مهنا الحبيلفي مراجعات خطوط الصفقة التي شكلتها اتفاقية سان بطرسبرغ بروسيا وما سبقها من تحضير تبرز لنا مسارات التطبيق التي ركزت على السلاح الكيميائي للنظام السوري لتحييده وتدميره ضمانا لأمن إسرائيل وليس تأمينا للسوريين وحماية لهم.
وتصريح جون كيري الأخير الأكثر وضوحا وجلاء نحو مشروع تصفية الثورة السورية الذي أُقر بين المحورين وذلك في قوله الصريح مطلع الشهر الحالي إن واشنطن متوافقة مع موسكو لمنع وصول الجماعات المسلحة للحكم دون أن يستثني أيا منها، وثناؤه على النظام السوري لتجاوبه الجيد حسب وصفه، وإشارته الواضحة لتوافق الغرب مع موسكو لعدم الحاجة للعمل العسكري ضد النظام.
هذا الإعلان الذي نَسخ كل ما قبله دفع الائتلاف الوطني السوري المعارض ليصدر تصريحا مباشرا يُعلن أن الائتلاف بات يعتقد كليا بوجود الصفقة ضد الثورة السورية بتبني أميركي، وأن واشنطن ليست صديقة للثورة السورية.
ومع صراحة هذا الخطاب إلا أن الائتلاف يعيش تخبطا واسعا يقوده الشيخ أحمد الجربا، ومن ذلك إشارته لحضور مؤتمر جنيف، وهو المحفل السياسي الرسمي الذي سيُعلن الصيغة السياسية لتبني تصفية الثورة السورية, وهو ما يجعل مستقبل الائتلاف الوجودي على المحك, حيث تنفصل القوة العسكرية للثورة عنه كليا وتنسحب القاعدة الشعبية منه.
" يعيش الائتلاف تخبطا واسعا يقوده الشيخ أحمد الجربا، ومن ذلك إشارته لحضور مؤتمر جنيف وهو المحفل السياسي الرسمي الذي سيُعلن الصيغة السياسية لتبني تصفية الثورة السورية، مما يجعل مستقبله على المحك " |
وهذا الأمر يعيد طرح قضية عودة المجلس الوطني السوري كممثل للعمل السياسي للثورة بعد أن يُعاد تمثيل القوى العسكرية فيه ويُنظم تشكيلات القوى المدنية, أو تعاد هيكلة الائتلاف لتحييد مشروع واشنطن وحلفائها في الخليج من داخل الائتلاف, بعد أن اتضحت بجلاء نهاية الصفقة التي دفع لها محور خليجي وحولتها واشنطن لصفقة رباعية بين موسكو وطهران وتل أبيب وواشنطن, وأضحت الثورة وشعبها المدني تحت مقصلة هذه التوافقات الخطيرة.
وسواء توجه المشهد نحو هذا التحليل أو غيره فإن المؤكّد أن الثورة السورية باتت تحت حصار حلف سان بطرسبرغ, لكن كل أدوات هذا الحلف لن تستطيع أن تُخضع الثورة سياسيا، ما دامت يد الثورة قوية في الميدان العسكري.
ولقد كان هذا الميدان قادرا على تحقيق الحسم العسكري في جولات عديدة لولا مشاريع نقضت تقدمه بتعزيز حصار التسليح النوعي الذي منع الثوار من الزحف المركزي وجعل سوط القصف على المدنيين مُنهكاً لهم لعدم وجود مضادات لمواجهته.
والعودة إلى هذه الاتفاقية تُشير من جديد إلى أطراف اللعبة الأربعة المستفيدة منها, وبالتالي فإن حصيلة هذه الغنيمة ستتوجه إلى مناطق الصراع الهشة والتي تدخل أولوية مواجهتها كمشروع مطلوب لتل أبيب وللمعسكر الغربي وهي أيضا تتفق مع طهران كقوة إقليمية صاعدة مدعومة من الغرب مقابل الشرق العربي المستقل.
هنا تتوجه القراءة من جديد إلى الميدان التاريخي للمواجهة الذي تسعى هذه القوى في مشروعها السوري لمواجهته ومواجهة استقلال الشعب السوري, هذا الميدان هو فلسطين وتحديدا غزة وحركة حماس كقوة صعدت وخرقت قواعد اللعبة الجديدة والقديمة ويتحفز أطراف سان بطرسبرغ لمواجهتها, أو غض الطرف عن سحقها وتشجيعه ضمنيا كون حماس والمقاومة الفلسطينية وممانعة غزة تُشكل عقبة أمام مشروع الشرق الأوسط الجديد, الذي يهيؤ له بعد تصفية الربيع المصري وحصار باقي مشاريع الربيع العربي.
إن الموقف الأميركي والإسرائيلي واضح من تحجيم حماس كقوة ممانعة حقيقية صمدت وحيدة أمام تل أبيب، لكن الموقف الإيراني والروسي هو الذي يختفي حول بعض المواقف أو التصريحات أو الرعاية الإعلامية ذات الضجيج، في حين أن فلسطين أضحت في سان بطرسبرغ حجرا مسقطا من على الرقعة بين الأطراف الدولية والإقليمية.
إن طهران تدرك النتيجة المباشرة للتوافق في سوريا وملفها النووي والعلاقة الجديدة مع واشنطن التي تسمح لها ببناء شراكة تقاسم سلسة أو شرسة مع الغرب في حديقته الخلفية بالخليج, وصعود نفوذها في العراق ولبنان بصورة أكبر, وعليه فإن دحرجة رأس حماس أو نقض ممانعة غزة هو من الأوراق التي تطرحها طهران ضمنيا مقابل هذه المكاسب وتثبيت حليفها الأسد.
ولقد كشفت المرحلة السابقة للربيع العربي عن تفاصيل مشروع إيران في البعد الإستراتيجي مع قوى المقاومة العربية الحقيقية وروح ممانعتها الأصلية التي دخلت المشهد سياسيا من جديد، واتصلت بروح المشروع العربي الإسلامي الذي يتفق في مساره الأيديولوجي والفكري مع حماس والثورة السورية وأدبيات ومنطلقات الربيع العربي.
وعليه فإن إيران المنزعجة من عودة هذه الروح وتهديد البطاقة الإعلامية السياسية ذات الضجيج العالي الذي استخدمت فيه -حزب الله- طويلا، ثم أعادت تموضعه من جديد ليكون شريكا تنفيذيا للصفقة ولتهدئة الجبهة مع إسرائيل كليا وتوجيه كل نيرانه الأيديولوجية والعسكرية نحو الشعب السوري, مستنسخة تجربتها مع المجلس الأعلى وحزب الدعوة العراقيين في مشروع واشنطن لاحتلال العراق وتقاسمه معها.
" حماس هي الخاصرة الهشة اليوم، حتى وإن بقي بعض الخطاب الإعلامي لإيران يحاول استغلال العلاقة معها لمغازلة الجمهور العربي, إلا أن تصفيتها في داخل وجدان إيران ضمن ما ستقدمه في فواتير الصفقة الكبرى " |
إذن الخاصرة الهشة اليوم هي حماس التي وإن بقي بعض الخطاب الإعلامي لإيران يحاول استغلال العلاقة معها لأغراض لوجستية تتمسك بما تبقى من مغازلة الجمهور العربي, إلا أن تصفية حماس في داخل وجدان إيران القوة الطائفية الإقليمية الجموح باتت في سلة ما تقدمه إيران في فواتير الصفقة الكبرى.
ومع حرب الفريق السيسي الإعلامية والسياسية على غزة والشعب الفلسطيني وشعوره بأن قيادة هذه الحملة تمثل بيضة القبان له أمام تل أبيب وواشنطن وكل المعسكر الغربي ووجود قاعدة سياسية من جبهة الإنقاذ تدعم توجهه فضلا عن هستيريا الإعلام المناهض للفلسطينيين, فإن هذا المشهد مهيأ أمام ضغط تل أبيب لتحويل أحد مسارات الصفقة الدولية لحرب عسكرية على غزة، وهو ما تدعمه وتكاد تصرح به دول المحور الخليجي المعادي لغزة.
وقد يُعزز هذا التوجه تعثر مشروع السيسي السياسي أمام العصيان والتمرد لثورة يناير/رابعة الذي لا يزال يُشكل حلقة قلق كبير له ولحلفائه, وهو ما يدفع السيسي لعمل مركزي عاصف, وبالتالي إدخال مصر في حرب مشتركة مع تل أبيب أو بعمل عسكري منفرد تغطيه إسرائيل لوجستيا وبغرفة عمليات موحدة لاقتحام غزة وإسقاط حماس.
وعلى هذا التدخل أو العمل العسكري تسوية ملف الداخل والملف الأكبر للإقليم وإعلان نظام الفريق السيسي كحليف تاريخي للمحورين, وهو ما يتطابق مع نزعة الفريق السيسي التي ظهرت في التسريبات المتعددة عنه.
ورغم هذه الحسابات التي ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، فإن حسابات اللعبة تبقى لها إطارات خارج فواتير سان بطرسبرغ, كما أن صمود الثورة السورية وثبات موقف حماس السياسي قبل العسكري في مساحة المناورة الصعبة وصعود حركة أمواج رابعة الثورية, كلها عناصر لا يمكن استبعادها من قراءة المشهد، وإمكانية صعود أحدها وارد في أي وقت, لتختلط أوراق اللعبة من جديد، وقد تسقط إرادة سان بطرسبرغ بإرادة الشعوب، أو عبر عودة ربيع الحرية من جديد.
المصدر:الجزيرة