. مفهوم الإنسان: بداية ونهايةخلص مشيل فوكو في كتابه (الكلمات والأشياء) إلى نتيجة حزينة، يقول فيها: «ليس الإنسان هو أقدم مشكل طرح أمام المعرفة البشرية، وليس هو المشكل القائم باستمرار. فإذا ما قمنا بتحقيب زمني قصير نسبياً، وبتقطيع جغرافي محدود نقصد الثقافة الأوربية خلال القرن السادس عشر يمكن أن نجزم بيقين أن الإنسان هو ابتكار حديث. إذ لم تكن المعرفة تدور ولو بشكل غامض حول هذا الإنسان ولا حول أسراره، منذ أمد بعيد […] فحفريات فكرنا تظهر بأيسر تأمل أن الإنسان هو ابتكار يعود إلى تاريخ حديث، وقد تكون نهايته قريبة«
(1). فقبل نهاية القرن الثامن عشر لم يكن للإنسان وجود، رغم أن علم النحو، والتاريخ الطبيعي، وتحليل الثروات […] كانت كلها أشكالاً وصيغاً تعترف بالإنسان. بيد أن الوعي الإبستيمولوجي بالإنسان كموضوع للمعرفة، كان غائباً تماماً.
يعود الفضل إلى كانط في فتح الباب أمام الطريق المفضي إلى الحداثة، أي إلى المعرفة بالإنسان. إذ تحوّل الإنسان لأول مرة إلى ذات عارفة بالمعنى الإبستيمولوجي، أي أصبح ذاتاً إمبريقية يمكن تحليل ملكاتها ومهاراتها العقلية بنوع من التفصيل الدقيق كما لو أن الأمر يتعلق بتحليل أية ظاهرة طبيعية أخرى؛ كما أصبح في الوقت نفسه ذاتا ترنسندنتالية (متعالية) تقف أمام العالم وتسمو عليه، لتأكيد تميزها عن عالم الأشياء. يقول كانط: «أنا بوصفي كائناً مفكراً أعتبر نفسي موضوعاً بالمعنى الحميمي، ولذلك أسمى نفساً»
(2). ثم يضيف: «إن هذا الإدراك الباطني ليس شيئاً آخر عدا التمثل البسيط التالي: أنا أفكر. وهذا التمثل هو الذي يجعل سائر المفاهيم الترنسندنتالية ممكنة في حد ذاتها، وهو الذي يسمح لنا بالتفكير في الماهية أو العلة […] إلخ. وبالفعل فالتجربة الباطنية عموماً وكذا إمكانها، أو الإدراك الحسي في علاقته بإدراك حسي آخر لا يمكن النظر إليهما بوصفهما معارف إمبريقية إلا إذا حصل نوع من التمييز أو التحديد الخاص بطريقة إمبريقية. فلا يجب أن ننظر إلى تلك المعرفة سوى بوصفها معرفة بما هو إمبريقي عموماً، وهذا يدخل ضمن مجال البحث في إمكانية التجربة كيفما كانت، وهو بحث ذو طبيعة ترنسندنتالية بكل تأكيد»
(3). إن خصوصية هذه الذات وتميزها هي التي ستثير شهية العلوم الإنسانية في القرن الموالي (القرن 19)، ومن ثم سوف تتحول هذه الذات إلى موضوع علمي سيجاهد وسيجهد نفسه لإيجاد منهج خاص ونظرية خاصة. وسواء كانت الذات من طبيعة إمبريقية أو من طبيعة ترنسندنتالية، فإنها تظل قضية مجردة، أي فكرة خالصة تنأى عن شرط وجود الإنسان.
2. رد الفعل الرافضهذه الفكرة الخالصة التي كوَّنتها الفلسفة عن الإنسان، هي التي أثارت حفيظة الفلاسفة الوجوديين الذين رفضوا اختزال الإنسان الحي إلى مجرد مفهوم منطقي أو ميتافيزيقي. وكمثال على ذلك نجد ميغيل دي أونامونو الذي وجَّه نقداً لاذعاً لـ كانط، يقول بنوع من السخرية في الفصل المعنون بـ (الإنسان بلحمه وعظمه)، من كتابه (الإحساس التراجيدي بالحياة) ما يلي: «خذوا كانط كمثال، إمانويل كانط الإنسان الذي ولد وعاش بمدينة كونغسبرغ في نهاية القرن الثامن عشر وعلى مشارف القرن التاسع عشر. توجد في فلسفة كانط هذا، أي كانط الإنسان الذي يملك قلباً ورأساً قفزة ذات دلالة كما يسميها كييركجار وهو إنسان آخر، وأيّ إنسان! قفزة من (نقد العقل الخالص) إلى (نقد العقل العملي). فقد أعاد في هذا الأخير بناء ما هدمه في الأول، رغم أنف أولئك الذين لا يبصرون الإنسان»
(4). ثم يضيف: «لقد أعاد كانط بواسطة القلب، بناء ما هدمه بواسطة العقل […]، فـ كانط الإنسان لم يستسلم للموت بشكل نهائي، ولذلك قفز هذه القفزة الخالدة من نقد لآخر»
(5).
