17 فبراير 2015 بقلم
محمد التهامي الحراق قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر: "جدّدوا إيمانكم فإن الإيمان يبلى كما يبلى الثوب. فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله"
حديث شريف([sup][1][/sup])
"نحن لا نستطيع أن نسبح في مياه النهر مرتين"
هراقليط
هل نفهمُ الدين اليومَ كما فهمه أجدادُنا بالأمس؟ وهل تَغيُّرُ هذا الفهمِ أمر مطلوب أم مردودٌ ديناً وعقلاً؟ وهل يلزم المُؤمنَ أن يتشبث بما وجد عليه آباءه من فهم أم يقتضي منه إيمانُه أن ينظر بعين النقد والمراجعة لهذا الفهم؟ ما هي حدودُ الثابت والمتحول في فهمِ الدين؟ وما آثار ثبات هذا الفهمِ أو تجدُّدِه على إيمانِ المسلم المُعاصر؟
لن نَخُوضَ ها هنا في كل هذه الأسئلة الإشكاليةِ، لتشعُّبِ مساراتها وتنوع قضاياها وتشابك تفاصيلِها، وإنما حسبُنا أن نَطرحَ أسئلةً ما كانَ بالإمكان طرحُها في لحظة تاريخية سالفة؛ ذلك أنّ طرحَ قضية فهم الدين وسؤال التغيُّر يُعَدُّ في حد ذاته أمارةَ تحول وعلامةَ صيرورة؛ ذلك أنَّ هذا الطرحَ هو ذاتُه نتيجةُ تحولاتٍ وتغيرات جعلت منه سُؤالاً مُمكناً، والتفكير فيه وارد بعد أن كان ضمنَ دائرة المستحيلِ التفكير فيه في لحظة تاريخيّة سابقة. سنُحَاوِلُ هُنَا بوجازةٍ رصدَ علاماتٍ نموذجيةٍ ثلاثٍ للتحولاتِ التي نخصُّهَا بالتفكير في تناولنا لهذا الموضوع، وهيَ تحولاتٌ تُمَثلُ علاماتٍ على تحوّل تاريخي وانقلاب أنطولوجي كبير، يُعرف اليوم بـ"الحداثة"؛ انقلابٌ مسّ الفهم والحياة والإنسان. واقتصارنا على هذه التحولاتِ الثلاثة، يمثلُ اقتراحاً أوليّاً لمداخل تُسعف في الاقتراب من علاقة فهم الدين بسؤال التغير.
هكذا يمكن، ومنذ الآن، التأكيدُ على أن فهمَ الدين مُتغيِّرٌ؛ لأنّ التغيُّرَ لازمٌ من لوازم بشريةِ الفهم،وليس لازماً من لوازم الدين في ذاته. ومن ثَمَّ، فإن تحولاتٍ حصلت في السياق المعاصرِ أصبحت تُلزِمُ مراجعة تعاطي وعينا مع فهم الدين، إذ في مراعاة هذه التحولاتِ اجتهادٌ مطلوبٌ لتجديدِ فهمِ الدين بما يضمنُ التخليَّ عن البَشَرِيِّ والتاريخيِّ المتحوّل في الفهوم السابقة، واستبقاءَ المتعالي الثابتِ من خلال تقديم فهوم جديدة ملائمة لتلك التحولات؛ أي من خلال تقديم فهومٍ تحافظ على متعاليات الدين فيما هي تعيدُ بناءَ أنساق الفهم الحديث الملائم والمنسجم مع تلك التحولات.
و إذا أردنا توصيفَ طبيعة تلك التحولاتِ الحديثةِ التي سنقفُ عندَهَا، والتي نرى ضرورةَ طرح سؤال فهم الدين اليوم في ضوئها، يمكن القول إن التحوّل الأولَ ذو طابع معرفي والثاني ذو ميسمٍ تعليمي إعلامي معلوماتي فيما الثالثُ ذو ملمح حقوقي، وهي كلُّها تحولاتٌ تحفِّز، وبإلحاحٍ غير مألوفٍ، على طرحِ سُؤال فهمِ الدين اليوم.
