الطبيعة والغريزة والفسيولوجيا، بل سلب من الإنسان المسؤولية، وهي النتيجة المنطقية للإرادة والحرية أو الاختيار بمصطلحنا، والانتخاب بالمصطلح الأوروبي. وهذه المسؤولية هي أعظم فضائل الإنسان ووجه تميزه عن كل الكائنات، وفي هذه الحالة يكون قد سلب -طوعا أو كرها- الحركة والتعامل مع المجتمع".
([sup]8)[/sup]
فالمعنى المباشر الذي يمدنا به النص السالف، وصله لمعنى التاريخ بلازمة الحرية والمقدرة على الفعل في الظواهر، بل وإيجادها عينها، ما ينفي السطوة القدرية لدلالة التاريخ، كما هي ظاهرة في التراث الثقافي الغربي، وبرزت في سياقنا الفكري، مانحة للبشر المقدرة على التخطي المستمر. إن "...عامل التغيير والتحول والرقي والانحطاط هم الناس، كما أن مسؤولية والمجتمع والتاريخ تقع على عاتق الناس"
([sup]9) [/sup]من جهة الدراية بعوامل التاريخ، ومعرفة قوانينه، والمضي به إلى مآلاته التي هي التحليل الأخير، مصائر ماثلة صنعها الإنسان ذاته، وبذلك يكون شريعتي قد جعل من الفعل جزءا من حقيقة التاريخ، بل منبثق عنه ومتولد منه، بكيفية واعية في الغالب ومقصودة.
وبالرغم من حضور القوانين الطبيعية والاجتماعية والتاريخية، فذلك لا يلغي تماما الحقيقة الجوهرية لماهية التاريخ، كتكامل يبنيه الناس ويتدخل فيه البشر، وهذا عين الرؤية الوجودية التوحيدية، المؤمنة بأن "...كل التحولات والتغيرات الاجتماعية تتم على أساس قوانين جبرية، وسنن لا تتغير، هي التي تشكل مسيرة المجتمع. من هنا نجد أن الإسلام يقترب قليلاً من الجبرية التاريخية والاجتماعية، لكن الإسلام يقول شيئا آخر يعتبر تعديلا في قانون الجبرية، وهو أن المجتمع الإنساني –أي الناس-في نظر الإسلام مسؤولون، وكل فرد من أفراد المجتمع مسؤول عن تعيين مصيره...".
([sup]10) [/sup]
إذن؛ هي مسؤولية ينبثق عنها التاريخ، ورغم اعترافه بوجود قوانين عامة سارية ومهيمنة، إلا أنه أسس لمنظور يدعو إلى الإقرار بمركزية الفاعلية البشرية في ماهية التاريخ، والفعل التاريخي. "...وبالحد الذي يحصل فيه على الوعي التاريخي، وبالحد الذي يعرف مثقفوه هذه المرحلة التاريخية الخاصة...يتمكن هذا المجتمع، بقفزة واحدة وبدون أن يطوي المرحلتين الرابعة والخامسة، أن يصل إلى المرحلة السادسة...وبالقدر الذي يحصل فيه على الوعي التاريخي، يعرف التاريخ، يكتشف حركة التاريخ، ويتمكن أن يتجنب حركة التاريخ الجبرية هذه...هذا هو التمرد على التاريخ، هذا هو الانطلاق، إطلاق المجتمع من جبر التاريخ وبفضل معرفة جبر التاريخ، حركة التاريخ واكتشاف قوانين التاريخ الجبرية"
([sup]11) [/sup]تتالى حقيقة التاريخ في صور شتى، تارة حركية، وأخرى قوانين مؤثرة، وثالثة هيمنة صارمة، وكلها تشتمل على مضمون الجوهر التاريخي، لكنا نلقف شريعتي يربط بين التاريخ كقوة، مؤثرة، بقوة أخرى أفعل وأكثر تأثيرا، إذا جمعت إضافة إلى طبيعتها، مُكنات مكتسبة، من وعي، ومعرفة، فهم، تمرد، نضال، تجاوز....وكلها في النهاية تصب في اتجاه استنقاذ الإنسان كفاعل تاريخي رائد ومتميز.
