أفكار بيار كلاستر لمغريّة حقّا حيث يتعاظم سحرها من خلال شفافية أسلوب الكاتب. إلاّ أنّه ينبغي السّعي إلى عدم الرّضوخ لها، فحسب وجهة نظرنا إذا ما انسقنا طوعا معه فيما يتعلّق بالنقطة الأخيرة ـ تلك التي تتعلّق بالصلات بين الرجل والمرأة ـ فإنّ ذلك سيؤدّي إلى جملة من المآخذ:
ويتعلق الأوّل بالنظام الاستكشافيّ، إذ تقوم نظريّات بيار كلاستر على اتنوغرافيا هنود الأمازون. فهل من الممكن تعميمُ نفس الوضع على وضع المجتمعات التقليديّة مثلما يفعل ذلك بيار كلاستر بشكل دائم؟ إنّ بحوثا حديثة العهد قد أنجزت في المجال الإفريقي1 تقودنا إلى الاعتقاد بأنّ نظريات بيار كلاستر تحتاج إلى البرهنة في كثير من المواطن. إلاّ أنّه ـ وكما نعلم2 ـ فإنّ كلّ المجتمعات التقليديّة لا تظهر نزوعا واضحا إلى الحرب والعنف، ولتفسير هذه الاختلافات في التدرّج فنحن بحاجة إلى نظريّة أكثر دقّة.
أمّا الاعتراضات الأخرى فإنّها تتعلّق بالمشكل الأساسي للدولة. إذ يمكن أن نتساءل أوّلا إن كانت توجد بين الدولة والحرب مفارقة جذريّة. ومثلما تبيّن ذلك أبحاث حديثة العهد3 فإنّ الحرب ظاهرة عامّة ومشتركة في المجتمعات التاريخيّة والقائمة على الدّولة(societies étatiques)أو في غير القائمة عليها. فلا يمكن أن نجعل من الحرب مبدأ ثابتا لولادتها، ففي بعض الحالات تظهر الدّولة خارج أيّ سياق حربيّ(المكسيك قبل كريستوف كولومب ونشأة المدينة الرّومانيّة القديمة)، وفي حالات أخرى فإنّ الحرب عامل محددّ لنموّها(دور حرب المائة سنة في تشكّل الدّولة والأمّة الفرنسيّة معلوم جدّا). إنّ الدّولة لا تظهر لنا بطّبيعتها أقلّ حربيّة أو أكثر من المجتمع التقليديّ. إذ ينبغي التمييز بيْن صنفيْن من النّزاعات:
داخلي(للمحافظة على النظام الاجتماعي). وخارجي(الحرب).
فعلى المستوى الدّاخلي؛ إذا صادرت الدّولة حقّ الحرب، فإنّ المجتمع التقليدي سيسعى جاهدا لتجنّبها فعلا، وفي أسوأ الحالات إلى الحدّ4 منها بابتكار إجراءات سلميّة لتسويّة النّزاعات أو بوضع حواجز على الثأر.
أمّا على المستوى الخارجي؛ فهناك العديد من الأمثلة تبيّن أنّ الدّول يمكن أن تظهر كذلك عدوانيّة أكثر من المجتمعات التقليديّة، إذ يبيّن تاريخ تكوّن الدّول الأوروبيّة ذلك بشكل جيّد.
وخلاصة القول، إذا كانت الحرب بالنسبة إلى المجتمعات التقليديّة نتاجا لمشروعها من أجل الوحدة الاجتماعيّة، فإنّ نظير هذا التوجّه في سلوك الدّول واضح دون شك. ففي كثير من الحالات تستخدم الدّولة الحرب للمحافظة على تحقيق النّظام الاجتماعي المهدّد بعوامل داخليّة.
كما يُعترض على أنّ النّظام الاجتماعي للمجتمع التقليدي هو نقيض نظام مجتمع الدّولة، فهو غير منقسم إلّا أنّ هذه الملاحظة لا تغيّر شيْئا من الدّور الذي تقوم به الحرب، ففي كلا الحالتيْن يمكن أن تصلح لتحقيق نظام اجتماعيّ موجود مهما كان شكله.
وفي الختام فإنّ الحرب لا يمكن أن تكون أمرا حتميّا. فهي لم تظهر إلاّ في العصر الحجري ولم تتعلّق إلاّ بفترة قصيرة من التّاريخ البشري. ثمّ إذا كان الإنسان قد استطاع أن ينجز تقدّما هائلا في مراقبة محيطه المادّيّ، أيكون من غير المعقول أن يتطلّع يوما ما لحذف الحرب أو على الأقلّ الحدّ منها أو تحويلها مثلا إلى نزاعات طقوسيّة؟ والواقع أنّ المجتمعات ـ كما سنرى ـ لا تعطي قيمة للعنف بقدر ما تميل إلى التفكير فيه.
نوربار رولاند: الانتروبولوجيا القانونيّة.
الثلاثاء أكتوبر 27, 2009 11:25 am من طرف ابو مروان