1-التحول المعرفي وشرعية تعدّد الفهم:
لعلَّ من أبرز علاماتِ التحولات المعرفيةِ اليوم المتصلة بإشكَالِ فهمِ النصوص، والتي تكشفُ عن وجه من أوجه إشكال فهم النص الديني وعلاقته بسؤالِ التغير، تلك التي يُعبِّر عنها بعمقٍ مفهومُ "القراءة"، لا بما هي تلفظ أو تلاوة، بل بما هي فهم وتأويل؛ ذلك أنّ هذا المفهوم الحديث للقراءةِ واحدٌ من منجزاتِ الحداثة الفكرية، إذ لم يكن مُمْكناً أن يَعتبرَ القدماءُ ما أنجزوه، من "تفسيراتٍ" و"شروحٍ" و"تأويلاتٍ" للنصّ الديني الإسلامي قراءاتٍ بالمعنى الحديث؛ أي أنها إمكاناتٌ من إمكانات الفهمِ لها حُجِّيَّتُها الاستدلالية لكنها لا تُلغي قراءاتٍ أخرَى تنطلق من منطلقاتٍ مغايرةٍ وتمتلك حُجيةً منطقيةً مُعتبَرةً وإن كانت نتائجُها مُختلفة. فالقولُ بتعددِ الحقيقةِ بحسبِ زوايا مقاربَاتِها ومُسبقَاتِ وسياقاتِ ومناهجِ وأسئلةِ مُقارِبيها أمرٌ جديدٌ و نِتَاجُ وعيٍ حديثٍ، ولم يكن لتقبَلَه "إبستميةُ ما قبل الحدَاثَة"، أي نظامُ المَعرفةِ السابق على العصر الإبستيمولوجي الحديث، وتعييناً نظامُ المعرفة في العصرِ الوسيط. فرغمَ إقرارِ المتكلمينَ المسلمين مثلا بـ"الاختلاف" الواقع بينَهُم في فهم دينِهِم، والمتجسّد في تعدد الفرق والمللِ والنحل... إلخ، فإنهم قدْ ظلُّوا دوماً يعتقدون أنّ الحق مع جهةٍ معيَّنة، بل ظلّوا يهتدون إلى هذا الإقرار بالحديثِ النبوي عن "الفِرقة الناجية"
([sup][2][/sup])؛ لكون الحق في نظرهم لا يتعددُ، "وهنا المشكل: الاعتقادُ بأنّ الحقيقة واحدة يملكها طرف واحد"
([sup][3][/sup]). لذا سادَت لغةُ التفسيق والتبديع والتضليلِ (الاتهام بالضلال)، بل والتكفيرِ في أحايين كثيرة، بين المختلفين.
وإننا لا محالةَ واقعون في الإسقاطِ والمغالطةِ التاريخيةِ؛ إذا ما اعتقدنا أنّ عبارة "الله أعلم" التي كان يختم بها بعضُ القدماءِ ما يقدمونَه من تفسيراتٍ متغايرةٍ للنصِّ الديني، تتجاوز البعدَ الأخلاقي وطلبَ العُذرِ عند الزلل أو تُفيدُ أنّ تلكَ التفسيراتِ ليست سوى "قراءاتٍ" للنص بالمعنى الحديث لمصطلح "القراءة"، يؤكد هذا أنّ "القراءةَ لا تتحقق إلا من خلال وجودِ نظرية فلسفية هرمينوطيقية لفهم النص، ويتمّ تفسير النص على وفقها"
([sup][4][/sup])، وهو ما كان معدوماً لدى القدماء؛ لأنّ طرح فلسفةٍ للمعنى وبناءَ نسقٍ خاصّ بسؤال الفهم يتجاوز القواعدَ اللغوية والبلاغية وينظرُ بوعيٍ في طرائق تعدد الفهم، كان ضمنَ دائرة اللا مفكر فيه في العصر الوسيط. ومن ثَمَّ فالوعيُ الحديثُ هو الذي يكشفُ عن خلفياتِ تلك التفسيراتِ، ويسعى إلى بناء النسقِ النظري القرائي الخَفِيِّ الذي تصدر عنه، والذي يُحدّد موجّهاتِ تلك التفسيراتِ وسقفَها المعرفي، وهذا ما يجعلُ وصفَ تلك التفسيرات بـ"القراءاتِ" وصفاً حديثا، ما زالَ بعضُ المُعتَرِضِين ينعتُه بـ"االتهافُتِ" معارِضاً بينه وبين مفهوم "التَّدَبُّر"، ومنكراً أنّ "أُفقَ التَّدّبر" كما يطرحهُ و "يؤصله" هو نفسُهُ ليس سوى "قراءة" لهذا المفهوم ضمن النسق القرآني لا تلغي غيرها من فهوم قرآنية أُخَر لـ"التدبّر".