وبذلك، يكون قد خط مسلكا تحليليا متوازنا، يجمع إلى الجبرية التاريخية، الحرية المشفوعة بالمسؤولية المؤدية عن الإنسان، الإحساس بخطورة الموقف الأنطولوجي، وما يترتب عليه سوسيولوجيا وثقافيا على البشرية جمعاء، وهنا تكمن حقيقة مدلول التاريخ/الفعل، من "حيث هو مخاطرة ومبادرة، أي من حيث هو تدخل يحدث تغييرا، يتحدد الفعل على أنه جماع الجهد الذي يصرفه الإنسان لينبسط والعالم تغييرا وتأويلا، فعلا وانفعالا في مسعى للالتقاء بمعنى أو لاستحداث معنى...فما يداخل الفعل من شطط وعنف لا يتنافى وتأكيد معنى للوجود الإنساني من خلال ما يدخله الفعل من تغييرات يجريها الإنسان على ذاته وعلى العالم، وتكون متوائمة مع ما يتحقق من غايات معقولة"
([sup]12)[/sup]وبإمعان النظر، يظهر الوصل الوثيق بين التاريخ/الفعل، إذ يؤدي الأخير إلى انبثاقة الأول وإشادته، مع استمرارية تبعيته له، وبذلك نكون أمام نوع من الجدل في دلالة التاريخ، خاصة وأننا نختبر المعنى بواسطة منظور يقر بحضور التاريخ من جهة، وفاعلية الإنسان من جهة أخرى. "..فهي مرادف المبادأة والفعل، كحركة...من حيث هو تحقيق للجدة...الفعل جدة تشاركية، إنه ولادة وفجائية وفرادة هي عجيبة البدء التي تمنح تجذره الأنطولوجي"
([sup]13)[/sup]التجذر الذي يجعل من الإنسان فاعل التاريخ الأساس، ومتحمل فعله أيضا، وهنا نجد الفرق بين منطقين في مقاربة ماهية التاريخ، من ناحية ما هو عبء وتبعة أنطولوجية وثقافية، ومن زاوية ما هو عبث وتلاعب ودوامة تبدأ ولا لتنتهي عند حد.
بالمعاني السالفة، يكون الفعل التاريخي قد اتضح بملامح معينة، تجعل منه مسيرة وجودية، يؤدي فيها الإنسان فاعليات شتى، تقوده إلى التكامل في تجربته الوجودية، بالارتباط والانفصال في آن، عن/با، الطبيعة، والمجتمع والنفس، والتاريخ، حتى يضحى قوة تستطيع أن ترتفع "...إلى حدود العلة المستقلة عن القوانين المادية، ويصل إلى مرحلة استثمار الجبر الطبيعي والوراثة والمجتمع والتاريخ، ويكون مدبر الدنيا المادية؛ أي صاحب السيادة على الوجود، ويقطع هذه المسيرة العلمية من التراب إلى الله. وهذا التطور تطور مادي وجبري، وفي نفس الوقت يتجه إلى نيل الحرية التي بها يتحقق الجانب الإلهي في الإنسان...وفي هذا المسار تجد فلسفة بناء الذات وجهتها وفلسفتها..."
([sup]14)[/sup]ومن الأهمية بمكان؛ التنبيه إلى الجدوى الفلسفية للمقررات العقائدية الواردة في رؤية علي شريعتي للتاريخ، فهو يستدعي مقولات قرآنية ليؤسس عليها تصوره ومفهومه التفسيري لتركيبة الفعل التاريخي، خاصة بالانتباه إلى الجدل الحاضر في كينونة التاريخ/الفعل، كنمط من التدافع بين الجبريات المختلفة، مع صرامتها، وبين الحرية المانحة للبشر، القدرة الفريدة على تخليق الذات، وبناء العالم، وبذلك لا يكون الفعل ضدا دائما للتاريخ، بل هو من لوازمه ومكملاته، وهنا تكمن عبقرية الرؤية التوحيدية في مقاربة الفعل التاريخي، والوعي التحرري.
