قليلة هي المرّات التي يتاح فيها للمهتمّين بالسينما أن يقرؤوا مقالات عن علاقة الفنّ السابع بالدين، وغالبا ما يكون ذلك على هامش ظهور عمل سينمائيّ جديد يُلقي حجرا في المياه الراكدة كما هي الحال مع الشريط الشهير، شريط “غواية المسيح” (2004) The passion of the Christ لـميل جبسون Mel Gibson، أو بمناسبة اكتشاف عمل قديم لم يسبق للجمهور العريض من عامّة الناس مشاهدته كما هو الشأن بالنسبة إلى شريط الصور المتحرّكة “برسيبوليس” (2007) Persepolis للفرنسيّ فانسون بارونو Vincent Paronnaud والإيرانيّة مرجان ساترابي Marjane Satrapi هذا الذي دبلجته قناة “نسمة” التونسيّة وعرضته على النظّارة باللّهجة المحليّة ليلة السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2011 فثارت لعرضه تونس الثائرة أصلاً، وقامت الدنيا فيها ولم تقعد إلى الآن بالرغم من صدور حكم قضائيّ يوم السادس من مايو/أيار 2012 لم يُـرْضِ الكثيرين لأنّه لم يقطف رأس صاحب القناة وبعض المسؤولين فيها بل اكتفى بإلزامهم بدفع غرامة ماليّة قيمتها ألفان وأربعمائة دينار تونسي (حوالي الألف وستّمائة دولار أمريكيّ).
ولكن، هل العلاقة بين السينما والدين علاقةٌ عَـرَضيّةٌ ظرفيّةٌ حقـًّا يُحدّدها ظهور شريط هنا أو بـثُّ شريط هناك، أم أنّ الصلة بين المجالَيْن -خلافًا لما نظنّ- أكثر عمقًا وتعقيدًا وإلباسا؟
من أميركا تأتينا الإجابة على هذا السؤال في شكل موسوعة واقعة في أكثر من ستّمائة صفحة تجنّدت لإنجازها هيئة تحرير ضمّت أكثر من ستّين باحثا على رأسهم المُحرّر والناشر إيريك مايكل مازورEric Michael Mazur، موسوعة لن نكتفيَ باعتبارها حدثًا ثقافيّا فقط، بل هـي -في اعتقادنا- حدث علميّ معرفيّ بأتمّ معنى الكلمة لأنّها كُتبت وفق رؤية مغايرة لتلك التي تُكتب بها الموسوعات، في العادة، وبروح مختلفة عن تلك التي تُحرّك أصحاب دوائر المعارف، في معظم الأحيان.
عنوان مُـلْـغِـزٌ… وقضايا لا تنتهي!بدءًا من غلافها الخارجيّ تطالعنا الموسوعة بقضاياها النظريّة ورهاناتها المعرفيّة والمنهجيّة. فخلافا للمتوقّع والمنتظر، اختار الناشر لعمله العنوان التالي: Encyclopedia of Religion and Film، وهو عنوان يمكن أن نترجمه حرفيّا كما يلي: “موسوعة الدين والفيلم”.
لا نُخفي أنّنا تعمّدنا -بكلّ وعي وتبصّر- ترجمةَ العنوان ترجمةً حرفيّةً دون “تزويقات لفظيّة” أو “محسّنات بديعيّة” رغم إدراكنا بأنّه لن يقع موقعا حسنا في أذن القارئ العربيّ وفي ذهنه؛ وما كنّا لنفعل ذلك لولا تفطّننا إلى أنّ العنوان في أصل وضعه يقع هو أيضا موقعا غريبا شيئا ما في آذان قرّاء الأنجليزيّة وفي أذهانهم.