([sup][5][/sup])إنّ هذا التحولَ المعرفيَّ الذي ما زال يَجِدُ مشقةً في الاستيعابِ والتوظيفِ، ينطرحُ بقوةٍ في قلب جدل الفهم؛ إذ يترنح بين من يُغلِقُه في وجه أحادي يُمَاهي بينه وبين أحاديّة الحقيقةِ، وبين من يفتحُه على مصراعيه بلا ضابط في إدراك نسبي للحقيقة يُشارف العدم. فيما القولُ العِلميُّ الرصينُ لا يسعهُ إلا أن يقولَ بتعدّدِ الحقيقة كما يتيحُ ذلك ـ ولأوّل مرّة في التاريخِ ـ الوعيُ الحديثُ، لكنَّهُ تعددٌ منضبطٌ بضوابط صريحة في نظريات الفهم، مشروطٌ باحترام المكوّنات المساقية البنيوية للنص، وكذلك باحترام المعطيات السياقية والتاريخية، بما يتيح إنتاجَ المعنى لا إهداره، وبما يَفتَحُ باب الاجتهاد في الفهمِ من جهة ويحول دون تشتيته وبعثرته من جهة ثانية.
بهذا الاعتبارِ، يُمكن أن يشكل هذا التحوُّلُ المعرفيُّ الذي يجسده هنا مفهوم "القراءة"، مدخلاً رئيساً لطرح سؤال فهم النص الديني اليوم وعلاقتِهِ بالتغير.
2-التحول التعليمي التواصلي و إعادة اكتشاف الاختلاف:
إذا كان التحوّل المعرفي المشارُ إليه مظهراً من مظاهر الحداثة الفكرية، فإنّ التحوّل الثاني، الذي نروم إثارته باقتضاب بالغٍ، تتداخل في تحصيله الحداثتان الفكرية والماديّة، وهو ذو طبيعة تعليمية تواصلية كما أومأنا آنفاً. و يظهرُ بوضوحٍ أساساً في معطيين بارزين وملحوظين من لدن الخاصّ والعام؛ أولهما انتشارُ التعليمِ بين المسلمين مقارنة بمراحل سابقة. فقد وَسَّع هذا الانتشارُ من دائرة الاستعداد للفهم والسؤال والحوار والنقاش، ومن ثم منحَ حريّة أكبر للأفراد في التعامل مع النصوص الدينية التأسيسية، الأمرُ الذي أربكَ مفاهيمَ كانت أساسيةً في تأطير فهمِ الدينِ في المجتمعات التقليدية، مثل "العامّة" و"الخاصّة" و"خاصّة الخاصّة"، وأخرج الشأن الديني من احتكارِ القولِ، إظهاراً أو إخفاءً؛ تغليباً لرأي ومذهب أو إقصاءً وتهجيناً للمخالِفِ فيهما.
