" ليس ثمة مثال أفضل لعرض لا فائدة منه من القول بأن شيئا ما يطابق نفسه"
فيتغنشتاين
ما
يثيره مثل هذا السؤال: هل الذات شيء واحد أم كيان متعدد الأبعاد؟ هو مشكل
التوتر القائم في الطبيعة الإنسية بين الوحدة والكثرة وبين المطابقة
والمباينة وبين التفكك والتحقق وما يفتش عنه الفكر الحاذق هو المطالبة
بانجاز الذات لذاتها عن طريق حفظ الكيان واثبات الإنية وذلك بالتساءل عن
مشروعية هذا المطلب بالنسبة إلى كل إنسان ومحاولة رسم مجموعة حدود للقول
بالانية.
ويمكن طرح التساؤلات التالية: ما المقصود بالذات؟ وكيف تقدر الذات من إدراك الحقيقة التي تخصها؟
وهل يكفي معرفتها للحقيقة لكي تثبت وجودها؟ وماذا لو كانت مقولة الذات نفسها مجرد وهم خالص؟
وماهي
الطرق المناسبة لإنقاذ الذات الإنسانية من الضياع في العالم؟ وهل مظهرها
هو وجودها مع نفسها وتطابقها مع ذاتها؟ وكيف يكون وجودها مع الآخرين
ومباينتها لهم هو جوهرها؟
إن إنجاز المعالجة يتم عبر ما يلي من الخطوات المنهجية:
1- حميمية الذات العارفة:
"اذا كان ما يعلمه البشر هو ما يفعلونه فان كل معرفة للعالم الانساني تكون تفكرا في الذات" ( كريستوف فولف)
الكوجيتو
هو أمر مثبت بشكل بديهي وعن طريق الوعي بالذات والمعرفة الموضوعية بالعالم
الخارجي وذلك ببيان أن الكوجيتو هو اليقين الأول بالوجود عند ديكارت ومصدر الحقيقة والقيمة وأن الأنا المطلق هو الحقيقة الوحيدة عند فيخته وما عداه هو اللاأنا. لكن أليست التجربة الذاتية مجرد سجن وعزلة؟
التجربة
الذاتية هي الوجود الحقيقي وحتى إن كانت سجن وعزلة، فهي غير قابلة
للاختراق من طرف الآخر لاسيما وأنها سجن منيع له أسوار عالية وعزلة مفيدة
من أجل التوحد والاغتناء وبناء الذات في صمت وبشكل بطيء ومخملي.هكذا ينظر
الإنسان إلى تجربته نظرة فردوسية ويشيطن تجارب الآخرين ويقوده مثل هذا
الموقف إلى الوله الذاتي وتفضيل الخطاب المدحي الافتخاري للأنا والمحقر من
شأن المختلف والمغاير. فكيف تتحول هذه الحميمية مع الذات إلى عائق للتواصل
مع الغير؟
إن
الحميمية مع الذات تحصر الإنسان في وحدته وتؤدي به إلى التمركز حول الذات
والشعور بالأناوحدية حيث يعتبر نفسه هو المرجع ويحس بالفرح والسعادة أثناء
العزلة وهذا ما يجعله يبني جدار فاصلا بينه وغيره يمنعه من التواصل معهم
ويعوقه عن الوجود مع الآخرين. لعل أهم الأسباب التي أدت إلى مثل هذا الشعور
بالغربة هو علاقة الملكية التي أقامها الإنسان مع نفسه عوض أن تكون علاقة
وجود.
الأنا هنا هو بلا نوافذ ولا أبواب وهو شبيه بموناد لايبنتز.
فما المقصود ب" عالم الآخرين منغلق بقدر انغلاق عالمي أمامهم" ؟
إن
لكل إنسان عالمه الخاص بع والتجربة الذاتية لا تخص جميع الناس بل لكل فرد
تجربته الخاصة التي تضع حاجزا أمام الآخر. هناك انغلاق متبادل بين الأنا
والآخر سببه وهم التأسيس الذاتي وإقصاء الغيرية ورفض الانفتاح من الطرفين
على بعضهما البعض، فبقدر ما يستبعد الآخر الأنا يستبعد الأنا الآخر وبقدر
ما ينفتح على الخارج يكون هذا الأخير متفاعلا ايجابيا معه . هنا يمكن أن
نستحضر قولة أدغار موران:" الذات مفتوحة ومغلقة في الآن نفسه".