لقد كان بإمكان الناشر أن يختار لعنوان موسوعته صيغة أخرى أكثر “أناقة” من قبيل Encyclopedia of Religion(s) and cinema أو Encyclopedia of Religion(s) and mivie(s) أو ما جرى مجراها ولكنّه لم يسلك هذا النهج ولم يَـرْضَ به لأسباب أشار إليها في المقدّمة، ويمكن إجمالها في النقاط التالية:
أنّ الغاية من الموسوعة ليست تقديم مَـسْرَدٍ (أو كاتالوغ) يجمع المعطيات المتعلّقة بالأشرطة التي قضت أعراف السينما بأنّها “دينيّة” لمجرّد كونها اتّخذت الدين موضوعا لها أو تمثّلته في مستوى من مستوياتها أو أشارت إليه على وجه التخصيص من خلال تناولها لإحدى الديانات السماويّة الثلاث أو إحدى الديانات الوضعيّة، بل إنّ الغاية من الموسوعة أبعد من ذلك بكثير؛ فهي ترمي إلى مساءلة الأغراض الكليّة (general topics) التي تؤسّس للدين بإطلاق بصرف النظر عن تجلّياته المخصوصة المتعارف عليها لدى معتنقي هذه الديانة أو تلك.
أنّ هذا التعميم الذي قد يبدو للوهلة الأولى مبالغًا فيه يجد لدى محرّري الموسوعة ما يبرّره وذلك بالنظر إلى أنّ الظاهرة الدينيّة ظاهرة زئبقيّة ليس ثمّة من تعريف ثابت أو نهائيّ أو قطعيّ لها. وممّا يعمّق وجوه الإشكال في هذه المسألة أنّ بعض الأشرطة السينمائيّة تبدو غائمة الملامح سواء من جهة موقعها بالنسبة إلى الدين، أو في مستوى علاقتها به. ولمزيد توضيح هذه الفكرة والبرهنة عليها، يسوق محرّرو الموسوعة مثال شريطَيْن يثيران من الإشكاليّات أعمقها. أمّا الشريط الأوّل، فقد سبقت الإشارة إليه، ونعني بذلك شريط “غواية المسيح” لميل جبسون. فالبرغم من أنّ المخرج قد عوّل على نصوص الكتاب المقدّس وانطلق منها واستند إليها في تصويره الساعات الإثنتي عشرة الأخيرة من حياة السيد المسيح، وبالرغم من أنّ قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني (1920-2005) قد شاهد الشريط وشهد له وعلّق عليه (بحسب ما أشيع عبر الأنترنيت من أخبار غير مؤكّدة) من خلال قوله: “لقد وقع الأمر على هذا النحو”؛ بالرغم من كلّ ذلك، فلا شيء يشفع للشريط حتّى يُعتبر شريطا دينيًا، لا لشيء إلاّ لأنّ طوائف عديدة من المؤمنين بالسيد المسيح وكثيرا من معتنقي الديانة اليهوديّة اعتبروه “لا دينيّا” ولا سيّما أنّه بالغ -حسب رأيهم- في تصوير عذابات السيد المسيح على نحو صادم مقـزّز ممّا جعله أقرب إلى أفلام الرعب منه إلى أفلام العقيدة.
أمّا الشريط الثاني الذي لا يخلو من إشكال، فهو لا يقلّ شهرة عن سابقه، وإن ظهر قبله بسنوات وظلّ أسابيع عديدة يحتلّ طليعة البوكس أوفيس، ونعني بذلك شريط “آي.تي.” (1982) E.T.للمخرج ستيفن سبيلبرغ Steven Spielberg.