وزاد من هذا الإرباكِ المعطى الثاني المتمثلُ في الانتشار الواسع لوسائلِ الإعلام والاتصال؛ ذلك أنّ التوظيف الكثيف لتكنولوجيا الاتصال في الجانب الديني قد أفضى بدوره إلى إرباكِ كثيرٍ من "الحقائق" المعتبرةِ "دينيةً". فقضايا عديدةٌ كانت إلى وقت قريب تعدُّ من شأن الخاصّةِ قد أصبحت متاحةً للعامّةِ، وتمّ طرحُها على مسرح الفهم والتساؤل المفتوح. كما تمّ فتح الأعينِ والعقولِ على الفهوم المختلفة داخل الدين الواحد، والتي ظلَّ كلّ واحد منها يستبعدُ الآخر ويُبَدِّعُه أو يكفره؛ إذ لأول مرّة ، ومن خلال الفضائياتِ والمواقع الإلكترونية، أصبحَ مُتاحاً للجميعِ أن يُصغيَ إلى الصوتِ المخالِف بشكل مباشِرٍ بلا واسطة، كما أَصبح "السجالُ" (لا الحوار) بين التيارات والمذاهب علنياً ومفتوحاً؛ وهو ما أربك كثيراً من "الحقائق" لدى المسلم العادي، والتي اكتسبت صورتها كحقائق لديه أساساً من جهل ما لدى المخالِفِ أو من الأحكام المُسبقة عليه، والتي تلقاها توارثاً كبداهات في الثقافة الدينية السائدة في مجتمعه.
نحن إذن، أمام إعادةِ اكتشاف الاختلاف في الجانب الديني؛ اكتشافِ اختلافِ حضور الدين خفوتاً أو انتعاشاً في مختلف الأقطار والمجتمعات، واختلاف الأديان فيما بينها نصوصاً وتاريخاً وعقائدَ وشعائرَ؛ واختلافِ المذاهب الفقهية والاتجاهات العَقدية داخل الدين الواحدِ، ثم اختلافِ العادات والتقاليد الثقافية الدينية داخل وحدة الاتجاه العقدي والمذهب الفقهي. أضف إلى ذلك أنّ هذا التحوّلَ التعليمِيَّ والإعلامي والمعلوماتي زجّ بمفهوم "الفتوى" الدينية في أقسى وأقصى مداراتِ الإحراج، و ذلك لمّا أسهم هذا التحولُ في تحطيم الحدودِ التقليدية بين التيارات العَقَدية والمذاهب الفقهية، وكذلك حينَ أخرج إلى العلن تناقضاتِ الإسلامِ التاريخي (مثال ذلك اختلافُ تقديم نفس المرحلةِ التاريخية الإسلامية وأعلامِ التاريخ الإسلامي بين المسلسلات التاريخية الدينية في فضائيات أهل السنّة و تلك المعروضة على الفضائيات الشيعية..)، ثم حينَ طرح بعمق جدليةَ الدين والتديّن، حيثُ أصبحَ المؤمنُ العادي مُحتاراً في رصدِ الحدودِ المائزة في الإسلامِ بين العبادةِ والعادةِ، بين التعبّدِ والثقافةِ، أو بعبارة أوضح بين الثابتِ الروحي المتعالي والمتحوّلِ التاريخي المجتمعي.
