في الثالث من أبريل رحل واحد من أكبر القامات الثقافية في السويد. لارس غوستافسون، المفكر والشاعر والروائي والمترجم وأستاذ الفلسفة، رحل عن تسعة وسبعين عاماً وأكثر من ستين كتاباً. في جميع الصحف ووسائل الاعلام تردد صدى رحيله عبر مقالات وأحاديث للأدباء والنقاد والمهتمين، فقد تركت أفكار غوستافسون وكتبه ومواقفه تأثيرها على أجيال عدة. وقد ترجم بعض كتبه الى لغات عديدة، وهو معروف على نطاق واسع في الثقافة الغربية المعاصرة ونال جوائز من بلدان عديدة كايطاليا وألمانيا والولايات المتحدة، فضلاً عن الجوائز من داخل بلده، ولكن المكتبة العربية لم تحض بترجمة لأي من أعماله.
تعيد حياة لارس غوستافسون إالى البال مقالة لجورج طرابيشي يصف فيها جيله وشخصه وكثرة التقلبات أو التطورات الفكرية التي عاشها خلال – وبسبب – قرن مضطرب ومزدحم بالتغيرات العنيفة. وثمة تشابه الى حد ما بين الرجلين في الجرأة على التمرد على الذات وتغيير القناعات. فقد بدأ غوستافسون نشاطه محسوباً على اليسار، وكان من جيل حركة الاحتجاجات على الحرب الفيتنامية. لكنه في السبعينيات دخل في مراجعة لأفكاره فنشب الخلاف بينه وبين اليسار السويدي لدرجة أنه قيل بأن هذا الخلاف كان وراء مغادرته السويد وإقامته وعمله في عدة بلدان من بينها ألمانيا والولايات المتحدة. فعمل منذ 1983 أستاذاً للفلسفة في جامعة تكساس ولم يعد الى الوطن الأم إلا في عام 2006. وبعد ذلك أبدى مواكبة يقظة لحركة التغيرات الثقافية في العالم، فنشط في دعم الثقافة الرقمية وحرية الرأي في الانترنيت، حتى إنه انضم لبعض الوقت الى حزب قراصنة الانترنيت وقت صعوده القصير.
أصدر لارس غوستافسون روايته الأولى “إستراحة طريق” وهو في الحادية والعشرين من عمره، في عام 1957، وأتبعها بعد عامين برواية “آخر أيام الشاعر برومبرغ وموته”. في هاتين الروايتين وبقية رواياته المكتوبة خلال عقد الستينيات أشار نقاد الى طابع تجديدي يتميز به وصفوه بروايات الفكر، لما في هذه الروايات من طرح فلسفي ولمعالجتها أساليب حياة مختلفة.
في 1962 صدرت مجموعته الشعرية الأولى “راكبو المنطاد”. وفي العام التالي ترجمت أول مجموعة شعرية له الى الانجليزية تحت عنوان “مختارات شعرية”. حالياً توجد أعماله الشعرية بلغات عديدة. ومثلما في أدبه النثري، يأخذ شعره سمة فلسفية. وعلى خلاف مجايليه من الشعراء الذين يميلون الى الواقعية، مثل صديقه توماس ترانسترومر، تميز شعره بالرمزية. وحسب وصف أحد النقاد فان لارس لم يساير الشعرية التي تمجد الأسطورة الرومانسية عن قوة الشعر الخارقة واكتماله الذاتي النادر. فالشعر عنده ليس تعبيراً عن أعماق الذات – كما يحب شعراء أن يقولوا – وإنما هو أداة لانارة ألغاز العالم المحيط بنا. “فالشعر ليس سحراً” على حد تعبيره. وهو يرى أن اللغة هي محور الشعر، ويفرق بين اللغتين العلمية والشعرية بأن اللغة العلمية ذات قيمة كونية ومتاحة للجميع، بينما لا تمتلك اللغة الشعرية أبداً طموحاً آخر غير أن تختص بالفرد، ففي الشعر الأصيل لا وجود للتعميمات، كما يقول.
ما بين 1972 و1978 أصدر تباعاً خماسيته الروائية “شقوق في الجدار” التي وصفت بأنها مساهمة السويد في تطور الشكل الروائي. في هذه الروايات الخمس مزيج من الأسئلة الوجودية وفلسفة العبث والكوميديا، مصاغ بشيء من الخيال العلمي. نالت الرواية بأجزائها شهرة عالمية وجعلت من لارس غوستافسون أحد أهم أدباء السويد. كما تحول أحد أجزاء هذه الخماسية الى فيلم.
الحضور الكبير لغوستافسون في الأدب السويدي متأتٍ من جرأته الفنية، التي تذكّر بجرأته الفكرية ومراجعاته السياسية. فلم يكن يتردد في تجديد أساليبه الفنية، ووصفت أعماله الروائية والمسرحية بالتجريبية. وظل دوماً متنوع الانتاج غزيره. فبالاضافة الى الشعر والرواية كتب في الفلسفة والفكر السياسي، وأصدر مجموعة محاضرات ومقالات، وكتب مسرحيات، وترجم الى السويدية ما يقارب عشرة كتب شعرية. وبالاضافة الى كتاباته فقد كان رساماً وأقام عدة معارض شخصية. كما كان موسيقياً أيضاً. وبذلك يكون من أكثر أدباء السويد ثراء فكرياً.
في أحد المقالات الكثيرة جداً التي نشرت حول رحيل لارس غوستافسون، جاء بأن هذا الرجل هو من النادرين الذين اجتمع فيهم أن يكونوا جزءاً من الكلاسيك الفكري وأن نأخذه – في الوقت نفسه – معنا إلى المستقبل.