لكن هل تدفع تجربة الألم إلى التقوقع على النفس أم إلى انفتاح الأنا على الغير؟
أهم
تجربة تدفع الأنا إلى الانفتاح على الغير هي تجربة الألم لأنها تشعر
الإنسان بضعفه وتناهيه وحاجته الوجودية إلى وجود الآخر إلى جانبه من أجل
مساعدته ومشاركته ما يعانيه. بل إن الألم يدفع الناس إلى الوعي بأهمية
التكاتف والتعاطف ولاجدوى الانفصال وعطالة التعالي. إن تجربة الألم تجربة
قاسية ولا يمكن للإنسان أن يواجهها لوحده ولذلك يطلب نجدة الآخر من أجل
التكتل معه واكتساب وسائل القوة والمنعة منه والاستفادة من خبرته في هذا
المجال. ولا يتم ذلك إلا عبر تبني نظرة فردوسية للغير وناقدة للوله بالذات
ومشيطنة للأناوحدية. وهل يؤدي إقرار فشل عملية التواصل بين الذوات وبين
العين والغير إلى القول بتبعية الأنا إلى العالم الخارجي؟
2- تفكك الذات :
" الانسان ككائن من أجل الموت عاش منذ الأزل في أفق نهايته الطبيعية" (يورغن هابرماس)
يمكن
التفطن إلى أن الكوجيتو فكرة متصدعة الى عدة مكونات وأن الجسد هو قوام
الوجود ويمكن رصد زيف الوعي وخداع اللغة للفكر والاعتراف بأن الوجود
الاجتماعي والاقتصادي هو الذي يحدد الكينونة وليس الكينونة هي التي تحدد
الوجود الاجتماعي للأفراد.
من البين إذن أن
الإنية ليست معطى وجاهز وحقيقة بديهية يستطيع المرء إثباتها بمجرد تحصيل
المعرفة والارتقاء في سلم الوجود وامتلاك درجة من الوعي بل هي مطلب إشكالي
وهدف مستعصي وتجربة مضنية يتخللها الوهم والخيال وتتراوح بين الجسد والعالم
والأغيار.
من
هذا المنطلق يجوز لنا نقدها وتنسيبها من جهة علاقتها الانعزالية بالعالم
والمتعالية على الجسد والمقصية للغيرية وتمحيص النظر بشأنها من أجل تبين
الأسباب التي توقعها في ضرب من الأنانة ورسم الحدود التي تفصل بين ماهو
زائف وماهو مقبول منها. فماهي حدود القول بالانية؟
يمكن رسم عدة حدود للانية كما يلي:
- حد تجريبي حسي مع هيوم حيث يبرز العقل كصفحة بيضاء وتستمد جميع المعارف من الخبرة الحسية وتكون الذات مجرد وهم.
- حد تاريخي مع ماركس حيث تكون الإنية خاضعة للشروط المادية التي يفرضها المجتمع على الفرد من الناحية الاقتصادية والسياسية والثقافية.
- حد جنيالوجي مع نيتشه حيث تكون الإنية خاضعة لصوت الأهواء وسلطة اللغة وتحت سلطة غرائز الجسد الذي يعد مقام الوجود والعقل الأكبر.
- حد نفسي مع فرويد حيث تكون الإنية الواعية مجرد قشرة خارجية للذات التي يسكنها الآخر اللاواعي.
- حد
وجوداني تاريخاني مع هيدغر يكشف عن تناهي الذات البشرية وخضوعها لوطأة
اليومي وتبعية الدازاين للهم وانزعاجها من حدثية العالم وعدمية الوجود.
- حد
أركيولوجي مع فوكو حيث يكون الإنسان بنية لغوية متعالية على التاريخ وكتلة
من التفاعلات الرمزية بلا ذات خاضعة لميكروفيزياء السلطة وللعبة الرغبة.