2-الوعي التحرري الدلالة والأسس:
بعدما اتضحت ملامح الفعل التاريخي، وارتباطه بالحرية، وقيامه على المسؤولية الوجودية، يصل شريعتي ذلك كله، بقيمة مركزية في مشروعه، وهي الوعي، سر الأسرار ومنطلق الهبّة التاريخية للإنسان وسمة السمات التي عليها معوله، باعتبار أن الوعي مركز الذات الحاضرة في العالم والفاعلة فيه، وهو يتعدى المعرفة، وإن كانت من مظاهره، حيث "إذا تم حصر الوعي في نطاق المعرفة وحسب، نكون قد أفرغنا محتواه من غنى دلالي واسع، يمكنه أن يتسع لجميع ملكات البشر مقابل ما للكائنات الأخرى، خاصة إذا علمنا أن الوعي نظام للفهم والشعور والعمل والتواصل والتفاعل، مع الوجود ومعطياته، والمجتمع ومكوناته، والتاريخ ومحركاته، والسلوك وحوافزه أو مثبطاته. فحين يبلغ فرد ما مقام الوعي، فيعني ذلك أنه حاضر وليس غائبا، شاهد وليس غافلا، فعال وليس كسولا، مهتم وليس مهملا، مركز وليس هامشا، يقود ولا يتبع، ينتقد وليس إمعة..."
([sup]15) [/sup]
يفيدنا المعنى السالف للوعي، أنه المنبثق المركزي الذي يمنح للذات حضورها وفاعليتها، ويدخلها في إطار عمليات متوالية من التأثير في المحيطات الأربعة التي ينعتها علي شريعتي بالسجون الأربعة، ويمكنها في النهاية من إبراز أنطولوجيتها الخاصة، وتعينها التاريخي، فتتخلص من سطوة الطبيعة بالعلم، ومن النفس بالتربية، ومن التاريخ بالنضال والثورة، ومن المجتمع بتفهمه ومعرفة عوامل تكوينه، وهذه كلها مظاهر لحقيقة الوعي، معرفة، فهم، تحكم، علاقة، نضال،...فيملك الفاعل التاريخي بواسطة الوعي الانعتاق من ربقة إسار الظواهر المختلفة ويستعيد كيانه، وكلما أمعن في الاستعادة، كان أدنى من وصف الكائن التاريخي وسمة الواعي المتحرر.
وهذا اللون من الفهم، هو ما منح مجتمعات بأكملها القدرة على صناعة تاريخها، وتغيير قدرها، بما يشبه معجزة وقعت لها، "...ولا شك أن سبب المعجزة هنا عامل واحد هو الوعي، لكن ليس ذلك الوعي الذي يرد في المنشورات الدورية، أو الذي يستورد طبقا للموضة، أو يشكل مثل صندوق من المواد الغذائية وتوضع عليه علامته التجارية ويصل من الغرب فيستهلكه المفكرون، أو يصير مفكرا وواعيا كل من يستهلكه، لكن الوعي المستقل لجماعة من الجماعات تصل إلى وعيها فجأة على أساس من تاريخها وتناقضاتها ومشكلاتها، وبالتأثير من عوامل انحطاط المجتمع فيها.."
([sup]16)[/sup]فخلاصته نتاج جدل ذاتي، تتشابك اعتبارات كبرى وجذرية، تتصل بمصير المجتمع ذاته، من جهة التشكل، ومن ناحية المصير أيضا، فمن غير المعقول-تاريخيا-تكرار التجارب، لذا ينفي شريعتي عن ماهية الوعي أن تتكرر من زاوية الاستنساخ والنقل الاجتراري، بل يلوح إلى خصوصية ما في تركيبته المضمونية على الأقل. أما من الوجهة الشكلانية، فقد يظهر أنه متماثل عند الشعوب جميعا، بما هم ناس كما ألمحنا قبلا.
