يقدم المفكر الاجتماعي الفرنسي آلن تورين في كتابه "براديغما جديدة لفهم عالم اليوم" مقاربة مهمة وربما تكون فريدة، فهو يرى أن المجتمعات والحركات الاجتماعية تمضي إلى الزوال، أو هي تتغير تغيّرا جوهريا، لتفسح المجال للذات الفاعلة والحركات الثقافية، لتستوعب عالم اليوم المتشكل حول الشبكية والعولمة، هكذا أيضا يجب برأيه أن تخلي سوسيولوجيا الأنساق المكان لسوسيولوجيا الفاعلين والذوات الفاعلة. وقد يبدو ذلك صعب التقبل على الاجتماعويين، لكن لا مناص لنا نحن الخارجين من مرحلة تاريخية طويلة سيطرت عليها فكرة المجتمع من التخلي عن أداة تحليل فقدت قوتها ظاهريا. إننا نعيش نهاية التصور الاجتماعي، وندخل في قطيعة تشبه تلك التي تشكلت قبل قرون خلت، عندما نهضت المجتمعات بديلا تنظيميا للمؤسسات الدينية والإقطاعية، وأنشأت ديمقراطيات وأنظمة سياسية كانت تبدو في ذلك الحين خيالا متطرفا!
في هذه الديمقراطيات صرفت المجتمعات نظرها عن الأفراد، لقد أحبت الفكر والعلم لكنها نفرت من الضمير، إذ كانت ترى فيه سمة الدين الذي يمارس تأثيرا سلبيا على النساء بخاصة، وقد جاءت مناهج التعليم الرسمي مطابقة للصورة التي تريد هذه المجتمعات أن تكونها عن نفسها، حيث كان يفترض بالمدرسة أن تنقل المعارف وتنشئ العقل وتفرض الانضباط، وتحجب الاختلافات القائمة بين الأفراد وراء ستار النظام الموحد؛ أي أن تخضع الجميع للحياة والتفكير اللذين يضمنان الإنتاج ومكافأة النخبة. كانت الفردية ضريبة لحضارة الصناعة، لكنها اليوم تبدو فضيلة أو هي عنوان "الشبكية".
لكننا في هذه المرحلة الانتقالية، نبدو في مواجهة مع مؤسسات تبدو في نظر نفسها وكثير من النّاس راسخة مهيمنة، وتبدو من وجهة نطر "الشبكيين" آيلة للسقوط، المدارس التي أنشئت لتلبية احتياجات المجتمع أكثر منها لتلبية حاجات التلاميذ، والجامعات التي أنشأتها المؤسسات الدينية والنقابات المهنية، تبدو موضع إعادة نظر جذرية، لأن المجتمعات والمؤسسات الدينية والنقابات والحركات الاجتماعية تتلاشى.
والقوميات التي صعدت مصاحبة للحداثة والديمقراطية والمجتمعات تحولت إلى أداة هدم داخلي، كما لو أن الحداثة أنتجت نقيضها، وصارت عبئا على نفسها كما هي بطبيعة الحال عبء على الاعتماد المتبادل الذي تقتضيه العولمة اليوم. وتتشكل مجتمعات وقيم جديدة حول الشبكية، تبدو فيها الفردانية سائدة ومستقلة عن كل بيئة اجتماعية، لكنها "زوالية" مصحوبة بآلام وصراعات مخيفة، وتبدو حتى من وجهة نظر المتفائلين بها لا تأتي بديلا إيجابيا، وليست بطبيعة الحال المخلص المنتظر، رغم كل وعودها القادمة.
تتحول اليوم دول ومجتمعات كلها تقريبا إلى متسولين يعتمدون على الحماية والمساعدات الخارجية، وتختفي أعمال ومؤسسات بالجملة لتخلف أعدادا كبيرة من المهمشين، ويمتنع العمل على كثيرين، ويفقدون المبرر الأساسي لحياتهم، وأصعب من ذلك كله ما يبدو من انفكاك بين الاقتصاد والعمال، لم تعد فئات واسعة من الأعمال يحتاجها المنتجون الجدد. يقول تورين: لقد دخلنا كلنا المعبر الذي يقود من مجتمع مؤسس على ذاته إلى توليد الذات انطلاقا من الأفراد بمساعدة مؤسسات أدركها التحول والتغيير، وهذا هو معنى نهاية الاجتماعي. وحين ننظر إلى اللاجئين الذين هجرتهم الحروب ومخيماتهم، حيث يتغلغل العنف والخوف والموت في كل مكان. إن الأعمال التي تتكون في ظل أوضاع كهذه تنتمي هي أيضا إلى عالم الفراغ الاجتماعي، حيث يكاد يكون العمل مستحيلا، والموت الذي يتم إنزاله بالعدو كما بالنفس هو الجواب الأكثر ملاءمة لظروف التفكك والتهميش الاجتماعيين.
ويذكر تورين مثالا معبرا، .. سأل باحث اجتماعي شابا يفتقر إلى عمل ثابت، ويمضي متنقلا من تدريب مهني إلى آخر ما الفئة الاجتماعية التي تكرهها أكثر؟ فأجاب: البوليس أولا، ثم المدرسون والعاملون الاجتماعيون، وكان ذلك مستغربا بالنسبة إلى الباحث، ففسر الشاب إجابته بالقول لأنهم يدعوننا إلى الاندماج في مجتمع مفكك الأوصال.
كيف ستحدد المجتمعات دورها وتنشئ القيم والاتجاهات والأفكار السياسية والاقتصادية في ظل صعود الفردية الذي تبشر به الشبكية؟ الحال أن المجتمعات تعرضت للإضعاف والتفكيك بفعل تغول السلطة والشركات والحروب، ولم تعد تملك السيادة التي بشر بها فولتير وتوماس هوبز كلا من وجهة نظره، ذلك أنهما رغم اختلافهما الكبير اتفقا على أن المجتمعات تحدد الأهداف السياسية واستخدام الموارد الاقتصادية وتنشئة الفاعلين الاجتماعيين ومعاقبة المنحرفين والخارجين على القانون.
لكن الدولة التي تغولت على المجتمعات وألحقتها بها تتعرض هي أيضا للتغول والتفكيك والبيع والشراء، تسلطت على الأنظمة السياسية والتشريعات جماعات من المرابين والمجهولين والجائلين والقراصنة. والكثير من المتسلطين الجدد ليسوا مواطنين في الدولة التي يتسلطون عليها، صارت الهيمنة على السياسات والمؤسسات الوطنية بما فيه الموانئ والمطارات شركات وشخصيات أجنبية غير مرئية وغير معروفة تماما، حتى الانتخابات الأمريكية أصبحت عرضة لتأثير واختراق هذه الشركات الجائلة!
وكما أن الجديد لا يصنع من الجديد، بل من القديم كما يقول آلن تورين؛ فقد تشكلت الحداثة بفعل مكونات لا اجتماعية فرضت على المجتمع الخضوع لمبادئ أو قيم ليست اجتماعية؛ الحريات والحقوق الفردية، والعقلانية الاجتماعية والأخلاقية، ويبدو ذلك وكأن المجتمعات التي أنتجت هذه الفردية وأدخلتها في التنشئة الاجتماعية تعمل ضد مبادئها المفترضة في تنظيم الناس وتشكيلهم وفق مبادئ وقيم جماعية شاملة، كما يتعارض أيضا مع مبدأ وحي إلهي لتنظيم المجتمعات ووجود سلطة روحية تهيمن على السلطة السياسية الزمنية. لكن تورين يقرّ أيضا أن هذا الوصف أصبح تاريخيا، ولم تعد مجدية الحلول التقليدية والمجربة لمواجهة التحولات الكبرى الجارية وتحدياتها، فقد تكيفت الحضارة والمجتمعات الصناعية وفق متواليات معقدة تبدو متناقضة، من الجدل بين المنفعة والحقوق المبادئ، ومن ثم التكيف مع أوضاع متقلبة وغير محددة وتخرج عن نطاق سيطرتنا؛ دون المساس بالفكر العقلاني والحقوق الإنسانية، أو الجدل الحر بين الحداثة والواقع القائم، ففي حاضر متفتت متغير يتغير أيضا معنى الحداثة، أو الجمع بين الفردية والخصوصية في الفكر والدين وأسلوب الحياة وبين التنظيم الاجتماعي والتعليمي الذي يتجاهل الفردية وتعدد الثقافات والخصوصيات.
لم يعد ذلك يصلح (يقول تورين)؛ فالمجتمع يتفتت مفسحا المجال لتقدم غير منضبط لقوى جديدة؛ هي قوى السوق والحرب والعنف من جهة، وقوى الحداثة المشكلة للعقلانية والحقوق الإنسانية الشاملة من جهة أخرى. وفي ذلك، فإنه يدعو إلى مقاطعة كل الأفكار المرتبطة بالدفاع عن النظام الاجتماعي الذي يستطيع أن يكون ويفرض قيما ومعايير وأشكال سلطة وأن يحدد أوضاعا وأدوارا، لأن الحداثة هي النقيض لخلق المجتمع ذاته. ويقول: هناك قوتان لا اجتماعيتان تظهران على أنقاض الأنظمة الاجتماعية؛ هما قوى السوق والعنف والحرب، وقوى الحقوق والعقل، ولم يعد تاريخنا يتحدد بوجهة سيره ونقطة وصوله المحتملة ولا بروح عصر أو شعب، بل بتصارع قوى طبيعية؛ هي قوى الأسواق والحروب والكوارث مع الحداثة، مع الذات الفاعلة.
وكما انفصلت المجتمعات عن المؤسسات الدينية لتنشئ الحضارة الصناعية، فإن الذات الفاعلة تنفصل في الحضارة الشبكية (سوف تنفصل) عن المجتمعات لأجل خدمة الحرية الخلاقة لكل فرد، ولتواجه العنف والهيمنة والاتجاهات السوقية والاستهلاكية متحررة من الانتماءات والقواعد المفروضة، ذلك أن قوى السوق والعنف التي أضعفت المجتمعات والدول أتاحت في الوقت نفسه للذات الفاعلة أن تعمل وتتحرك مستقلة بذاتها، وأن تكون أكثر قدرة وتأثيرا، بل وتستغني عن المجتمعات لتنشئ مجتمعات جديدة لا اجتماعية!
لكن كيف تتشكل الأخلاق والقيم في ظل هذا التغير الذي لم تعد فيه الأديان ولا المجتمعات منشئة أو ضامنة للأخلاق والقيم والتنشئة الاجتماعية والضبط والتنظيم الاجتماعي؟
تشكلت المنظومة الأخلاقية السائدة (كانت سائدة) بناء على مصالح المجتمعات والدول، ففي الشجاعة والكرم تحمي مواردها وسياساتها وأهدافها، لم تكن هذه القلاع والهياكل وكذا الأسواق والدفاع والأمن والقيادات الاجتماعية لتعمل لولا منظومات الشجاعة والكرم، هكذا يؤشر أيضا بصعود قيم الثقة والإتقان كرأسمال اجتماعي يحمي المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة بصعود الفردية كمحرك للأسواق والقيم والسياسة؛ ففي الأعمال والعلاقات المتشكلة عبر الشبكة أو المستمدة من اتجاهات وتأثير الفرد؛ لا يحمي الأسواق والمصالح الناشئة سوى الثقة والإتقان، فالفرد الذي ينشئ عبر الشبكة أو بذاته مصالحه ويقدم نفسه إلى الآخرين، ويعمل ويبيع ويشتري لا يجد ما يديم هذه المنظومة الهشة أو غير المرئية سوى الثقة والإتقان، والأسواق والمؤسسات التي تقدم نفسها اليوم عبر الشبكة تجد نفسها متجهة إلى الفرد، كل فرد على حدة، لتنال ثقته.
وبالطبع، لم تكن منظومة الثقة والإتقان غائبة عن الأسواق والأعمال كما أن الشجاعة والكرم لن تغيب أيضا في حضارة الفرد ومجتمعاته، لكن يتغير توزيعها وأهميتها الاقتصادية والاجتماعية، بل وتتغير معانيها وتطبيقاتها أيضا؛ فالكرم يتجلى اليوم أكثر ما يكون في العمل التطوعي والخدمة العامة وتبادل المعرفة والمهارات والتعاون المهني والاجتماعي.