3-التحوّل الحقوقي و إطلاق حرية البحث:
لعلَّ الأمرَ الذي فاقم من أثر التحولِ التعليمي والتواصلي (أي الإعلامي والمعلوماتي) على المستوى الديني، ما ارتبطَ بالحداثةِ على مستوى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد المواطن، والتي كان من ثمارِهَا الإعلاءُ من شأن حقوق الإنسان بما هو كذلك، وتقديسُ حرّياته بما فيها من حريةِ الاعتقاد وحرية التفكير والتعبير، وهو ما أتاح للبحث في المجتمعات الحديثةِ أن يطرقَ بحريةٍ مختلفَ المواضيعِ والأسئلةِ، عاصفاً بكل التحفظات العقدية أو الإديولوجية التي يمكن أن تحدَّ من الحرية العلمية للباحث. يقول عبد المجيد الشرفي : "الفكر التقليدي ليس متعوّداً على الحريّة في البحث، حريّةُ البحث من مكتسبات الحداثة؛ لأنّ البحث في القديم فيه دائماً مناطقُ محرمّة على الباحث. أما الباحث المعاصر، فلا يؤمن بالتابوهات، ويعمل بالعكس على كسر الحواجز التي سيّجت الفهم بإحكام"
([sup][6][/sup]). ورغم ما عرفته وتعرفه أحياناً بعض الأقطار الإسلامية من عواصفَ حيال مقارباتٍ تتجرّأ على البحث في بعض مسلَّمَات العقل الإسلامي التقليدي، فإنّ التحوّل الإعلامي والمعلوماتي المشار إليه آنفاً أبطل كل مفعول للمنع، فضلاً عن وجودِ جهات ومنظمات دوليةٍ مختلفة تحمل على عاتقها الدفاعَ عن الحرية في البحث والتفكير والتعبير ضمن دفاعها الشامل عن حقوق وحريات الأفراد في أيّ مجتمع من مجتمعات عالم اليوم.
هكذا صارت حريّة البحث اليوم مكتسباً حضارياً، ولم يعد بالإمكان إخراسُ الأصوات العلمية المخالِفَة، بل أصبح لزاماً مقارعتُها بالمعرفة والنقاش العلمي. وهذا ما يشكل تصديعاً لكل فكر منغلق، وإرباكاً جوهرياً لكل اعتقاد بنى نفسه على الإصغاء للصوتِ الوحيد دون تمكين أهله من المناعة المعرفية والسند العقلاني الكفيل بشرعنة وعقلنة اقتناعهم الاعتقادي ضمن تعدّد الأصوات والاقتناعات الاعتقادية. ومن ثم أصبح لزاماً على المسلم اليومَ إحياءُ وتحديثُ ثقافة "المناظرة" التي برع فيها أجداده، والذين، كما يبدو، كانوا أكثر تقبلاً للسّجال والنقاش مع المخالِفِ في المذهب والدين من بعض العلماء المسلمين المعاصرين المنحدرين من سلالة ثقافة عصر الانحطاط.
وبإجمال، فإنّ ظهورَ مفهومِ "القراءة" بما يُؤشِّرُ عليه من تحوّل معرفي في الوعي الحديث؛ وانتشارَ التعليمِ في المجتمعات الإسلامية قياساً إلى المرحلة التي سبقت استقلالها؛ وشيوعَ وسائط الاتصال المختلفة في هذه المجتمعات بما يؤشران عليه من تحوّل تعليمي تواصلي، ثم الاختراق المتدرج لمفهوم الحرية في البحث لهذه المجتمعات بما يشير إليه من تحول حقوقي؛ هذه العناصرُ مجتمعةً وضعتِ المسلمَ اليوم، ومن جديدٍ، وجهاً لوجهٍ أمام أسئلة مُحرجةٍيذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى القول إنّها لم تُحسَم تاريخياً حسماً معرفياً، بل "حُسمت" سياسيً، وتمّ الفصل فيها "بالسيف لا بالقلم" (يُشارُ هنا تمثيلاً إلى مسألَتي: خَلقِ القرآن، شرعية الخلافة؛...)، وهو ما أصبحَ يوقع المسلمَ العادي في إحراجاتٍ اعتقاديةٍ، ويصدّع كثيراً من مسلَّماته؛ ذلك أنه لم يعد بالإمكان اليومَ الزعمُ "أنّ الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن"؛ ذاك أنّ السلطان الحقيقي اليوم هو سلطان معرفةِ الفُرقان لا سلطانُ "حاكم الزمان"، الذي يفرض فهماً معيّناً للدّين باعتباره الدّين الحق. لقد عبثَ انفتاحُ الفهم والتواصل والبحث بهذا السلطانِ الذي يفرض على الناسِ شكلَ تديّنهم بالقوة والإكراه تحت اسم الحقّ المطلق.
