23 أكتوبر 2013 بقلم
هاشم صالح قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:مارتن لوثر: زعيم الاصلاح الديني في أوروبا
عقدة العقد تنحل، لحظة الكشف الأعظم
عندما يعيش شخص ما لفترة طويلة من الزمن تحت ضغط عقدة نفسية معينة، عندما تصبح هماّ يومياً وشغلاً شاغلاً، عندما تتحول إلى كابوس مرعب يضغط عليه باستمرار، عندما تحتقن إلى أقصى حد بتراكم الأيام والسنوات، فإنه يصبح يبحث عن شيء واحد فقط: كيف يمكن أن يتحرر منها؟ كيف يمكن أن يتخلص من عقابيلها وآثارها، من أخطبوطها؟ كيف يمكن أن ينعتق من شرها المدمر؟ ولكنه كثيرا ما يصل إلى لحظة اليأس، كثيرا ما يرتطم بالجدار الأصم المسدود، بالباب الموصد الذي لا ينفتح أو يستعصي على الفتح. في مثل هذه اللحظات يتمنى هذا الشخص لو أن الأرض انشقت وابتلعته، لو أنه لم يولد قط: "ليتني كان نسياً منسياً"... وفي لحظات التأزم القصوى، يصبح أمام حلَّين لا ثالث لهما: إما أن ينتحر أو أن يجنّ. عفوا نسيت خطا ثالثا: أن يصبح عبقريا أو نبيا..(أستخدم كلمة نبي هنا بالمعنى الاستشرافي والمجازي الحديث، لا بالمعنى الكلاسيكي لأنه لا نبي بعد محمد، محمد هو خاتم الأنبياء. هذا شيئ مفروغ منه. ولكن الإلهام مستمر على مدار التاريخ، مادام هناك بشر وعباقرة وانسدادات تاريخية. والواقع أنه اذا كان هناك شخص بعد الأنبياء الكبار تنطبق عليه لفظة النبوة؛ فهو لوثر لأنه الوحيد الذي نجح في تأسيس مذهب كامل جديد وحشد الملايين من حوله وقسم المسيحية الأوروبية إلى نصفين. ولا تزال هذه الملايين تدين له بالولاء والإعجاب في نصف القارة الأوروبية على الأقل، وليس فقط في ألمانيا. زيادة على ذلك، فأنا أعتقد شخصيا بأن العباقرة الكبار هم في مستوى الأنبياء لأنهم عرفوا تلك اللحظة التي لا لحظة بعدها أو فوقها. والفلاسفة الكبار من أمثال ديكارت أو سبينوزا أو جان جاك روسو أو كانط أو هيغل هم أنبياء العصور الحديثة).
لا ريب في أن لوثر عرف مثل هذه اللحظات الشدائد! هذا أقل ما يمكن أن يقال. ولا ريب في أنه وصل إلى حافة الخطر الأعظم إلى الهوّة السحيقة التي تفغر فاها لكي تبتلعه. ولا ريب في أنه كاد أن يسقط فيها، وهمَّ بارتكاب ما لا تحمد عقباه أكثر من مرة. ولكن الله فتح عليه في آخر لحظة: إنا فتحنا لك فتحا مبينا! فبعد أن وصل التأزُّم إلى مداه الأقصى حصل الانفراج: اشتدي يا أزمة تنفرجي. فقد كان يتأرجح طيلة حياته الأولى على حافة الهاوية. وكما قال أحدهم: هناك شعرة رقيقة جداً جداً تفصل بين العبقرية والجنون. ولو اطلعنا على حياة الشخصيات الكبرى في التاريخ لوجدنا أن بعضها، إن لم يكن معظمها، كانت تعاني من هذه الانسدادات الخطيرة التي انتهت أخيراً بالانفراج. هذه الشخصيات تعرف لحظة ما لا يعرفها عامة الناس، لحظة خاصة بها دون غيرها. في هذه اللحظات التي لا يجود بها الزمان إلا قليلاً يتوهج التاريخ إلى أقصى حد ممكن، يقذف بأفضل ما عنده، ويحبل بالممكنات. في هذه اللحظات تحصل عملية الكشف أو الإلهام الصاعق، يتوهج الكون، وهي تشبه تماما تلك اللحظة التي عرفها النبي محمد، عندما كان مختليا بنفسه في غار حراء. فأضاءت ليس فقط أعماقه الداخلية، وإنما أيضا روابي مكة والحجاز...ثم أضاءت العرب بمجملهم والعالم كله لاحقا..من هنا عبقرية الخطاب القرآني التي لا تضاهى. لقد هز العرب هزا. ولا يزال يدهش كبار الباحثين العالميين ويحيرهم، حتى اللحظة. وتشهد الشخصية الاستثنائية عندئذ انفجاراً داخلياً يهزّ الكيان. وتعيش حالة نفسية متألقة ترتفع بها إلى أعلى عليِّيين بعد أن كانت متأزمة تتخبط في أسفل سافلين. وتنحلّ عقدتها وتنسى نفسها في نشوة غامرة، وتشعر وكأنها قد ولدت من جديد. إنها لحظة التحرير الكبير، لحظة الولادة الثانية، لحظة اللحظات...ومن شهدها لا ينساها. مارتن لوثر عرف هذه اللحظة وعمره حوالي الثلاثين عاماً. وكان ذلك أثناء ما يدعوه بـ"تجربة البرج": أي تلك التجربة التي حصلت له فجأة، وهو منعزل في برج كنيسة ويتنبرغ.