عندما صعدت المجتمعات في مرحلة الصناعة بديلا للمؤسسات الدينية والإقطاعية كان متوقعا أن تتفكك المنظومة الدينية والأخلاقية الحامية للقيم والمجتمعات والأعمال، لكنها (المجتمعات) كانت بديلا كفؤا وفاعلا، ولم ينحسر الدين كما لم تتلاشَ الأخلاق، وفي صعود الفردية بديلا للمجتمعات والدولة، فإن الضمير هو الضامن والبديل المتماسك والمتوقع ليعيد تنظيم وتطبيق القيم والأخلاق على النحو الذي تواصل به الإنسانية خط سيرها الطبيعي في الارتقاء والتطور، ولا يخلو المسار بالطبع من المشكلات والأزمات والخسائر، لكن يمكن الاستدلال والملاحظة كيف صعدت على نحو غير مسبوق قيم حقوق الإنسان والحريات والبيئة والعالمية والمشاعية المعرفية، وكيف تتزايد فرص النساء والفئات الخاصة التي كانت مهمشة ومستغلة في الأعمال والمواقع والمساواة والتأثير والتعبير عن ذاتها.
وعلى الرغم مما في ذلك من مساوئ وسلبيات تغري المتشائمين، فإنها بيئة اجتماعية واقتصادية تؤسس لمرحلة مليئة بالوعود والإيجابيات؛ فالمواطن الذي يواجه اليوم متطلبات الحرية والحياة الكريمة من غير دعم أو مشاركة من أحزاب سياسية أو منظمات اجتماعية أو مؤسسات حكومية، لا يجد مفرّا من أن يؤدي هو بذاته ما كانت تؤديه الأحزاب والمنظمات والنقابات والحكومات، ويبحث بطبيعة الحال عن الفرص الجديدة الممكنة.
والأفراد الذين يعلمون أنفسهم معتمدين على الشبكة أو يحلون مشكلات كثيرة كانت تحتاج إلى تكاليف ومهارات معقدة مثل الصيانة والتصميم والبحث عن المعرفة والمهارات والسلع والخدمات والتسويق والعمل، ومن الطريف جدا أن قوى التقدم والريادة في المرحلة السابقة أصبحت رجعية؛ إذ يشعر المتخصصون والمهنيون اليوم بالانزعاج والمنافسة من العمل الفردي المستقل عن المؤسسات والمتخصصين في العمل والتعليم والتداوي والكتابة والنشر والإفتاء والاستشارات والتفاعل الاجتماعي والسياسي، والأعمال الفنية والإعلامية الفردية والمستقلة، ورغم صحة كثير من الأدلة والشواهد التي يقدمونها على الضعف والأخطاء في محاولات الأفراد مواجهة احتياجاتهم مستقلين، فإنها أيضا تفيض بالعجرفة والشعور بالتهديد والانحسار؛ انحسار كثير من المهن والأعمال والمؤسسات والمنظمات والجماعات، ومعها بطبيعة الحال قيم وأفكار ونظريات وتجارب وتراث هائل متراكم من الإنتاج الفكري والعلمي والفني والأدبي والمؤسسي.
وبطبيعة الحال، وكما يؤكد التاريخ، فإن نهاية مرحلة وابتداء مرحلة جديدة تصحبها انهيارات وكوارث، فالقوى الإيجابية الفاعلة ليست جاهزة لتحل مكان المنظومات السابقة التي هيمنت على الحياة والأعمال والأفكار والقيم، هكذا ففي انسحاب الدولة والمجتمع تصعد العشائر والطوائف والجماعات الدينية وجماعات الإتاوات، وتكون الصراعات الأهلية والدينية، كما تنشأ تحالفات ضدية بين الجماعات والأفراد والشركات، ويمكن في هذا السياق ملاحظة كثير من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية الجديدة حولنا، مثل الفوضى والاكتئاب والانتحار والاتجار بالبشر والسلوك غير الاجتماعي، لكن يمكن أيضا في هذا الركام ملاحظة كثير من الظواهر الإيجابية الجديدة، مثل الأعمال والخدمات الجديدة في النقل والعمل والتعليم والتأثير، والجدالات والتفاعلات الشبكية حول القضايا والأفكار الدينية والوطنية والثقافية والتواصل الاجتماعي وتبادل المهارات والمعارف بيسر وفاعلية.
الفرد؛ كل فرد تقريبا، يمتلك اليوم من الكتب والأفلام والموسيقى والدراسات والأوراق العلمية والوثائق والمخطوطات والمحاضرات وورش العمل والتدريب والقدرة على الوصول والتواصل مع وسائل الإعلام والجامعات ومراكز الدراسات ما يساوي إمكانيات الدول والمؤسسات الكبرى، ومؤكد أن هذه الموارد الهائلة المتاحة للفرد تجعل منه قوة جديدة مؤثرة تتجاوز السلطات والمجتمعات والشركات.