على أنّ المعضلةَ الكبرى في واقعنا الإسلامي ماثلةٌ في كونِ كثير من الفقهاء وعلماءِ الدين، الذين يسيطرون على منابر المساجد والفضائيات الدينية ومؤسسات الفتوى، لم يعُوا بعدُ التغيّراتِ المذكورةَ، مما يجعلهم يلوكونَ الخطابَ الديني الموروثَ ذاته، والفتاوى المكرورةَ عينَها، دون إدراكٍ عميق لما يموج في لحظة المسلمين اليوم من انقلاباتٍ جذريّةٍ في السياق والحاجيات، ودون أن نجدَ لدى جُلِّهِم معرفةً كافيةً بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وبالفلسفةِ المعاصرة، ولا إسهاماً في القضايا المطروحة اليوم عالمياً على مستوى علاقة الإيمان الديني بالعقلانية المعاصرة، فضلاً عن ضعف خطيرٍ في استيعاب تعَقدِ الواقع وتعدّد أوجهه، مع صَممٍ مُزمِنٍ حيالَ إشكالات الكينونة والروح والقيمِ والأخلاق والمعنى التي يعانيها الإنسان بما هو إنسان في العصر الحاضر بوجه عام، وإشكالات المسلم المعاصر وإحراجاته بوجه خاص.
إنّ أزمة الخطاب الديني الإسلامي اليوم، والمرصودةِ بعضُ ملامحِها هنا، هي ما يُفضي ضرورةً إلى شيوعِ التكفير بدل التفكير؛ والاستبعادِ المتبادَل بدل الحوار والانفتاح المتبادَل؛ والانزلاقِ نحو التعصّب الطائفي والمذهبي بدل العملِ على تحقيقِ وحدةِ الأمّة وتقوية إسهامها الحضاري بالتدبير الرشيد والعقلاني للتعدّد؛ والوقوعِ في شرَكِ التشرذم والاقتتال بدل التأسيس التيولوجي للحوار المثمِر وقبول الآخر والإقرار بشرعية الاختلافِ. والنتيجةُ تحنيطُ الإيمانِ وإخمادُ توهّجه، وتحويلُه إلى طقوسية شعائرية بلا عمق روحي بدل تجديدِ الإيمان وتوهيج روحانيته؛ وذلك من خلال تجديدِ الاستلهامِ من الوحيِ، وتفجيرِ روحانية كونية يحتاج إليها الراهنُ الظمآن للمعنى، انطلاقاً من النظر الخلاقِ المُبدِع في آياتِ الكتاب وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
إنّ تجديدَ الإيمانِ يقتضي تجديدَ فهم الدين، وفهمُ الدينِ لا يمكنُ أن يتجدّد دون وعي التغيّرِ من جهةٍ، ودون تجديد المتدينين لمعارفهم وشحذ قدرتهم على الفهم من جهة ثانية. إذ من خلالِ هذا التجديد يمكن تجديدُ توهيج "لا إله إلا الله" قولاً وحالاً وعملاً ؛ أي تجديد تنزيلها في العقول والقلوب والحياة. على أنّ تجديد الفهم بما يلائم التغيّر، ليس معناهُ إخضاعَ الدينِ للواقع المتغير، وإنما معناه تجديدُ أدواتِ الحوار مع النصوصِ الدينية بما يضمن استخلاص أجوبةٍ جديدة لأسئلة جديدة أفرزها الواقع المتغيّر الذي يحياه المسلمون. بهذا فقط يستطيعُ الإسلام أن يحقق خلودَه وتعاليه عن الزمان والمكان. باحتضان التحوّلِ لا بإنكاره يُمكن للإسلامِ أن يتأبَّدَ، وبالتقاط مفاتيح الكونية في الكتاب والسنة يمكن أن نكون كونيين، وأن نُفيضَ الرحمةَ من مشكاة النبوّة على العالمين، بهذا فقط يمكن أن نتعلّم السباحَةَ مراراً في نهر هرقليطدون نوقف أو نعكِّرَ مجرى الماء. إنها الحقيقةُ منبجسةٌ في مرآةِ مجاز.