في الوجود هناك لحظات جميلة بدون شك: كلحظة النجاح في الحياة، أو لحظة وصول خبر سعيد مفاجيء، أو لحظة الحصول على كنز، أو لحظة التوصل إلى الشهادات العليا والمناصب والوجاهات والمقامات، أو لحظة الانجاب والأبناء والبنون، أو حتى لحظة انتخابك رئيسا للجمهورية في سن مبكرة، مثل أوباما أو ساركوزي مثلا ...ولكن هناك لحظة واحدة تتفوق على كل ما عداها ولا علاقة لها بكل ما سبق: إنها لحظة الكشف والتجلي، وهي مخصوصة بفئة قليلة جدا من البشر، بنخبة النخبة، بالعباقرة والأنبياء الكبار. ربما كانت هناك لحظة واحدة تشبهها أو تستطيع أن تنافسها على الأقل : هي لحظة الحب. أقصد الحب بالمعنى العاطفي الوهاج الذي يأخذ عليك أقطار نفسك لا بمعنى الجنس فقط. أقصد الحب الولهان الذي يستولي عليك تماما... الجنس سهل، بل وشيء عادي شائع يمكن التوصل إليه ولكن الحب هو الصعب والنادر الحصول. بالطبع إذا ما اجتمع الحب والجنس في لحظة واحدة، وهذا ممنوع أصلا أو قل من نادر النادر، فإن ذلك قد يرتفع بك إلى السماء السابعة! ولكن حتى هذه اللحظة التي تعلو ولا يعلى عليها أشك بأنها في نفس أهمية لحظة الإلهام والكشف الصاعق التي يشهدها العباقرة. ما الذي يحصل يا ترى في مثل هذه اللحظة التي لا نعرفها نحن الناس العاديين؟ ما الذي يحصل في أعماق هذه الشخصيات الاستثنائية التي تذوق طعمها لأول مرة؟ ولماذا تهتز وترتجف وتشعر بالقشعريرة الرائعة؟ هل تنفتح أمامها آفاق على مد النظر: بساتين وورود ورياحين؟ مياه وأنهار، شموس وظلال؟..من يعرف ما الذي يحصل في تلك اللحظة الخاطفة التي لا تتجاوز ثوان معدودات؟ من يعرف ما الذي شعر به محمد أو لوثر أو باسكال أو ديكارت أو جان جاك روسو إلخ في تلك اللحظة بالذات؟ كيف تنعتق الروح المسجونة بعد طول انتظار؟ لكي نعرف الجواب على هذا السؤال يكفي أن نطلع على "تجربة البرج" لمارتن لوثر أو تجربة "غار حراء" للنبي محمد. لكن قبل أن أتوصل إلى ذلك أحب أن أقول بأن هذه اللحظة لا تحصل، أو قل لا تنفجر، إلا بعد طول احتقان. من هنا عذوبتها أصلا وشعور صاحبها بالتحرر الهائل، بأنه يتنفس الصعداء، ويشكر الله، لأنه منّ بها عليه، وهو شعور يرافقه الخوف أحيانا لأسباب سترد لاحقا. هذا أولا. وثانيا لا تحصل هذه اللحظة إلا بعد طول عزلة وتأمل، أو حيرة وتململ: محمد في غار حراء، ولوثر في برج كنيسة ويتنبرغ. ولكن يمكن أن نذكر أيضا خلوة ديكارت في غرفة صغيرة دافئة في عز الشتاء في ألمانيا، حيث اكتشف الحقيقة والمنهج و الطريق، أو ما حصل لجان جاك روسو على طريق "فانسين" عندما نزل عليه الإلهام الصاعق فجأة فطرحه أرضا..أكتب هذه الكلمات، وأنا أرى عن بعد من نافذة شقتي غابة فانسين، جنة الشرق الباريسي...