إن الوعي الذي يرمي شريعتي إلى تأسيسه؛ هو ذلك الذي "...يطلق شرارة في كل مجتمعها، حيث يصير كل فرد فيها برومثيوس الذي يقبس النار الإلهية ويأتي بها إلى أرضه ويوصلها إلى قومه فيهتك أستار الظلمة ويبدد برودة الشتاء، وتنتشر هذه الشرارة، ثم تجذب أنظار المواهب والأبطال والتاريخ وجهودهم إليها، هذه الشرارة هي الوعي المقترن بالعشق والإيمان...فيه قوة معنوية تفعل فعل السحر مثير الدهشة...ينتقل به من الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة"
([sup]17)[/sup]يظهر من الاقتباس الطبيعي الذي وظفه في ضبط معنى الوعي، حال شبهه بالشرارة، ومن مستصغرها يكون عظم النار، كذلك كل فلسفته، بما هي تواصلات وارتباطات بين مكونات العالم، فالوعي ليس خلوا يبتدع من فراغ، بل طاقة دافعة تنتج عنها سيرورات الحياة كافة، وتمنح للفاعلين القدرة على تغيير الظروف بما يخدم مصلحة الناس، ويعود عليهم بالنفع، وبما يتيح لهم تبديل ملامح العالم بكيفيات غير مسبوقة، تجعله قابلا للسكنى بوصفه بيته التكويني الذي يحيا منه/فيه. كذا الوعي/التاريخ/التحرر، به/منه، وبذلك تلتئم عناصر الوعي المحرر والدافع. "فمحصلة الأمر أن الإنسان مخلوق يتمكن من بناء أو صنع ما هو غير موجود في الطبيعة، وأن يشعل النار في شيء لم يكلن موجودا من قبل...ويستطيع على خلاف مشيئة الطبيعة ومقتضياتها أن يبني ما يرغب به، حتى نفسه، وأن ينظر للطبيعة مليا فيفهمها ثم يسخرها لنفسه...إنها نار الوعي والبصيرة للإنسان".
([sup]18)[/sup]
فالوعي؛ طاقة نابعة من قوة الذات، المنفصلة/المندمجة، مع محيطها، وقدرة على التحكم في إمكانياتها، وتفتيقها بما يتوافق وغرضها، وبما يسمح لها انتباهها، على أنها ميزة فريدة، وكينونة غير مكررة في كل العالم، فتنتهي إلى صياغة وإعادة صياغة كل شيء وفق منظورها، طبعا في سياق توازن وجودي، وإلا تحولت النار السابقة إلى بروميثيوس كقوة مدمرة تحطم التاريخ، ولا تبنيه، لذا كان الوعي التحرري قائماً على الفعل التاريخي المتوازن الآخذ من الفاعل في الحياة، كمناضل مؤثر مستمد من معنى الإصلاح كفعل واقعي حياتي مؤثر مغير، متجاوزاً للصور النظرية البحتة التي لا تكاد تصنع وضعا نافعا للناس، بما أنها مغرقة في الجانب التجريدي غير المثمر، لذا نجد الشعار الكبير الذي اعتمده علي شريعتي، في مشروعه الإصلاحي: اعطني أبا ذر واحد، ولا تعطني ألف ابن سينا، بما أن أبا الغفاري رضي الله عنه، نموذج الفاعل التاريخي الكبير، لاندماجه في إطار خيار المعارضة للشكل الدارج المعتمد على العصبية، والمتجاوز لقيمة التدين التي كان الإسلام قد زرعها منذ حين في أتباعه، وتم الانقلاب على التجربة التاريخية الوليدة، وتم تكريس نمط من النظام العصبي القبلي، لذا نادى صارخا، أعجب لمن يبيت جائعا ولا يخرج على الظلام حاملا سيفه.
وإذن؛ الخلاصة التي ننتهي إليها أن الفعل التاريخي لا يتحقق من غير وعي تحرري، يدفع بالناس، كل الناس، إلى تأسيس تاريخ متشابك ومتدامج من المحاولات الدؤوبة، المستعيدة لفاعلية الناس في الوجود، وتمكنهم المستمر من بناء ذواتهم/العالم/الوجود، بعيداً عن الوصايات الماحية الماحقة اللاغية. فالتاريخ نتاج وعي، والوعي مكابدة في متاهات الحياة لتفهمها، وفي الأخير استثمارها وتسخيرها، بعيداً عن الاستغناء المطغي، والانكفاء المنهك......