تركز الفلسفة الوجودية على الشرط الإنساني، وعلى العالم المعيش؛ بيد أن التحليل المتأني يبين أن الأمر يتعلق هنا أيضاًً بمفاهيم مجردة. فما المقصود بـ
العالم؟ وما المقصود بـ
العالم المعيش؟ هل يكفي أن نتلفظ بمصطلحات من قبيل
التجربة الإنسانية، و
شرط وجود الإنسان… لكي نعيد للإنسان إنسانيته؟
قد يكون هذا هو السبب الذي دفع العلوم الإنسانية إلى النظر عن قرب في الإنسان، وفحصه باعتباره موضوعاً وليس باعتباره ذاتاً أو وعياً خالصاً. غير أن دراسة الإنسان باعتباره موضوعاً، يلزم أن تظهر خصوصية هذا الموضوع وتميزه عن سائر الموضوعات الأخرى. ولعل أهم خاصية تميز هذا الموضوع هي خاصية الحرية، فهي دلالة على الفرادة التي تقوم عليها الظاهرة الإنسانية. لقد بشرت العلوم الإنسانية بتحرير الإنسان من الإكراهات التي تقيده، وذلك بالكشف عن القوانين التي تتحكم فيه؛ غير أنها انتهت إلى عكس ما بشرت به. فبعد استقلال هذه العلوم، وبعد المجهودات التي بذلتها، توصلت إلى الكشف عن البنيات اللاشعورية التي يخضع لها سلوك الإنسان ومصيره: بنيات لاشعورية نفسية، وأخرى ذهنية ثقافية، وثالثة اجتماعية اقتصادية. وهذا ما دفع الفلاسفة البنيويين إلى الحديث عن
موت الإنسان بوصفه كائناً فاعلاً أو متكلماً أو مريداً […] أو غير ذلك من النعوت التي تلخص صفة الحرية. لقد ظهر الإنسان متأخراً وسيختفي سريعاً، هذا ما تنبأ به فوكو. وهذه النبوءة هي الوجه الآخر لما قاله ستراوس أيضاًً عن الإنسان، بدأ العالم من دون الإنسان، وسينتهي من دونه. حكاية حزينة من البداية إلى النهاية!
ما هو الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه الحكاية؟
من بين أهم الخلاصات التي انتهى إليها فوكو ضرورة استبعاد المعنى من التفسير، بناء على النتائج التي أفضى إليها تحليله لتاريخ الفكر الغربي؛ بدءاً من عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي ثم العصر الحديث. فالتاريخ الجديد ليس في خدمة المؤرخ الباحث عن فهم الأحداث وتنظيمها بشكل نسقي، بل هو في خدمة التفكيك والهدم. فاللوحة التي يقدمها لنا تاريخ الوعي الأروبي عبارة عن مشاهد متقطعة ليس بينها روابط ولا تسلسل، أي مشاهد تحكمها انقلابات وانقطاعات. فإلى حدود القرن السادس عشر كان النظر إلى العالم يتم من خلال التناظر والتأويل، غير أن انقلاباً حدث في منتصف القرن السابع عشر عندما أصبحت قاعدة النظر تقوم على التمثل والنظام، لكن مع بداية القرن التاسع عشر ظهرت قاعدة إبستيمية جديدة تتمثل في البعد التاريخي وهي القاعدة التي حملت معها لأول مرة صورة الإنسان في مجال المعرفة مع ظهور العلوم الإنسانية .
بناء على هذا الانقلاب الحاصل على مستوى الإبستيميات، تشكلت لدى فوكو قناعة بضرورة استبعاد البعد الهرمينوطيقي من مجال التفسير والتحليل. لأن البحث عن المعنى في التاريخ، سيفضي إلى اصطناع الروابط والانتقالات عبر افتراض وجود استمرارية ما. ولذلك سوف ترتسم صورة عن التاريخ باعتباره وعياً مكبراً macro-conscience، مما سيؤدي بنا إلى السقوط بوعي أو بدون وعي في شباك فلسفة الذات. ولتجنب مثل هذا السقوط يلزم تفكيك الأنساق الفلسفية، من أجل استئصال جذور الوعي وإزاحة سلطة الذات المهيمنة على الأشياء والأفكار.
التتمة في العدد