فيما يخص مارتن لوثر البعض يقول بأن تجربة الكشف هذه قد حصلت دفعة واحدة، والبعض الآخر يقول بأنها حصلت على مراحل؛ أي بالتدريج. ونميل إلى ترجيح الرأي الثاني، لأنه لو حصل الكشف دفعة واحدة، أو من خلال لحظة واحدة، لربما صُعق لوثر، أو لربما قتلته في أرضه. ذلك أنه من أصعب الصعب أن تنكشف لك حقيقتك دفعة واحدة بعد طول غياب، أو بعد أن تكون قد طُمست إلى مثل هذا الحد طيلة سنين وسنين. نقول ذلك على الرغم من أن لوثر كان يعتقد العكس؛ فقد روى أكثر من مرة بأن "تجربة البرج" قد حصلت فجأة وأضاءت له الكون في إشراقة واحدة. ولكن ربما كان ذلك وهماً ناتجاً عن الاسترجاع والتذكر بعد فوات الأوان بزمن طويل؛ فقد كان يتحدث عنها بعد مرور سنوات طويلة عليها، وبعد أن أصبح لوثر "لوثراً": أي بعد أن أصبح ذلك الشخص الكبير الذي تهابه ألمانيا وتدين له بالولاء، وتشعر نحوه بالعرفان بالجميل. لنقل، كحل وسط، بأن الكشف كان يعتمل في داخله بشكل تدريجي على غير وعي منه، ثم انفجر بعدئذ في لحظة إشراق واحدة بعد أن أصبح مهيئاً لهذه اللحظة أو قادراً على تحمُّل وطأتها. متى حصلت تلك اللحظة التي طال انتظارها؟ متى جاء الفرج بالضبط؟
تقول لنا كتب التاريخ بأنه ما بين ربيع 1513 – وخريف 1514 كان الدكتور مارتن لوثر يحضر دروسه في علم اللاهوت، ويلقيها على تلامذته في جامعة ويتنبرغ. وقد أصبحت هذه المدينة فيما بعد عاصمة الإصلاح الديني البروتستانتي: أي القطب المضاد لروما والفاتيكان. كان يختلي بنفسه في غرفة صغيرة تقع في الجانب الأيسر من برج الكنيسة، وكان يطيل الاختلاء والتأمل. لاحظ أن تجربة البرج تشبه تجربة غار حراء، حتى لكأن لوثر يمشي على خطى محمد دون أن يدري.. وبما أنه كان يحتل كرسي تأويل النصوص المقدسة؛ (أي التوراة والأناجيل) في الجامعة، فإنه كان يكثر من قراءة هذه النصوص. ولكنه كان يصطدم في كل مرة بنفس المشكلة أو نفس العقدة. فقد كان يرى فقط صورة إله العهد القديم: أي صورة الله المنتقم الجبار الشديد العقاب. وحتى المسيح نفسه، فإنه كان يبدو له كقاض صارم لا يرحم. وكانت عدالة الله في السماء تتبدى له على شاكلة عدالة الناس على الأرض: أي من خلال موازنة الحسنات والسيئات، ثم الثواب أو العقاب. وبما أنه كان يعتقد أنه مذنب مهما فعل ومهما تعبَّد واجتهد، فإنه كان يعتقد أن الكفة ستميل لصالح السيئات لا محالة، وأنه هالك لا محالة.
ولكن هذه الصورة المقلقة والمرعبة لم تمنعه من العودة مراراً وتكراراً إلى الكتاب المقدس. لكأنه كان يبحث فيه عن تأويل جديد، تأويل شخصي يختلف عن التأويل الرسمي الراسخ المرسخ من قبل سلطة الكنيسة وهيبة التراث المنقول أباً عن جد منذ مئات السنين. باختصار كان لوثر يريد، كما لو على غير وعي منه، أن ينفض الغبار عن الكتاب المقدس لكي يقرأه بروح مختلفة، لكي يراه بعيون جديدة، لكي يفهمه بشكل طري، طازج، حر. وهنا تكمن الميزة الثانية من ميزات البروتستانتية: أي العودة إلى الكتاب المقدس نفسه فيما وراء التراث الكنسي والشروحات وشروحات الشروحات المتراكمة إلى ما لا نهاية عبر القرون؛ فهذه الشروحات المتأخرة كانت تسدّ الطريق وتشكل نوعاً من الحجاب الحاجز الذي يحول بين المسيحي وبين العودة إلى المصدر الأصلي، أو المنبع الأول: أي الإنجيل ذاته. وكما أن النهضويين الإنسيّين كانوا يقولون بالعودة إلى النصوص اليونانية-الرومانية فيما وراء التراث الفلسفي للعصور الوسطى، فإن لوثر كان يريد العودة إلى الوحي الإلهي فيما وراء كل التراث الكنسي المرسخ طيلة هذه العصور بالذات. وهذا ما يحصل في الإسلام أيضا. فمن يستطيع أن يقفز على السنة كلها؛ أي السنة السنية والسنة الشيعية، لكي يصل إلى النص الوحيد الملزم: أي القرآن؟ الإسلام يعيش الآن نفس الحالة المتردية التي كانت تعيشها المسيحية قبل ظهور لوثر: أي هيمنة رجال الدين والفقهاء حتى لأصبح كلام ابن تيمية مثلا في نفس أهمية كلام القرآن.بل وغطت الشروحات والتفاسير وكل أنواع الحشو على القرآن نفسه. وأصبح أصغر شيخ في أصغر جامع، وكأن كلامه منزل ومعصوم.أنا شخصيا كنت أعتقد أن كل ما يقوله أبي أو يفعله صحيح لمجرد أنه رجل دين. كل هذا الحشو المتراكم على مدار القرون هو الذي كنسه مارتن لوثر تكنيسا في المسيحية الأوروبية. من هنا الطابع الثوري الانقلابي لتجربته. وعموما كل الثوريين في التاريخ يُعرفون من خلال هذه النقطة: فتح الانسداد التاريخي وتعزيل التراكمات. هل هم بلدوزرات أو كاسحات ألغام؟