لا شكّ في أن كثيرا من قرّائنا ومن المهتمّين بالسينما على وجه الخصوص سيفاجؤون بالحديث عن علاقة ما بين “آي.تي.” والظاهرة الدينيّة، فالشريط في عرف النقّاد يندرج ضمن سينما الخيال العلميّ ولكنّ أصحاب الموسوعة ينبّهون إلى جملة من المعطيات ربّما غابت عن الأذهان لأنّها متّصلة بالبنية العميقة للفيلم. فالكائن الذي تدور عليه أحداث القصّة جاء من السماء، من مكان ما بعيد غير معلوم بدقّة؛ وهو لا يُخفي تعاطفه مع الصغار ومع المنبوذين؛ وهو بالإضافة إلى ذلك مطارد من طرف السلطة القائمة التي تلاحقه وترفضه دون أن تستمع إليه أو تعرف حقيقته؛ ثمّ إنّه بعد موته “يُبعث من بين الأموات” ويَـعِـدُ من عرفوه ومن أحبّوه بالعودة إليهم. كلّ هذه التفاصيل إذا ما جُمّعت تحيلنا إلى قصّة تسكن المخيال المسيحي وتحرّكه وتتحرّك في نطاقه، ولكنّ الشريط يعيد صياغتها وفق منطق استعاريّ تضحي شخصّية “آي.تي.” فيه شبيهة كلّ الشبه بشخصيّة السيد المسيح ولكن في ثوب آخر غير الذي رسمته لنا الأناجيل… ومن هنا ينبع السؤال وينبثق الإشكال: فهل من الجائر أن نعتبر شريط “آي.تي.” -بهذا المعنى- شريطا دينيّا أم أنّه مجرّد شريط خيال علميّ؟ تماماً مثلما انبثق السؤال الأوّل: هل من المقطوع به أن نَـعُـدَّ شريط “غواية المسيح” شريطًا دينيًّا أم أنّه شريطُ هرطقةٍ وتجديف من عمل الشيطان؟
إنّ “زئبقيّة” الدين مفهومًا وظاهرة وتعدّد احتمالات تجلّيه وتَـخَـلُّـلِـه للأشرطة السينمائيّة وتَـحَـلُّـلِـه فيها واختراقه لها توازيها “زئبقيّة” أخرى لا تقلّ عنها دقّة وإلباسا، ونعني بذلك “زئبقيّة” الفيلم (The Film). فالثورة الرقميّة التي تكتنف اليومَ كافّة تفاصيل حياتنا المعاصرة جعلت الصورة (سواء أكانت ثابتة أم متحرّكة، ناطقة أم صامتة، مرسومة باليد والريشة أم بالحواسيب والآلات الفوتوغرافيّة)، جعلتها ملكا مشاعًا لا يستطيع أحد أن يستأثر به أو يسيطر عليه أو يدّعيه لخاصّة نفسه بمن في ذلك صنّاع السينما والقائمون على شؤونها من أباطـرة المـنتجين. لقد أبِـقَ “الفيلم” -مفهومًا وظاهرةً- ونجح في كسر القوقعة التي ظلّ محصورًا فيها ووجد لنفسه فضاء أرحب هو فضاء “الميديا” بمختلف تنويعاتها بدءًا بالأشرطة التلفزيّة (الأخت غير الشقيقة للأفلام السينمائيّة) والمسلسلات الدراميّة، انتهاءً إلى الأشرطة الشخصيّة التي يتقاسمها المولعون بالأنترنيت على الشبكات الاجتماعيّة، مرورا بالأشرطة الوثائقيّة والفيديو كليبات والمنتجات السمعيّة البصريّة على اختلافها…
إنّ الاعتبارات النظريّة والمحاذير المنهجيّة التي أثارها أصحاب الموسوعة والتي أوجزنا أبرزها في النقاط الثلاث السابقة دفعتهم إلى توجيه عملهم وجهة مخصوصة تحرّروا فيها –أو كادوا- من القيود الأكاديميّة في معناها الحرفيّ الضيّق، فلم يُلزموا أنفسهم بتعريف حصريّ للدين أو بتعريف صارم للفيلم بل كان هاجسهم الأوّل والأخير أن يضعوا بين يدي القارئ الأدوات الضروريّة التي يحتاجها من أجل أن يضبط بنفسه قائمة الأشرطة التي يعتبرها هو دينيّة أيّا يكن الشكل الذي تتّخذه والجنس التي تتنزّل ضمنه.
على هذا النحو، إِذَنْ، كانت “موسوعة الدين والفيلم” موسوعةً مفتوحةً لم يهدف أصحابها إلى تقديم أجوبة نهائيّة قاطعة أو تصوّرات وثوقيّة ثابتة بقدر ما راموا وضعَ علامةٍ تؤشّر لنقطة هي بدايةُ مسارٍ طويلٍ يمكن من خلاله فهم العلاقات التفاعليّة (الموجبة والسالبة) القائمة بين الدين، أيّا تكن تجلّياته، والأشرطة، أيّا يكن عيارها ونمطها الفنّي أو حتّى “اللاّفنّي”…
لقد كان المحرّرون واعين بأنّهم يقفون من مسألة “الدين والفيلم” موقف المؤسّس لأنّ هذا المبحثَ حديث النشأة غير مؤصّل الأصول بالرغم من أنّ الدين لم يغب يومًا عن الشاشة الفضيّة منذ مرحلة النشأة والبدايات التي كانت فيها السينما صامتة لا صوت فيها إلاّ صوت البيانو يتردّد عبر أرجاء القاعات المظلمة… ففي هذه المرحلة، مرحلة البواكير والسينما الصامتة، تفتّق ذهن منتجي هوليود على “حيلة إنتاجيّة” (قياسا على ما يُعرف عندنا بـ“الحيل الفقهيّة”) غايةٍ في البراغماتيّة، فقد عمدوا إلى تصوير مقاطع مقتبسة من آيات “الكتاب المقدّس” لم يدفعوا فيها دولارًا واحدًا مقابل حقوق التأليف (وهل كان الربّ ليطالبهم من عليائه بهذه الحقوق؟!). ولأنّ منتجي هوليود أرادو أن يجمعوا في براغماتيّتهم بين المال والفنّ (استحياءً من أنفسهم أو ربّما استحياءً من الربّ!) فقد قلّصوا قدر الإمكان من اللّوحات السوداء التي جرت العادة يومها بأن تُكتب عليها نصوص الحوارات. وهل كان ثمّة من حاجةٍ حقّا إلى الإطناب في مثل هذا المقام وقد كان جـلُّ روّاد السينما حينها من العارفين بنصوص الكتاب المقدّس ومن الحافظين عن ظهر قلب لما جرى بين شخصيّاته؟
كانت التوليفة حينها مثاليّة حقّا: منتج لا يدين بدولار واحد للمؤلّف.. ومؤلّف (هو الربّ) لا يطالب بحقوقه لأنّ أيّ نصّ يُـنْـسَـبُ إليه هو عبارة عن إشهار مدفوع الأجر لاحقا (في الآخرة).. وجمهور يعرف مسبقًا فحوى الفليم بل ويحفظ عن ظهر قلب نصوص الحوارات بين الشخصيّات ويتماهى معها..
إنّها آلة الإيديولوجيا (أو بالأحرى، آلة التيولوجيا) التي سعت منذ بواكير السينما إلى بسط سلطانها على الصورة بعدما نجح الأخوان لوميار في تحريكها، آلة كأنّما استشعرت خطر الفيلم المحدق فحاولت تحجيمه وجعله في صفّها واستثماره إلى أقصى الحدود… إنّها آلة الإيديولوجيا (أو بالأحرى، آلة التيولوجيا) تكرّر عبر أنماط الميديا المختلفة نفس المحاولة في مسعى منها إلى الهيمنة على العالم من خلال السيطرة على الصورة مُـعْـلِـنَـةً عن قضايا لا تنتهي وعن أشكال من العلاقة بين الدين والفيلم لا حدّ ولا عـدّ. ولكن، ما موقع الإسلام –دينًا وحضارةً- في كلّ هذا؟ كيف التُقِطَت صورتُه وكيف رُكـِّبت وكيف صاغت وعي النظّارة، وعيهم الدينيّ ووعيهم العام؟
الإسلام متعدّدا… الإسلام واحــدا!من بين المداخل التي شكّلت مادّة “موسوعة الدين والفيلم” والتي ناهز عددها المائة خصّص المحرّرون مقالة للحديث عن الإسلام امتدّت على ستّ صفحات (صص.243-248). وقد يذهب في ظنّ القارئ (كما ذهب في ظنّنا، إلى حين.. وبعض الظنّ إثم!) أنّ في الأمر حيفا وتحيّزًا ولكنّ مقارنة يسيرة بين عدد الصفحات التي أُفردت للديانات الكتابيّة الأخرى يكشف لنا عن توازن واضح بين أقسام الموسوعة ومداخلها. فقد خصّصت للديانة اليهوديّة، سبع صفحات (صص.264-270)، للكاثوليكيّة ثمان (صص. 107-115)؛ أمّا الديانات الوضعيّة كالهندوسيّة فقد كان نصيبها ستّ صفحات كنصيب الإسلام تمامًا (صص. 214-220) خلافًا لما عليه الأمر بالنسبة إلى الديانة البوذيّة التي لم يعقد لها المحرّرون إلاّ ثلاث صفحات، لا غير (صص. 95-98).
وبصرف النظر عن هذه الاعتبارات الكميّة-الشكليّة، فقد وجدنا المقالة التي عقدت للحديث عن الإسلام في السينما والتي كتبتها الباحثة ريتشل واغنر Rachel Wagner (الأستاذة في جامعة أوريغون Oregon state university والمتخصّصة في مسألة العلاقة بين الدين ووسائل الميديا الحديثة) على غاية من الاتزان والعمق، سواء في مستوى الطرح أو في مستوى التناول والنتائج. ولعلّ أهمّ ما شدّنا فيها تنبّهُها إلى أنّ الصورة التي صاغتها السينما والميديا الأمريكيّة عمومًا عن الإسلام لم تتأثّر كثيرا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. فعلى امتداد فترة التسعينات، ومن خلال أشرطة سينمائيّة مثل شريط True Lies (1994) للمخرج جايمس كامرون James Cameron وشريط Executive Decision (1996) للمخرج ستيوارت بيرد Stuart Baird وشريط Air Force One (1997) للمخرج ولفقان بيترسونWolfgang Petersen، وخاصّة من خلال شريط The Siege (1998) للمخرج إدوارد زويك Edward Zwick ؛ من خلال هذه الأعمال السينمائيّة جميعها، كانت صورة الإسلام في وعي الأمريكيّين قد اكتملت أو كادت. ثمّ جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتجسّد على أرض الواقع بعضًا ممّا صاغته السينما الهوليوديّة على مُـسَـطَّـح الشاشة الفضيّة. فطيلة فترة التسعينات لم يَـأْلُ أباطرة الإنتاج في هوليود جهدًا في تصوير المسلمين على أنّهم أشرار وإرهابيّون ولم تُـتَـحْ للمواطن الأمريكيّ العاديّ أن يرى على الشاشة الفضيّة صورةً غير الصورة التي تفنّنت هوليود في نسج ملامحها وتفاصيلها. ولذلك، فإنّ أعمالاً سينمائيّة عديدة غير أمريكيّة المنشإ مرّت أمام ناظرَيْ المشاهد الأمريكيّ مرور الكرام دون أن تغيّر من الوعي العامّ ومن الوعي الدينيّ شيئا قليلا أو كثيرا…
صحيح أنّ قاعات السينما في أمريكا قد عرضت أشرطة إيرانيّة مثل شريط Children of Heaven (1997) للمخرج مجيد مجيدي Majid Majidi وشريط The Wind Will Carry Us (1999) للمخرج عبّاس كياروستامي Abbas Kiarostami، ولكنّ أعمالا مثل هذه لم تكن قادرة على مواجهة المدّ الهوليوديّ الهائل، لا لشيء إلاّ لأنّ هوليود قد أتقنت اللّعبة. فقد قدّمت الإسلام والمسلمين على أنّهم متشدّدون متعصّبون انفعاليّون، ليس لهم من هدف إلاّ التعدّي على حريّة الآخرين. ولأنّ كتّاب السيناريو والمنتجين من خلفهم لا يهتمّون بالوقائع الحقيقيّة على الأرض ولا يحفلون بها فإنّ الفروق النوعيّة بين العرب-المسلمين والمسلمين غير العرب قد امّحت تمامًا حتّى صار كلّ المسلمين عربًا وكلّ العرب مسلمين فغابت عن وعي المشاهد الأمريكيّ خصوصيّاتُ الإسلام التركيّ والإسلام الإيرانيّ والإسلام الأفغانيّ لكأنّ اهتمامات كلّ المجتمعات الإسلاميّة واحدة ورهاناتها متطابقة متماثلة. فتكرّست بذلك نظرة مثنويّة مغلوطة، نظرة زيّفت الوعي العامّ والوعي الدينيّ على وجه الخصوص حين وضعت “الغرب” في مواجهة صارمة مع “الإسلام” معتقدةً أنّ الإسلام واحدٌ وإن كان في الحقيقة متعدّدًا.
ولكن، كيف تسنّى للسينما الأمريكيّة، ولوسائط الميديا ووسائلها أن تحوّل تعدّد الإسلام إلى وحدة؟ كيف أمكنها أن تجعل العروبة مرادفة للإسلام؟ وما هي الآليّات التي اعتمدتها حتّى تمحو الفروق بين “الإسلام العربيّ” و“الإسلام غير العربيّ”؟
تلك أسئلة لم تَـغْـفَـل الباحثة ريتشل واغنر عن طرحها وعن تقديم إجابات عليها، إجابات سنفصّل القول فيها في الجزء الثاني من هذه المقالة.