- حد
غراماتولوجي مع دريدا حيث تقع الذات ضحية تمركز صوتي وعرقي ولوغوسي يغلب
القراءة على الكتابة والمؤلف على الأثر والأصل الذي لا أصل له على الهوامش
والملاحق.
- حد
اختلافي فارقي مع جيل دولوز حيث يوجد فرق بين الكائن والكينونة ويخضع
الإنسان إلى الصورة الدغمائية للتفكير ويفضل التكرار والتطابق على الاختلاف
والتنوع.
لكن هل تقف هذه الحدود حجرة عثرة أمام بناء الذات لذاتها على أسس جديدة؟
3- إعادة بناء الذات:
" أن أكون مصادقا لنفسي ولطريقة وجودي الخاصة واذا لم أكن كذلك فإنني أفقد هدف حياتي وأفقد ما يعنيه أن أمون أنسانا بالنسبة اليّ" ( تشارلز تايلور)
يمكن
بناء كوجيتو مركب وإعادة الاعتبار إلى الذات التعقلية وذلك بالاعتماد على
الصداقة والتأويل والفهم لأن الوجود الجدير بالفهم هو اللغة كما يقول
غادامير ولأن الإنسان كائن يتميز بالقدرة على فهم نفسه والعالم المحيط به
والآخر الانساني مثل ماهو الأمر عند تشارلز تايلور. لكن ماهي الأسس التي
تقوم عليها الصداقة الانسانية؟
لا تقوم الصداقة على العاطفة والرغبة لأن الصداقة قيمة ثابتة وواجب عقلي يحترم لذاته بينما العاطفة متبدلة وقد تنقلب إلى نقيضها والرغبة لا يمكن تحصيلها وهي بطبعها لا متناهية.
لا
تقوم الصداقة أيضا على الشهرة والمصلحة لأن الصداقة غاية في حد ذاتها وهدف
أسمى بينما الشهرة هي خير جزئي والمصلحة وسيلة لتحقيق منافع ظرفية.
إن الصداقة التي تقوم على العاطفة والرغبة من جهة وعلى الشهرة والمصلحة من جهة أخرى هي صداقة زائلة ومجرد تقارب مؤقت وعلاقة عرضية.
تقوم
الصداقة على الفضيلة الأخلاقية والمحبة بالمعنى الانساني للكلمة لأنها
صداقة دائمة ذات قيمة تواصلية بين الذوات تجدل الصلة بين العين والغير، زد
على ذلك هي واجب يلزم أن يحترمه كل الإنسان حتى وان يعلم أنه صعب التحقيق.
ما
نراهن عليه هو التمييز بين الوجود الزائف للذات وما تعاني فيه من انبتات
وحصار الزمان والمكان والوجود الأصيل والأشرف وما يتيحه من إمكانيات حياة
تساعدها على بلوغ مرتبة عين الذات.
ما نخلص إليه هو أن الذات لها تاريخ وتمر بعدة مراحل أثناء بحثها عن ذاتها وتقطع السيرورات الآتية:
1- القدرة على التأسيس الذاتي.
2- الاغتراب في الآخر والعالم واكتشاف الأوهام.
3- العودة إلى الذات والتصالح معها عبر وساطة الأغيار.
ننتهي
بالبحث عن هوية سردية كما يرى بول ريكور تنسج فوق جسور رمزية وأنظمة تواصل
وتقصد التأليف بين الوحدة والكثرة وبين الإنية والغيرية.
لكن ماهي المفارقة التي يثيرها مطلب التواصل بين الأنا والآخر؟
المفارقة
التي يثيرها مطلب التواصل هي الإنسان كائن موجود من أجل التواصل ولكنه
يعيش اللاتواصل ورغم ذلك يتمسك بهذا المطلب، فما الفائدة من الإصرار على
التواصل إذا كان ذلك مجرد رغبة غير قابلة للإشباع؟
ولعل خير ما يختتم به ويكون أفقا للتفكير مستقبلا هو هذا المشكل: هل الذات حقيقة أم وهم ؟
كاتب فلسفي
الإثنين أكتوبر 22, 2012 3:00 pm من طرف نابغة