كان النظر في موضوع الإصلاح الديني بأوروبا، ابتداءً من القرن السادس عشر، وذلك من جهتيْ المفهوم والمسار التاريخي الذي قطعه الإصلاح الديني الحديث، مضمون دراسة للباحث التونسي بسام الجمل، وجاءت تحت عنوان "الإصلاح الديني الحديث بأوروبا مفهوما ومسارا تاريخيا: مقاربة تفهميّة نقديّة"، ونشرت في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
ولم يراهن الباحث على الاكتفاء بعرض تاريخي لمراحل الإصلاح الديني الأوروبي وسرد أحداثه، بل قَصدَ تقييم حدث الإصلاح الديني، وذلك بتفهّم دواعيه الصريحة والضمنيّة من جهة، وتفحّص أسسه ومنعرجاته الكبرى من جهة أخرى، فضلاً عن تفحّص ما ترتّب عليه من نتائج وما تولّد منه من ردود فعل الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة إزاءه. وإذا ما تحقّق ذلك، أمكن لاحقاً تعيين حدود الإصلاح الديني البروتستاني ببيان ما ارتكبه من أخطاء وما حفّ به من قصور في التصوّر والمنهج. والرهان المعقود من مواطن الاهتمام هذه جميعها استخلاص الدرس من تجربة الإصلاح الديني الأوروبي الحديث، لعلّ ذلك يساعد المهتمّين بالإصلاح الديني على تلمّس أقوم المسالك الموصلة إلى تحقيقه في المجال العربي والإسلامي في مرحلة تاريخيّة حرجة، أعقَبت قيام "ثورات" بعدّة بلدان عربية تحُوج، بلا شكّ، إلى النظر في قضيّة الإصلاح الديني بعد ما اصطلح على تسميته بـ"الربيع العربي".
توقف الباحث ملياً عند حركة الإصلاح الديني التي عرفتها أوروبا بداية من القرن السادس عشر، حيث كان الحديث عن "الإصلاح الديني" حسب مارتن لوثرمثلاً، يعني وضع حدّ فاصل بين المناظرة الثنائيّة التي يمثّلها كلّ من "الإمبراطور" و"البابا" من أجل تسييج مجال تحرّك كلّ منهما، وهو ما من شأنه أن يترتّب عليه عدم تدخّل البابا في الشأن السياسي الزماني، وكذلك عدم تدخّل الإمبراطور في الشأن الديني.
ومعلوم أنّ الإصلاح الديني، بالمعنى السالف الذكر، هو الذي تحقّق في التاريخ. ومن ثمّ ردّ الاعتبار للفرد داخل المجتمعات الأوروبيّة، واستعاد الحقّ في حرّية الاعتقاد وفي ممارسة ما يراه من طقوس التديّن دون الإذعان لسلطة البابا مهما كان ضَرْبُهَا مادّية أو رمزيّة. وهكذا، والرأي هنا للباحث تزفيتان تودوروف، نلاحظ كيف أنّ قوّة ثالثة بدأت تظهر في هذا السياق، لتُشوّش على التقابل السابق بين السلطة الزمنيّة والسلطة الروحيّة، إنّها قوّة الفرد الذي صار يراقب بمفرده تواصله مع الله، والذي قد يصبح بإمكانه في مرحلة ثانية الانفراد بمراقبة مساحات أخرى غير خاضعة لهيمنة السلطات القديمة.
الإصلاح الديني هو الذي تحقّق في التاريخ. ومن ثمّ ردّ الاعتبار للفرد داخل المجتمعات الأوروبيّة، واستعاد الحقّ في حرّية الاعتقاد وفي ممارسة ما يراه من طقوس التديّن دون الإذعان لسلطة البابا مهما كان ضَرْبُهَا مادّية أو رمزيّة
ويضيف الباحث أنه يظهر من مقالة "الحدّ الفاصل" الذي صاغها لوثر، أنّ الفرد الأوروبي أصبح قادراً على التمييز بين "القوانين الوضعيّة" و"العقائد الدينيّة"، من قبيل التفريق بين "الجريمة" في معناها القانوني، وهي ظاهرة تقاومها الدولة من ناحية و"الإثم" في دلالته الدينيّة، وهو تصرّف يُحتكم فيه إلى الضمير الديني الفردي من ناحية أخرى. ومكّن التمييز المذكور من إرساء تمييز آخر مهمّ، سوف يتحقّق في القرون الموالية بين "الدولة" و"المجتمع المدني".
ويخلص الباحث في خاتمة دراسته إلى أن مقاربته النقديّة للإصلاح الديني الحديث بأوروبا من جهتي المفهوم والمسار التاريخي، أكّدت حاجة كلّ إصلاح ديني إلى إرادة سياسيّة تدعمه وتشدّ أزره وتحقّق أهدافه القريبة والبعيدة، ومن شأن ذلك أن يثبت التعالق بين الديني والسياسي دون أن يؤدّي ذلك إلى هيمنة أحدهما على الآخر. ويكفي التذكير، ههنا، بأنّ الكنيسة الأنغليكانية أسّسها ملك أنكلترا هنري الثامن، حين أعلن انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكيّة سنة 1535. ومؤكد أن التعالق المذكور، يستدعي الخوض في مسألة مهمّة مدارها على العلاقة بين الإصلاح الديني والسياسي، وهي مسألة اختلف جرّاها الدارسون واختصموا.
وفضلا عن ذلك، فإنّ الإصلاح الديني الذي عرفته أوروبا ابتداء من القرن السادس عشر وفّر المناخ المناسب لقيام نظام رأسمالي بها. وُيعتبر ماكس فيبر أشهر من درس العلاقة بين مبادئ الإصلاح البروتستانتي والاقتصاد. والمستفاد ممّا سبق كلّه، أنّ على الدارسين العرب المعاصرين المهتمين بقضيّة الإصلاح الديني معرفة السياقات السياسيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة والدينيّة التي نجمت منها حركة الإصلاح البروتستانتي من ناحية، والإلمام بالمدلول الاصطلاحي لمفهوم إصلاح الذي يختلف بلا شكّ عن مفهوم الاجتهاد مثلا في المجال الإسلامي من ناحية أخرى. فمن شأن ذلك أن يجنّبنا كلّ أشكال الالتباس المفاهيمي والإسقاط التاريخي.
لقراءة رابط الدراسة كاملة على الموقع الإلكتروني لـ"مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، انقر هنا: