بعد رحيل المنجرة: الدرس الثقافي للنخبة.. القيم وصنع المستقبل
عمار العوني *
الجمعة 18 يوليوز 2014 - 09:00
رحل الدكتور المهدي المنجرة عن عالمنا هذا منذ يوم 31 حزيران/جوان الفارط. ولم يكن رحيل "سي المهدي" كما يطيب للكثير من الإخوة المغاربة مناداته -مفاجئا إذ سبق وفاته- رحمه الله وأسكنه فراديسه الخالدة- صراع طويل مع المرض والغيبوبة في مستشفى بالرباط.
الآن وبعد مرور أكثر من شهر على رحلة الفراق والفقدان المؤلمة يمكن للكاتب أن يثير أكثر من سؤال معرفي وثقافي حول السيرة الحياتيّة لمفكرنا الذي استطاع أن يتجاوز الدائرة الثقافية المحلية بالمغرب الشقيق إلى الدائرة العربية الإسلامية الأوسع بل تمكن من الارتقاء إلى مستوى كوني وإنساني أشمل من خلال نضاله العلمي والثقافي والطويل، من أجل بناء عالم حضاري جديد يتأسس على حوار التواصل بين الثقافات ودفاعه المستميت عن ضرورة احترام القيم الثقافية للشعوب ومعارضة "الحروب الحضارية" التي قادتها الامبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على الثروات والموارد الطبيعية الاستراتيجية في العالم العربي الإسلامي، وإعاقة ميلاد أي مشروع حضاري نهضوي مستقبلي في المنطقة العربية.
* المثقف وهموم المجتمع الحارقة:
إن من أبرز الدروس التي يمكن استخلاصها من سيرة مفكرنا الراحل ــ رغم أنه كان يرفض أن يدعي بالمفكر(1) لأنه يعتبر أن الدراسات المستقبلية وهي مجال اهتمامه الأساسي ليست فكرا بالمعنى المتداول، إنما هي علم يقوم على صنع المستقبل من خلال تحديد الخيارات والاتجاهات والمرغوب فيها للمسار المستقبلي ــ وهو الدرس الثقافي للنٌخبة.
فالمعرفة أو العلم حين يتحوَل إلى خيار للحركة والفعل الثقافي في اجتماعات ينتسب مشروعية في الواقع ويصبح منار يسَطر طريق التغيير ويحمل آمال الفئات الاجتماعية وهمومها الحضارة والمستقبلية. والدكتور المنجرة كان من طينة العلماء والمفكرين القلائل والاستثنائيين الذين حملوا هموم الناس واكتووا بشواغل المجتمع الحارقة (الحرية،الديمقراطية،العدالة الاجتماعية و الإقتصادية...) ويكفي أن نذكَر في هذا السياق بالمناصب والمراتب الأكاديمية والسياسية العديدة التي زهد فيها ورفضها محليًا ودوليًا من أجل حريته واستقلاليته العلميَة و الفكرية بالإضافة إلى صنوف المضايقات والمنع من النشاط الفكري والثقافي الَي سلَطت عليه في بلده المغرب وفي أغلب بلدان العالم العربي طيلة أكثر من ثلاثين سنة: " لقد ذهبت إلى السجن وعمري 15 سنة وكنت في آزرو و لم يخطر ببالي أنه بعد خمسين سنة و على بعد خمسين كيلمترا من ذلك المكان، سيأتي قائد ويمنعني من الكلام ويطردني، وهذا قمّة في إهدار كرامة هذا الشعب" (2)
ولقد قدّم المنجرة درسا ثقافيا نموذجيّا للنخبة العربيَة المعاصرة وهي نخبة كما تجلت حقيقتها مقسّمة إلى صنفين: نخبة مرتزقة )موظفة لدى السّلط الحاكمة مهّمتها الدفاع عن سياستها الاستبدادية وتبرير خياراتها القمعيّة ) ونخبة صامتة منكفئة على ذاتها وراكنة إلى الهدنة.
فقد استطاع-رحمه الله تعالى - أن يكسّر ثنائية الارتزاق والصمت التي هيمنت على صورة المثقف العربي خلال النصف الثاني من القرن الماضي وبدايات القرن الجديد وتمكّن بفضل شخصيته القوية ورؤيته الفكريّة الثاقبة من تقديم درس مثالي وشاهد للمثقف المناضل الذي يسّخر حياته وعلمه للدفاع عن هموم الناس البسطاء، وحمل قضايا الأمة العربية والإسلامية في توقها إلى التحرر والانعتاق من التبعة للإمبراطورية الامبريالية وحلفائها من قوى الاستعمار الجديد ونشدانها بناء مستقبل سياسي وحضاري أصيل ومستقل.
*وعي الحرية والتغيرات الجذرية:
والمتأمل في السّيرة الفكرية والعلمية الزاخرة للدكتور المنجرة يتوقف عند وعيه العميق بالقيم الثقافية-الحضارية ودورها في تغيير الواقع الحاضر وبناء المستقبَل السّياسي والاقتصادي والاجتماعي المنشود.ذلك أن القيم (الحرية،الكرامة،العدالة الاجتماعية والاقتصادية...) تحتل موقعا مركزيّا في الخطاب الفكري الذي يتجلى في الكتب والدراسات الكثيرة التي الَفها.
لقد استطاع المهدي المنجرة استثمار المنهج السيسيولوجي-الثقافي بعمق في بلورة خطاب فكري-حضاري أصيل يشّخص أزمة الواقع السياسي والاجتماعي العربي ويستشرف الآفاق المستقبلية الممكنة.فالقيم الثقافية-الحضارية هي جوهر البنية الاجتماعية وأساس حركيتها والموجة لمسارها المستقبلي وهي بهذه الدينامية والانفتاح تعارض الانغلاق والتقوقع حول الذات. من هنا فإن القيم الثقافية العربية الإسلامية تلتقي في اتجاهاتها وأبعادها مع القيم الإنسانية الكونية، وبالتالي فإن امتدادها التاريخي لا يتوقف عند حدود الماضي بل هي مبادئ ومقّومات للهوية المتجذرة والمنفتحة في آن والمحرّكة للحاضر والحاملة لآمال المستقبل. والتاريخ هنا بما هو ذاكرة ثقافية وحضاريّة يبقى حاضرا فينا أفرادا ومجتمعا ت وفاعلا مؤثرا في أفكارنا واختياراتنا وآمالنا الراهنة والمستقبلية مع التأكيد على اعتبار التواصل النّدي والمثمر مع الآخر في عالمنا المعاصر: " ومن أجل خلق إستراتيجية للبقاء والتّمسك بالبعد الروحي للحياة حيث يكون فيه منطق التضامن الإنساني من أسمى القيّم لا يمكننا السعي إلا وراء ثقافة كونية... لا نروم الانغلاق لأّن الثقافة أولا انفتاح واعٍ يغذيه تواصل خال من كل الضغوطات. إن الحداثة قبل كل شيء، هي إعادة قراءة دائمة للماضي في رؤية مستقبلية للتَاريخ،وليست الحداثة بضاعة قائمة على المنتوجات المستّوردة ولا هي برخصة نشتريها أو نموذجا ننقله، إنما هي إبداع يتكيّف مع التطوير" (3).
وقد تمكّن المنجزة من تأصيل القيم الثقافية العربية-الإسلامية في سياق رؤية تنويريّة معاصرة تستجمع عصارة مناهج العلوم الإنسانية من اجتماع وسياسة واقتصاد وتاريخ،هذه الرؤية التي كثيرا ما كشفت عن تحاليل استشرافية ومواقف صائبة لأنها بدت رؤية متجذّرة في واقع المتجمعات العربية ومستلهمة لآفاق البناء المستقبلي الواعي والمستبصر.
لك أن قيمة الحريّة مثلا ورغم جوهريتها الانسانية فإنها لا تتحقّق إلا في ترابط وثيق مع قيمة الكرامة، كما انّ قيمة الكرامة لا تتبلور في الواقع الفردي والجماعي المعيش إلاّ إذا توفرت قيمة الحرية. وهذا الترابط التفاعلي بين الحريّة والكرامة ليس مجّرد معطى طوباوي وإنما هو هدف من الأهداف الاجتماعية والسياسية الراهنة والمستقبلية التي شدّد عليها في استشراف عمليّة بناء شخصية المواطن العربي حتى يتمكن من التحرّر والانعتاق، وبالتالي التفّرغ إلى العطاء والإبداع أي تحقيق الفاعلية الاجتماعية والإبداعية للانسان العربي والمسلم في القرن الحادي والعشرين.
ولم تكن التحاليل المستقبلية التي طرحها في هذا السيّاق منذ تسعينات القرن الماضي إلّا تصديقا لرؤيته الثاقبة والمستنصرة التي توقّعت حتمية "الانتفاضات الشعبية" للمواطنين فاقدي معنى المواطنة وللمجتمعات المقهورة في وجه السلط الاستبدادية-الديكتاتورية، وكانت الثورات الشعبية العاتية التي عصفت بأعتى الأنظمة القمعية في العالم العربي منذ سنة 2011 أقوى شاهد على سيناريو " التغيير الجذري" الذي رجّح حصوله قبل سنوات عديدة.
*وعي التاريخ والحاضر: صنع المستقبل...
إن من أهم الاستنتاجات التي لا بدّ من تسجيلها في هذه الورقة تجذّر الرؤية الفكرية للراحل المهدي المنجرة في الرّوافد الفكرية والحضاريّة المضيئة في التراث العربي الإسلامي من جهة، وانفتاحها الواعي على مكتسبات الحداثة والمعاصرة معرفة وعلوما ومناهج من جهة أخرى. لذلك فإن آراءه ومواقفه الفكرية والعلمية قد تجاوزت التعصّب الإيديولوجي المقيت محليّا وارتقت إلى مرتبة الكونية في أرقى تجلياتها الإنسانية السامية.
وكان اهتمامه بمجال الدّراسات المستقبلية رغم تخصّصه في الاقتصاد والعلوم السياسية نابعا من وعي معرفي وعلمي حادّ ينطلق من شعور قوي بدور علم الاستشراف في تشريح الواقع والحاضر وتحليل الاتجاهات والاحتمالات الممكنة في ضبط مسار المستقبل الحضاري.فالمستقبل في تصّوره يصنع أي يبني وينجز انطلاقا من قراءة دقيقة لمعطيات الحاضر وتحديد للأهداف والطموحات المراد بلوغها في المسار التاريخي مستقبلا. من هنا فإن المستقبل ليس منقطعا عن الماضي والحاضر بل هو في جوهره امتدادا وتواصل لمسار تاريخي مفتوح يمكن للإنسان التدخل فيه لتعديله وصنعه، وبالتالي فإن الماضي-التاريخ باعتباره ذاكرة ثقافية وحضارية جمعيه.... وليس مجرّد تراث جامد أو أحداث عابرة أو أثار ميتة، هو معطى حيّ ومستمر في حاضرنا ومجتمعنا وذلك ما يعطيه مشروعية الحضور في عملية استشراف المستقبل واستباق التحديات الاجتماعية والثقافيّة والحضاريّة التي يطرحها.
هكذا ننتهي إلى القول بأنّ السّيرة الفكريّة والحياتيّة للدكتور المهدي المنجرة ستبقى منارة ساطعة تستضيء بها الأجيال القادمة، ومورد لا ينضب ينهل منه المفكّرون والباحثون. وما الأسطر التي كتبناها في هذه الورقة إلا لفتة وفاء للراحل العزيز ومحاولة لاستحضار بعض مآثره بعد أكثر من شهر عن وفاته رحمه الله تعالى وأسكنه فراديسه الخالدة.
• باحث وكاتب تونسي
****
1 انظر المهدي المنجرة "الإهانة في عهد الامبريالية"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2007، ط5، ص:52
2 م،ن، ص 53
3 المهدي المنجرة، قيمة القيم/ المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2008، ط4، ص